الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس (176) قوله تعالى( لقد جاءكم رسول من أنفسكم )(2)

الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس (176) قوله تعالى( لقد جاءكم رسول من أنفسكم )(2)

مشاهدات: 488

الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس ( 176)

قوله تعالى( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) الجزء الثاني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله عز وجل :

{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }

وسبق تفسير هذه الاية ، وقلنا إن الآية كان الأسلوب فيها أسلوب  خطاب فهي  مخاطبة للعرب على أحد الأقوال او خطاب لجميع البشر

ثم قال عز وجل

: (( فإن تولوا )) :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هنا تغير الأسلوب :

ــــــــــــــــــ

الأسلوب الأول :

ـــــــــــ

أسلوب خطاب

ــــــــــ

وهنا أسلوب غيبة :

ــــــــــــــــــــــــــ

(( لقد جاءكم )) ـــــــــــــــ خطاب

(( رسول من أنفسكم )) ــــــــــ خطاب

(( عزيز عليه ما عنتم )) ـــــــــــــ خطاب

(( حريص عليكم )) ــــــــــــــــــــــــ خطاب

(( فإن تولوا ))

ولم يقل :

(( فإن توليتم ))

هذا يسمى انتقالا من أسلوب إلى أسلوب آخر

وعند البلاغيين سمى : [ التفاتا ]

التفاتا من أسلوب الخطاب إلى أسلوب الغيبة

وهناك التفاتات ليست في الخطاب ثم الغيبة  ، لا

ـــ عندنا الخطاب

ـــ عندنا التكلم

ـــ عندنا الغيبة

لكن ما فائدة هذا الالتفات ؟

من فوائد هذا الالتفات :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

أولا :

ـــــــــــ

بيان عظم هذا القرآن :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وذلك بأسلوبه اللغوي الرفيع الذي يفوق أسلوب  العرب

لأن هذا من أساليب العرب :

وهو [ الانتقال أو الالتفات ]

الفائدة الثانية

ـــــــــــــــــ

رسم منهج وطريق للداعية في الدعوة إلى الله :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وذلك لأن تنوع الأسلوب يجعل المدعو أقرب إلى كلام المتكلم

فإن الأسلوب إذا كان على وتيرة واحدة قد يمل

فجاء القرآن ليرسم خطة للداعية إلى الله عز وجل

لأن الآية تتحدث عن الدعوة

الفائدة الثالثة :

ـــــــــــــــــــ

إحضار القلوب عند تلاوة القرآن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهذا هو أعظم وأشرف المقاصد

ولذا جاءت النصوص  الشرعية بالحث على التدبر

وهذا المسمى بالالتفات عند البلاغيين يدعو إلى التدبر

فإن الإنسان إذا كان في تأمل الآية السابقة ثم ينتقل به الأسلوب إلى أسلوب آخر يقف :

ثم يقول : لماذا تغير هذا الأسلوب ؟

الفائدة الرابعة :

ـــــــــــــــــــــ

أن التولي مذموم مشين ليس حميدا وإنما هو مذموم :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فلعل هذا من باب جلب قلوبهم

حتى لا يقطع اليأس بإسلامهم

ولذا قال تعالى : (( فإن تولوا ))

لم يوجه إليهم الخطاب : (( فإن توليتم ))

مع أنه لا يمنع أن يكون لفظ التولي آتيا بصيغة الخطاب

وهذا يفيدنا بفائدة :

ــــــــــــــــــــــــــ

وهي فائدة  : أسلوب الترغيب والترهيب :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فمرة قد تكون كلمة التولي يخاطبون بها ترهيبا

ومرة لا يخاطبون بها ، وإنما تكون بطريقة وأسلوب الغيبة

على وجه العموم عل وعسى أن يتأثروا

و [ التولي ] :

ــــــــــــــــــــــ

هو الإعراض والنكوص والإدبار

وهذه هي آخر آية في سورة التوبة

ــ وإذا نظرنا إلى أول كلمة في آخر آية من سورة التوبة : هي تتحدث عن التولي الذي هو الإعراض

والعجيب عند التأمل :

وهذا ما يسميه البعض بـ” وحدة الموضوع في التفسير “

في تفسير السورة

بمعنى انك لو نظرت إلى السورة بأكملها وبجملتها لوجدت أنها تتحدث عن مواضيع شتى

هذه المواضيع تجد ذكرا لها في أول ا لسورة ، وفي ثنايا السورة ، وفي أواخر السورة

وهذا ما يسمى عند البعض بـ [ الوحدة الموضوعية في التفسير ]

مثال :

ــــــــــــــــــ

ـــ [ سورة البقرة ] :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـــ أول الآيات تتحدث عن الإيمان

ـــ لو أمعنت النظر لوجدت في ثنايا السورة حديثا عن الإيمان

ـــ ولو نظرت إلى آخرها لوجدت حديثا عن الإيمان :

((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ….. الآية ))

في الوسط :

((لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ))

في أول السورة :

تجد حديثا عن الإنفاق

في ثناياها تجد حديثا عن المنفَق عليه عن مصدر الإنفاق ، عن الإنفاق الظاهر والباطن

عن الإنفاق على الكفار

تجد وحدة موضوعية كاملة في السورة

[ مثال آخر ] :

ـــــــــــــــــــــــ

ــ في سورة [ طه ] :

ـــــــــــــــــــــــــــــ

ــ تجد أن من بين أوائل الحديث في هذه السورة عن الشقاء :

{مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى }

ـــ لو أمعنت النظر في السورة لوجدت أن في ثناياها ، وفي أواخرها كلمة الشقاء :

((فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ))

وقال عن آدم :

((فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ))

ــ هذه كلمة يمكن لو نظرت إلى الكلمة التي تليها وتتبعت هذه الكلمة في ثنايا السورة ، وفي أواخرها لوجدت حديثا عنها

ـــ هنا في سورة [ التوبة ] عجب :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـــ نجد أن هذه السورة أجمعت على صور من صور التولي والإعراض عن النبي عليه الصلاة والسلام :

ـــ فيها تولي المشركين ، مع أن هناك فسحة لهم ، وهي إعطاؤهم أربعة أشهر

ـــ نجد أن هناك توليا لبعض المعاهدين الذين عاهدوا النبي عليه الصلاة والسلام ونقضوا العهد

ـــ نجد تولي أئمة الكفر

ــ نجد تولي المنافقين

ـــ والحديث في هذه السورة عن المنافقين كان في أسلوب مسهب

ــ نجد التولي عن محبة المؤمنين إلى محبة الكفار

ـــ نجد توليا من بعض المؤمنين في: ” يوم حنين ” ، لكن أراد الله عز وجل بالمؤمنين خيرا فعادوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام

ـــ نجد توليا عن غزوة [ تبوك ] :

((وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ ))

لكن الله منحهم بصدقهم منقبة كبرى

ــ كل هذه الصور من صور التولي تؤثر في النفوس

ومع ذلك جاء البلسم من الله لفؤاد النبي عليه الصلاة والسلام :

قال : (( فإن تولوا )) :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

” إن ” أداة شرط تجزم فعلين ،  ولها فعل شرط ، ولها جوا ب شرط

: (( فإن تولوا )) ـــــــــ الجواب :

(( فقل حسبي الله ))

من نتائج التولي :

ــــــــــــــــــــــــــ

 أن يؤمر بالنبي عليه الصلاة والسلام بأن يقول :

(( حسبي الله ))

أيضا من نتائج التولي كما في سور أخرى ما ذكره جل وعلا :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

((قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ))

أي من تبليغ الرسالة :

((وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ))

وقال :

((وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ ))

وقال :

{وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }

ولذا طمأن الله عز وجل النبي عليه الصلاة والسلام وبيَّن : ماذا يجب عليه عند إعراض هؤلاء :

قال : ((لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ )) ـــــــــ أي مهلك نفسك

((أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ{3} إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ{4} ))

وقال :

{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }

ما الذي بعدها ؟

((إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ))

سماع انتفاع

((وَالْمَوْتَى )) وهم الكفار لنهم موتى قلوب :

((يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ))

وقال :

((فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ))

والآيات في هذا المعنى كثيرة

وقوله :

(( فإن تولوا فقل : ))

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـــــــ لم يقل : (( قل ))

قال : (( فقل ))

ـــ [ الفاء ] هنا تفيد الترتيب والتعقيب

(( فقل حسبي الله ))  :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـــ فيه تأكيد وتقرير: أن الإنسان أحوج ما يحتاج إلى ربه إذا تخلى عنه الناس

فهنا تخلي : (( فإن تولوا )) هنا تُخلي عنك

وقد تخلى عن النبي عليه الصلاة والسلام من هو أقرب الناس إليه

فماذا عليك ؟

أن تعتمد على الله عز وجل

ولذا : إذا حصل محض الاعتماد والتوكل على الله :

قال : (( ومن يتوكل على الله فهو حسبه )) يعني كافيه

ولذا :

إذا تقطعت بالإنسان الأسباب ، يعني : تجرد قلبه من كل سبب قد يتشبث به

إذا تجرد من هذا كله ولم يبق في قلبه تعلق إلا بالله عز وجل جاءه الفرج :

(( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ))

تقطعت به الأسباب

كفار قريش في حال الرخاء كانوا يتشبثون بآلهتهم

لكن إذا ركبوا البحر وجاءتهم الريح العاصفة وقذفوا بأصنامهم لم يبق في قلوبهم إلا الله

فقال :

((  فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ))

((فَلَمَّا نَجَّاهُمْ ))

 فنجاهم لأنهم جردوا قلوبهم في تلك اللحظة لله

لكنه تجرد أُعقب بإعراض

ولذا ذكر تعالى :

أن الكفار لهم إنابة [ لهم إنابة إلى الله ]

قال تعالى :

((وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ))

ما الذي بعدها ؟

((ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ))

(( منهم ))

يعني : من المنيبين

فنحن بحاجة جميعا إلى الاعتماد على الله في جميع الأحوال ، ولاسيما إذا انصرف عنك الناس يأتيك الفرج من الله

فقوله : (( فإن تولوا فقل )) :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقول بعض المفسرين : إذا سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء قيل له : (( قل )) :

((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ ))

((وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ))

((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ))

بينما في سورة [ طه ] يقولون : لم يحصل وإنما يتوقع سؤال

ولذا جاء ذكر [ الفاء ] :

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً }

أيقولون قولا مجردا ؟

يمكن أن يقول الإنسان : توكلت على الله ، حسبي الله

أينفعه ذلك ؟

لا ينفعه إلا إذا أصحب هذا القول بما في القلب :

أي : قل حسبي الله

بقولك مع اعتماد قلبك على الله

وإلا فكم من شخص يقول : توكلت على الله ، وهو لم يتأمل ويتمعن في تلك الكلمة

وهذا هو شأن من وقع في بلاء أو في محنة عليه أن يلهج بالحسب :

ولذا كما عند البخاري :

” قال ابن عباس : (( حسبي الله ونعم الوكيل )) قالها إبراهيم حينما ألقي في النار ، وقالها محمد لما قيل له : ((إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))

فقوله : (( فقل حسبي الله )) :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحسب : هو الكفاية

ما الذي بعدها ؟

(( لا إله إلا الله ))

أليس هناك ارتباط بين هذه الكلمة والتي قبلها ؟

بلى

تفيدنا بفائدة :

ــــــــــــــــــــــ

إن الذي يتوكل عليه هو المألوه الحق ، وليس هناك مألوه حق إلا الله

وبالتالي فالمعبودات الباطلة لا يُعتمد ولا يُتوكل عليها ، ولا على أحد المخلوقين

ولذا قال : (( لا إله إلا الله )) ــــــــــ لم ؟

لأنه هو الإله الذي له الصفات العظام :

ولذا قال :

(( وتوكل على الحي الذي لا يموت ))

الفائدة هنا :

ــــــــــــــــ

أن التوكل لا يكون إلا على الحي ، مَن حياته حياة دائمة

أما المخلوق فله حياة ولكنها حياة ناقصة

ولذا قال بعدها :

((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ))

وقال :

((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ{217} الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ{218} وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ{219} إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{220} ))

المطلع على كل شيء

فالمخلوق لا ينفع نفسه فكيف يُتوكل عليه ؟

ما الذي بعدها  ؟

لأن هذا المقام يحتاج فيه النبي عليه الصلاة والسلام إلى التذكير بالتوكل

ما الذي بعدها ؟

(( عليه توكلت ))

هذا تأكيد

ويظهر هذا التأكيد من أمرين :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأمر الأول :

ــــــــــــــــ

أن (( عليه )) متعلق بـ (( توكلت )) ، وكان من حقه ان يؤخر فالأصل أن يقال : (( توكلت عليه )) لكنه لما قدم ما حقه التأخير أفاد الحصر ، بمعنى أنه هو الذي يتوكل عليه وحده

الأمر الثاني :

ــــــــــــــــــــــ

أنه نوّع الأسلوب :

الأولى قال : (( فقل حسبي الله ))

الأولى : الحسب

وهنا : التوكل

ومن ثم نستفيد فائدة أخرى وهي :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أن التوكل كما أن له صلة بتوحيد الألوهية فإن له صلة كبرى بتوحيد الربوبية

فجمع بين التوحيدين :

ـــ توحيد الألوهية في قوله : (( لا إله إلا الله ))

ـــ توحيد الربوبية : (( عليه توكلت ))

أين توحيد الأسماء  والصفات ؟

موجود ويظهر وجوده في التوكل على الله :

لأن المتوكَّل عليه هو الكامل في أسمائه وصفاته

ولذا جاءت عبارة شيخ الإسلام عبارة واضحة :

قال :

” أنَّى للمعطلة والقدرية أن يتوكلوا على الله “

يقول :

” إذا كانوا ينفون عن الله أسمائه وصفاته فعلى من يتوكلون ؟

يتوكلون على عدم ؟

الذي يُتوكل عليه مَن ؟

هو من له الصفات العلى

ولذا لما ذكر في آخر سورة الشعراء : 

((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ{217} الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ{218} وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ{219} إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{220} ))

لما ذكر التوكل في سورة الفرقان قال :

((  وتوكل ))

على من ؟

(( على الحي الذي لا يموت ))

وتظهر فائدة أخرى :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

أن التوكل لا ينفع وحده بل لابد أن يضاف مع التوكل عبادة الله

لو قال قائل :

ـــــــــــــــــــــ

أنا متوكل على الله في النجاة من النار وفي  دخولي الجنة أينفع هذا ؟

لا ينفع

ولذا قال :

(( لا إله إلا الله ))  هذا متعلق بالعبادة

(( عليه توكلت )) هذا هو التوكل

ولذا يجمع بينهما عز وجل في آيات كثيرة : مثل :

((  إياك نعبد وإياك نستعين ))

مثل :

(( عليه توكلت وإليه أنيب ))

مثل :

(( فاعبده وتوكل عليه ))

مثل :

(( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ))

والآيات في هذا كثيرة

وتظهر فائدة أخرى وهي :

ــــــــــــــــــــــــــــــ

أن قول : (( لا إله إلا الله )) مع قوله : (( عليه توكلت ))  تدل دلالة واضحة على أن العبادة لا يستطيع ابن آدم ان يقوم بها إلا إذا استعان بالله

إذاً هي محض فضل وكرم ومنَّة من الله

فلابد أن نستعين بالله :

(( إياك نعبد وإياك نستعين ))

{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

ولذا إذا قال المؤذن :

” حي على الصلاة ، حي على الفلاح “

أمر بالعبادة ـــــــــ ماذا نقول ؟

لا حول ولا قوة إلا بالله

وقوله : (( وهو رب العرش العظيم )) :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذه تؤكد وتقرر ما قررناه آنفا من التأكيد على التوكل على الله

لم ؟

لأنه رب العرش العظيم

و [ العرش ] :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

هو أعلى المخلوقات

والله قد استوى على العرش

فالذي يكون عليه التوكل من ؟ هو من هو في العلو

الذي يأمر ولا يؤمر المنزه من أن تحيط به مخلوقاته أو أن تُظله مخلوقاته

فإذا كان مالكا للعرش وهو أعلى ما يكون ، وهو مستوٍ عليه فهو الذي يستحق التوكل

ــ  ثم أيضا العرش هو أكبر المخلوقات

ــ فإذا كان أكبر المخلوقات وخلقه عظيم جدا فالذي خلقه من باب أولى

ولذا قال :

(( الكبير المتعال ))

ولذا قال :

(( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ))

ولذا :

من رأى في نفسه أن يكون كبيرا يسقطه الله :

قال عليه الصلاة والسلام :

(( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ))

وعند مسلم :

(( ما تواضع أحد لله إلا رفعه ))

فهذه الجملة تؤكد مقام التوكل على الله :

قال : (( وهو رب العرش العظيم )) :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أضيفت الربوبية هنا إلى العرش مع أنه جل  وعلا رب كل شيء

وهذه الإضافة من باب  :

[ التخصيص والتشريف والتفضيل للعرش ]

و [ العرش ] :

ــــــــــــــــــــــــ

ــ مر معنا

ــ فهو سرير له قوائم

ــ ليس بفلك مستدير كما يقوله البعض

ــ وإنما هو ذو قوائم تحمله الملائكة ، وهو أكبر المخلوقات

ــ وهو أعلى المخلوقات

ـــ وهو كالقبة على العالم

ــ وقد جاء في المسند ما ذكره ابن كثير في البداية من أن  :

(( حامليه أربعة : على صورة رجل ، وثور ، ونسر ، وليث ))

ولا يلزم أن يحصر بالعدد بهذا ، فقد يزيدون أو يزيدهم الله يوم القيامة

وهذا مصداق قوله :

((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ))

ـــ والعرش يختلف عن الكرسي

ــ ولذا بعض المفسرين وللأسف يمكن انطلت عليه إحدى مقولات الإسرائيلين فقال : (( إن الكرسي هو العرش ))

وبالتالي لا فرق بينهما

بل نسب إلى ابن عباس – وهو منه بريء – أنه فسر الكرسي بأنه ” العلم “

والصواب :

ـــــــــــــــــــ

ـــ أن العرش يختلف عن الكرسي

ــــ العرش كما ذكرنا

ـــ و[ الكرسي ] هو موضع القدمين لله

ـــ وهو كالمرقاة إلى العرش

ـــ هذا ما جاء عن السلف

ـــ وقد جاء في حديث – كما سيأتي – :

(( ما السموات السبع عند الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة ))

ــ هذا الكرسي إذا قرن بالسموات والأرضيين فإنها تعد شيئا يسيرا ، بمثابة الحلقة في الحديدة في أرض فلاة ، هذا الكرسي

(( وما الكرسي عند العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة ))

إذاً كيف بالخالق ؟

ألا يستحق أن يُعْبَد وأن يتوكل عليه ؟

ـــ ووصف العرش هنا بأنه:

[ عظيم ]

ـــ ووصف في آخر سورة ” المؤمنون ” بأنه  :

[ كريم ]

ـــ ووصف في سورة ” البروج ” :

[ مجيد ] على قراءة الخفض

(( ذو العرش المجيدِ ))

فتكون صفة لعرش

لكن على قراءة الرفع : (( ذو العرش المجيدُ )) صفة لله

ــــــــ* فنخلص من هذا إلى أن العرش وصف بأنه :

ـــ عظيم

ـــ وبأنه كريم

ـــ وبأنه مجيد

وبالتالي نعلم من خلال وصف الله للعرش بأنه عظيم أنه يجوز أن تطلق العظمة على المخلوق

ولذا :

ـــــــــ

فيما سبق كانوا إذا ألقوا خطابا على مدلول هذه البلاد فيما سلف كانوا يقولون : ” الملك المعظَّم “

” جلالة الملك المعظم “

وكلمة المعظم ليست محرمة ، وإنما هي جائزة

لأن هذه العظمة المنسوبة إلى المخلوق فيما يليق به ، وفي حدوده

[[ فائدة ]] :

ــــــــــــــــــــ

ـــ هذه الآية :

نقل عن أبي بن كعب أنه قال :

(( هي آخر آيات القرآن بالسماء عهدا ))

بمعنى : أنها هي آخر آيات القرآن نزولا

سـ / هل لهذه السورة علاقة بما قبلها من التولي من المنافقين ؟

أجيب عنه

ولذا :

ــــــــــ

آخر ما ذكر عن التولي عن المنافقين ، فلعل هذا تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام :

((وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ ـــ يعني : عن الإيمان ـــ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون{127} لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ))

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ