الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس ( 155)
حديث (إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولمسلم :
عن ابن عباس قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح :
ـــــــــــــــ
ولمسلم عن ابن عباس قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ” ولمسلم ” تحتاج إلى مراجعة لكني على ثقة بأنه ليس في مسلم ، وإنما هو في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجة
وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة وهو حديث صحيح
عن ابن عباس رضي الله عنها :
عبد الله بن عباس سبقت ترجمته في باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، لما أرسل عليه الصلاة والسلام معاذا إلى اليمن
قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إياكم والغلو )) :
ــــــــــــــــ
(( إياكم )) أداة تحذير بمعنى : احذروا
والغلو : ــــــــ هذه كلمة منصوبة على التحذير
وسيأتي كلام حول التحذير في فن النحو إن شاء الله تعالى
لكن ” الواو ” هل هي معطوفة على الفعل السابق لأن إياكم بمعنى : احذروا
فإن كانت معطوفة على ما سبق من الفعل الذي تضمنته أداة إياكم
فيكون المعنى : احذروا واحذروا الغلو ؟
وقالب بعض النحويين : إنه هناك فعلا مقدرا :
فيكون المعنى : احذروا واجتنبوا الغلو
والغلو : ــــــــ سبق إيضاح معناه ، وهو : مجاوزة الحد في الثناء إما مدحا وإما قدحا
(( إياكم والغلو ، فإنما )):
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفاء هنا ـــــــــــ فاء الاستئنافية لأن الكلام استؤنف
(( فإنما ))
إنما : أداة حصر تفيد إثبات الحكم للشيء وتنفيه عما سواه دفعة واحدة
(( فإنما أهلك )) :
ـــــــــــــــــــ
الهلاك هنا :
ما نوعه ؟.
أهلاك حسي أم هلاك معنوي ؟
الهلاك هنا يحتمل الأمرين :
يحتمل الهلاك الحسي
فمن غلا فهو عرضة لإهلاك الله له بعقوبة من عنده
ويحتمل أن يكون للهلاك المعنوي :
فإن الغلو يهلك دين الإنسان وإذا أهلك دين الإنسان ترتب عليه الهلاك الحسي
(( فإنما اهلك من كان قبلكم )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي من الأمم السالفة
ولذا صدر المصنف رحمه الله الباب بآية ، ما هي ؟
(( يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ))
وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، وقد سبقت هاتان الأمتان الأمة المحمدية ، وبهذا الغلو هلك أولئك
ففيه تحذير لهذه الأمة من أن تتبع سن من كان قبلها
ومن السنن التي كانت فيما سبق : ” الغلو ”
فالغلو في المدح والغلو في القدح كانا عند المم السابقة :
فإن النصارى غلت في عيسى مدحا
واليهود غلت في عيسى ذما
وسبق إيضاح هذا
ثم قال :
(( أهلك من كان قلبكم الغلو )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هنا فيه زيادة ألفاظ
والنبي من خصائصه ومزاياه على الأنبياء أنه أوتي جوامع الكلم ؟
فلماذا لم يقل :
إياكم والغلو فإنه أهلك من كان قبلكم ؟
فهنا أُتي بالإظهار في مقام الإضمار:
والأمثلة كثيرة ومرت معنا :
كقوله تعالى :
{مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ }
لم يقل :
فإن الله عدو له أو لهم فأظهر في مقام الإضمار
ومر معنا شيء من هذا
وهذا ما يسمى بالإطناب عند أهل البلاغة :
وهو أن يؤتى بكلمة زائدة في السياق لإفادة معنى آخر
ومن أوجه الإطناب عند البلاغيين :
” التكرار ” لإفادة التأكيد
في الآية التي ذكرتها ليس فيها تكرار
هنا فيه تكرار:
من باب : تأكيد الكلام على خطورة الغلو
فيكون الحديث في صدره وفي عجزه ذم للغلو ـ وتحذير من الغلو :
فإن في صدره قال :
إياكم ــــــ هذا تحذير من الغلو
وفي نهاية الحديث :
(( فإنما اهلك من كان قبلكم الغلو ))
والناظر في هذا الحديث يجد الأسلوب الرائع منه عليه الصلاة والسلام في دعوته إلى الله عز وجل
فإنه لما ذكر الحكم والتحذير بيّنت العاقبة حتى يقتنع المخاطب قناعة كاملة
فلم يقل : إياكم والغلو
وإنما بيَّن نتائج الغلو
ما نتائجه ؟
(( فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ))
كل هذا من أجل تأكيد وتثبيت هذا الحكم في قلوب المخاطبين
ومن ثم : تأتينا مسألة :
الحصر هنا ما نوعه ؟
أو حصر حقيقي أم حصر إضافي نسبي ؟
أهلاك الناس بالغلو فقط أم أن من قبلنا هلكوا بأشياء غير الغلو ؟
هلكوا بأشياء
ولذا قال عليه الصلاة والسلام – كما في الصحيحين – لما شفع أسامة في تلك المرأة المخزومية التي سرقت وهي ذات شرف قال:
(( أتشفع في حد من حدود الله ؟! ، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ))
فأخبر عليه الصلاة والسلام أنهم هلكوا حينما فرقوا في الحكم الشرعي بين الشريف وبين الوضيع
فيكون هذا الحصر: حصرا نسبيا إضافيا
والحصر الإضافي إذا قلنا إنه حصر إضافي :
ما نوع هذا الحصر الإضافي ؟
لأن أنواع الحصر الإضافي عد أهل البلاغة ثلاثة أنواع :
ـــ حصر إفراد
ـــ حصر قلب
ــ حصر تعيين
النوع الأول :
وهو حصر الإفراد :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هو أن المخاطب يعتقد المشاركة في هذا الحكم :
كما لو قلنا مثلا فيمن كان عنده صديقان : أحمد ، ومحمد فاعتقد أن أحمد ومحمد قد سافرا فتقول له :
إنما المسافر أحمد
هذا قصر إفراد فأفردت أحمد بالسفر لأن المخاطب يعتقد أنهما قد اشتركا في السفر
النوع الثاني :
قصر القلب :
ـــــــــــــــــــــ
وهو أن تأتي بحكم يخالف ما في معتقد المخاطب :
مثاله :
لو اعتقد أن محمدا هو المسافر فماذا تقول ؟
إنما المسافر أحمد
النوع الثالث :
قصر التعيين:
ـــــــــــــــــــــ
وذلك بأن يتردد المخاطب أو يكون عنده شيء من الشك في أيهما المسافر:
فتقول : إنما المسافر أحمد
وهنا :
أهو قصر إفراد أم قصر قلب أم قصر تعيين ؟
الأقرب أنه :
قصر تعيين : ــــــــ لم ؟
من باب تقوية الحكم وإثباته وعدم التردد في إثباته
وهذا الحديث له سبب :
قد ذكره النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء عند ابن ماجة
فإن سببه :
أنه عليه الصلاة والسلام أمر عبد الله بن عباس أن يلقط له حصى الجمار ، فلقط له مثل الخذف
فقال عليه الصلاة والسلام :
(( أمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو ))
أليس هذا السبب يوضح لنا نوع القصر هنا ؟
على كل حال :
هذه العبارة وردت منه عليه الصلاة والسلام في أمر من أمور العبادة
وهي في عبادة ” الحج “
والغلو هنا :
إما أن يكون كما قلنا مجاوزة في الزيادة أو في النقصان
لو رمى بحجر كبير جدا ــــــــ هذا غلو زيادة
لو رمى بحجر صغير جدا : هذا غلو نقصان
لكن لو رمى حجر كبير جدا أو بحجر صغير جدا أيصح رميه ؟
مرت معنا في مسائل الحج
المذهب : لا يصح
والجمهور : يصح مع الكراهة
ففهم من هذا أن الغلو في العقائد أشد خطرا
فإذا كان الغلو في العبادة كعبادة الحج له من الخطورة ما ذكر عليه الصلاة والسلام ففي العقائد من باب أولى