التوحيد الموسع لكتاب التوحيد
الدرس ( 11 )
قوله تعالى :
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] الجزء الثاني
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]
الواو عاطفة ، يعني : وأوصى بالوالدين إحسانا .
من هما الوالدان ؟
هما الأب والأم ، وإن علوا فيدخل فيه الأجداد والجدات .
والإحسان : هو بذل المعروف ، ولم يبين هنا مَن مِن الوالدين أحق بالإحسان ، أو من من الوالدين يجب أن يزاد له في الإحسان
ويبين ذلك في موقع آخر :
قال تعالى : {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } [الأحقاف: 15] وقال عز وجل في سورة لقمان : {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان: 14] فدلت هاتان الآيتان على أن الأم يزاد لها في الإحسان أكثر من الأب ، ويؤكد ذلك :
سؤال ذلك الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحق الناس بصحبتي ؟
قال : ” أمك ” ثلاث مرات ، ثم قال : ” أبوك ” )
وكلما كان الوالد أقرب كلما كان الإحسان فيه أكثر ، فالجد القريب الإحسان فيه أكثر من الجد البعيد ، وكذلك الشأن في الجدة القريبة مع الجدة البعيدة .
وقوله تعالى : { إِحْسَاناً }
مطلق ، ولم يقيِّد ، وعندنا في الأصول [ أن النكرة في سياق الإثبات تفيد الإطلاق ]
فإن كان سياق النص القرآني أو النبوي سياق إثبات وفيه نكرة ، فهذه النكرة تفيد الإطلاق .
فأطلق هنا كلمة ” الإحسان “ ليعم أي نوع من أنواع الإحسان ، يعني لتحسن إليهما بأي وجه من وجوه الإحسان القولي أو الفعلي ، القليل أو الكثير .
ثم قال رحمه الله : ( الآيةَ ) أو ( الآيةِ ) ويصح الوجهان .
يعني : أكمل الآيةَ ، أو إلى آخر الآية .
ما تتمتها ؟
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24]
فقوله : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ }
أصلها : إن – ما ، مفصولة ، فعندنا كلمة ( إن ) وكلمة ( ما )
فأدغمت ( ما ) في ( إن ) الشرطية
وهي ( ما ) زائدة ، والمقرر في علم البلاغة : [ أن الحروف الزائدة تفيد التوكيد ]
فهنا أفادت التوكيد
قال تعالى : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً } جواب الشرط { فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } [الأنفال: 58]
قال تعالى : {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد: 40]
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } جواب الشرط { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا }
وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( رغم أنف امرئ أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة )
وفي هذا الأسلوب أسلوب ترحم وتلطف ولين ورقة ورحمة ، لأنه قال : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ }
و” عند ” تفيد القرب ، ثم قال : ” الكبر “
وحالة الكبر حالة عطف ورحمة للبعيد ، فما ظنك بالقريب ، فما ظنك بمن جعله الله عز وجل سبباً في وجودك ، فلو رأيت كبيراً في السن وهو بعيد عنك أو ربما لم تره من ذي قبل لأشفقت عليه ، فما ظنك بمن هو قريب بل من هو أقرب وأقرب .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : ( من إجلال الله عز وجل إكرام ذي الشيبة المسلم )
فيحص البار بوالديه في هذه الحال على برهما وعلى دخول الجنة – كما قال عليه الصلاة والسلام – وعلى إجلال وتعظيم الله عز وجل، لأنهما يدخلان في ( ذي الشيبة المسلم ) .
لو قال قائل : حتى لو كانا كافرين يبرهما ؟
فالجواب : نعم ، حتى ولو كانا كافرين ، ويدل لذلك قوله عز وجل : {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]
دون ان يكون هناك خطر على دينك ، ولذا قال مرشداً إلى صحبة الأخيار {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [لقمان: 15]
ولما جاءت والدة أسماء قالت ( يا رسول الله ، إن أمي قد قدمت ، وهي راغبة ) يعني أن أصلها ، وهي مشركة ( فقال عليه الصلاة والسلام : صلي أمك )
ثم قال سبحانه وتعالى : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ }
{ أُفٍّ } اسم فعل مضارع بمعنى : ” اتضجر “
ومن قال لوالديه ” أف ” فإن فيه شبهاً في مقولته بمقولة بعض الكفار
، كما قال تعالى : {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف: 17]
قوله : { وَلَا تَنْهَرْهُمَا }
{ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } نهي عن الفعل القبيح .
فكما أن قوله : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] يشمل الإحسان القولي والفعلي ، كذلك كما قلنا [ الأمر بالشيء نهي عن ضده ]
فما ضده ؟ عدم الإحسان .
وذلك إما بالقول القبيح لقوله : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ }
أو بالفعل القبيح في قوله : { وَلَا تَنْهَرْهُمَا }
ولذا قال بعض المفسرين في قوله : { وَلَا تَنْهَرْهُمَا } أي لا تنفض يديك عليهما .
ومثل هذه الحال وهي حال ” الكبر ” حالة رغبة من الوالدين في الولد ، فلا يخيب الولد رجاء والديه ، ولاسيما في مثل هذا السن .
والدليل قول إبراهيم : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [إبراهيم: 39]
وزكريا عليه الصلاة والسلام ماذا قال ؟
قال : {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} إلى أن قال : {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا } [مريم: 5، 6]
قوله عز وجل : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ }
يُفهم منه أن ما كان أعظم من التأفيف يكون داخلاً في النهي بل أشد وذلك كالضرب مثلاً ، وهذا المفهوم هو ما يسمى عند الأصوليين بمفهوم ” الموافقة “
وذلك أن يكون المفهوم مثل المنطوق في الحكم أو أولى ، وحتى تتضح هذه المسألة لأنها من المسائل المهمة في أصول الفقه لفهم كتاب الله وفهم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم .
أقول إن المفهوم على نوعين :
النوع الأول : ” مفهوم المخالفة “
وأمثلته كثيرة ، ومن أمثلته : قول النبي صلى الله عليه وسلم : (في الغنم السائمة الزكاة )
( السائمة ) : هي التي ترعى في الصحراء ، فيفهم من هذا النص أن المعلوفة التي يعلفها صاحبها لا زكاة فيه .
هذا مفهوم المخالفة ، بحيث يخالف المفهوم المنطوق في الحكم .
ولهذا المفهوم – أعني مفهوم المخالفة – له موانع تمنعه من الاعتداد به ، وليس هذا المقام مقام ذكرها .
النوع الثاني : هو ” مفهوم الموافقة “
وهو نوعان : ” مفهوم موافقة يكون المفهوم مساويا للمنطوق “
مثاله : قول الله عز وجل في أموال اليتامى : {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [النساء: 2] فمن أكل أموال اليتيم فقد ارتكب جرما عظيما .
لو قال قائل : أنا لن آكل مال اليتيم وإنما ألبس لباسه ؟
فنقول : الحكم سواء .
النوع الثاني من أنواع مفهوم الموافقة : ” أن يكون المسكوت الذي هو المفهوم أولى بالحكم من المنطوق “
كما في هذه الآية : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } نهي عن التأفف ، يفهم منه أن ضرب الوالدين من باب أولى في هذا الحكم .
مثال آخر :
قول الله عز وجل : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]
لو عمل الإنسان وزن جبل من خير ألا يراه ؟
الجواب : من باب أولى أنه يراه .
{ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } نهي عن القول القبيح
{ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } نهي عن الفعل القبيح .
ثم قال عز وجل :
{ وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً{23} وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ }
لنربط بين هاتين الجملتين السابقتين : ما الجملتان السابقتان ؟
{ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ } نهي عن القول القبيح .
{ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } نهي عن الفعل القبيح .
ثم قال تعالى : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً }فهنا أمر بالقول الحسن
وقوله : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ }وهنا أمر بالفعل الحسن
وهذا يدل على القاعدة : [ أن النهي عن الشيء أمر بضده ]
فلما نهى عن القول القبيح أمر بالقول الحسن
ولما نهى عن الفعل القبيح أمر بالفعل الحسن
فقوله تعالى : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً }
يشمل أي وجه من وجوه القول الكريم ؛ لأنه هنا مطلق ، فلا يتقيد بصورة معينة .
ووصف القول بأنه كريم يدل على أن اللسان الحسن القول يوصف بالكرم ، فلا يقتصر الكرم على الفعل ، بل قد تكون كريما بقولك ، ولا أدل من قوله عليه الصلاة والسلام : ( اتق النار ولو بشق تمرة ، فإن لم تجد فبكلمة طيبة )
وقوله تعالى : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ }
الجناح ” : معروف عند الناس انه جناح الطير الذي له ريش ، ومن ثَم قال بعض العلماء : إن كلمة الجناح استعيرت عن اليد ، وهذا ما يسمى بـ” المجاز ” وهي مسألة مختلف فيها :
هل في القرآن مجاز ؟
ومثال المجاز : حتى تتضح هذه الصورة
لو قال رجل : ” رأيت أسداً في المعركة “
فهو لا يريد الأسد الحقيقي ، وإنما يريد الشجاع .
والصحيح الذي عليه المحققون – والوقت لا يسمع لذكر هذه المسألة لأنها مسألة أصولية – فالصحيح عند المحققين كشيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم ” أن القرآن لا مجاز فيه ” بل عن اللغة العربية لا مجاز فيها ، ومن ثم فلا يحسن عندهم أن يقال إن الكلام ينقسم إلى قسمين : “حقيقة ومجاز “
فالكلام عندهم : حقيقة فقط ، وما يرد من مثل هذا فإنما هو أسلوب من أساليب اللغة العربية ، لأن المقرر عند أهل اللغة : أن المجاز يجوز حذفه ، ومثل هذا لا يجوز ، فلا يجوز أن يكون في القرآن ما يجوز نفيه ، ولذا توصل نفاة صفات الله عز وجل إلى نفيها عن طريق المجاز .
مثلا : ( يد الله ) يقولون : ليس له يد ، وإنما اليد هنا بمعنى النعمة ، لم ؟
قالوا : لأنه يقال : ” فلان له عليّ يد بيضاء ” يعني ” نعمة “
ومن ثم فمثل قوله تعالى : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ }
أسلوب من أساليب اللغة العربية
والتعبير عن ” اليد ” بالجناح موجود في كتاب الله عز وجل :
قال عز وجل : {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ } [القصص: 32] جناحك يعني : يدك بدليل قوله : {اسْلُكْ يَدَكَ } [القصص: 32] .
قوله تعالى : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ }
أصلها الجناح الذليل ، فيجوز في اللغة العربية أن يضاف الموصوف إلى الصفة : ” جناح الذل ” يعني : ” الجناح الذليل “
كما لو قلت : ” مسجد الجامع ” أي : المسجد الجامع .
قال تعالى عن عذاب الكفار : { عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93] أي العذاب الهون ، الذي فيه الإهانة
وإنما عُبِّر ” باليد ” عن ” الجناح ” لأن الجناح بالنسبة إلى الطائر يعلو به ، فهذا الجناح الذي لك وترتفع به واجب عليك أن تخفضه لوالديك ، فيكون هذا الجناح ذليلاً لوالديك .
قال : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ }
من هنا للتعليل أي لرحمتهما ، فلماذا تخفض الجناح ؟ لرحمتهما .
قوله تعالى : { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا }
دعاء لهما بالرحمة ، وهذا يدل على أن أفضل ما يقدمه الولد لوالديه أن يدعو لهما ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام – كما عند مسلم : ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له )
ولذا قال شيخ الإسلام رحمه الله ، قال : إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل : ” أو ولد صالح يعمل له ” وإنما قال : ” أو ولد صالح يدعو له “
فمثلا الحج ، العمرة ، الصدقة ، ليجعلها الإنسان لنفسه ويدعو لوالديه ، هذا هو الأفضل .
قوله تعالى : { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا }
قوله : ربِّ ” يظهر والله أعلم أنه لم يقل : ” وقل اللهم ارحمهما ” من أجل أن يوقظ النفوس إلى أن الربوبية المطلقة الشاملة الكاملة له عز وجل ، وذلك لأن المخلوق قد يطلق عليه أنه ” رب” لكنه رب في حدود ضيقة .
ولذا لو قرأت ما بعدها : { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً }
ولا يفهم من قوله : { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا } ألا يدعو لنفسه ، بل إن السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه إذا دعا لأحد دعا لنفسه أولا ، ومصداق هذا في كتاب الله عز وجل عن أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، نوح عليه السلام ماذا قال في آخر سورة ” نوح ” {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28] قدَّم نفسه
إبراهيم عليه الصلاة والسلام من دعائه : {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [إبراهيم: 41]
التوجيه الرباني منه عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قال : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] قدَّم النبي عليه الصلاة والسلام ، فنفسك هي أحق النفوس التي يُقدم لها الخير .
قوله : {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 24]
قوله : ” كما ” : الكاف هنا تعليلية أي لتربيتهما لك في حال الصغر .
{ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا } لم ؟ لأنهما { رَبَّيَانِي صَغِيرًا }
سبحان الله هذا القرآن عظيم لمن تأمل تدبر يجد فيه العجب ، ماذا قال في الآية السابقة ؟
قال : {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} [الإسراء: 23] حال الكبر تشبه ماذا ؟
حال الصغر ، فالكبير الطاعن في السن بحاجة إلى رعاية شأنه كشأن الصغير ، وإذا كان كذلك فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( من صنع إليكم معروفا فكافئوه ) صنعوا إليك معروفا في صغرك فلتصنع إليهم هذا المعروف في كبرهما .
هنا لفتة ذكرها القرآن فيما يتعلق ببر الوالدين :
بعدها قال ،قال تعالى : {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25]
{ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } لكن من بين هذه الأشياء من يريد البر ، ومن يريد العقوق .
ولذا قال : { إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً }
قد يزل الإنسان ، وهو محل زلل في حق والديه ثم يعود ، فإذا عاد فإن الله عز وجل تواب ، أيضا قد يجتهد الولد – وهذه صورة موجودة في الواقع – قد يجتهد الولد في الإحسان إلى والديه إما الأم وإما الأب أو إلى كليهما ، ثم يقابَل بالسوء من والديه ، بل قد يكون هذا البر الحسن منه عندهما بمنزلة العقوق ، فجاءت هذه الآية تطمئن العبد ، مَن يريد العقوق ، ومن يريد البر ، ولذا في صحيح مسلم : ( جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني ، وأحسن إليهم ويسيئون إلي ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ ، فقال عليه الصلاة والسلام : إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملّ )
أي كأنك تذرو الرماد الحار في وجوههم ( ولا يزال لك عليهم من الله ظهير ) وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح ) يعني : المبغض ، ولذا قال عز وجل : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا } [فصلت: 34، 35] تحتاج إلى صبر ومصابرة ، شخص يسيئ إليك مقتضى طبيعة النفس البشرة أن تنتقم أو على الأقل ألا تقتص ، كونها تقابل الإساءة إحساناً فهذا شيء عظيم {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] ولذا يأتي الشيطان، جاءت الآية بعدها : {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36]
وقد أمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يدفع الإساءة بالإحسان ، قال تعالى في سورة المؤمنون : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96]
لو قال قائل : ما وجه إيراد الآية في هذا الباب؟
فنقول : إن وجه ومناسبة إيرادها لأنه عز وجل ذكر في أول آية {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ذكرَ الحكمة من خلق الجن والإنس وهي عبادته عز وجل ، ثم ذكر المؤلف رحمه الله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } ليبين أن الحكمة من إرسال الرسل هي الدعوة إلى عبادة الله عز وجل
ثم ذكر رحمه الله هذه الآية : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً }
لبيان أن توحيد الله وعبادته أعظم المأمورات ، ولذا قدمه على غيره {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ }
ثم ذكر بعدها حق الوالدين .