الشرح الموسع لكتاب التوحيد
الدرس(28)
قوله تعالى { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } الثالث
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقوله عز وجل : ((الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ))
يلبسوا : أي لم يخلطوا
لما نزلت هذه الآية قال الصحابة رضي الله عنهم – وقد شقت عليهم –
كما جاء في الصحيحين :
: (( يا رسول الله ، وأينا لم يظلم نفسه ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : ألم تسمعوا إلى قول لقمان : ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ))
وعند أحمد :
(( ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح : ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )) فإنما ذلك الشرك
وعند أبي نعيم :
قال الراوي : (( فطابت أنفسنا ))
ففسر عليه الصلاة والسلام الظلم هنا بالشرك مستدلا بوصية لقمان لابنه
ولقمان كان حكيما :
وأكثر العلماء على انه ليس بنبي
ورواية احمد ظاهرة في هذا
وقد جاء في مستدرك الحاكم بسند قال عنه ” ابن حجر ” في الفتح : ” إسناده صحيح ” قال : (( قال أنس رضي الله عنه كان لقمان عند داود عليه الصلاة والسلام ، وهو يصنع الدروع ، فكان يعجبه صنيع الدروع ))
فدل على أنه عاصر داود عليه الصلاة والسلام
وقول أنس مما لا يعلم غلا بطريق الوحي ، ولا يُعرف عن انس رضي الله عنه أنه يأخذ من الإسرائيليين ، وهذا الحديث منه مما لا يقال بالرأي ، ويكون في حكم المرفوع حكما لا صراحة
ووصف الشرك بالظلم كثير في كتاب الله جل وعلا :
قال عز وجل : ((وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ ))
ختام الآية : ((فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ ))
قال عز وجل : ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))
وقال عز وجل : (( إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ))
ختام الآية : ((وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ))
وهذا المعنى كثير في كتابه جل وعلا
والظلم تعريفه : ” هو وضع الشيء في غير موضعه “
فيكون المشركون قد أتوا بشيء في غير موضعه إذ تركوا التوحيد الذي من اجله خلقهم عز وجل ، ووضعوا بديلا له الشرك
والظلم ثلاثة أنواع :
أولا : أعظم الظلم : وهو الشرك بالله عز وجل
ثانيا : ظلم العبد لنفسه : كأن يكلفها من العبادة أو من العادة ما لا يطيق
فتكليفه لنفسه ما لا تطيقه من الظلم
النوع الثالث : ظلمه للبشر :
كسرقة أموالهم
وانتهاك أعراضهم
ونحو ذلك
وكلمة ” ظلم ” في الآية : ” نكرة في سياق النفي ” ولكنها لم تعم هنا :
والمقرر في أصول الفقه أن ” النكرة في سياق النفي تعم ” :
ودليل هذه القاعدة : ” أن الصحابة رضي الله عنهم شق عليهم الأمر حينما نزلت ، فعُلم بقولهم ، وبإقرار النبي صلى الله عليه وسلم عُلم أن ” النكرة في سياق النفي تعم فظنوا أن : أي ظلم لا يحصل معه أمن ولا اهتداء :
ولذا قالوا : ” وأينا الذي لا يظلم نفسه “
لكن هذا العموم خصصه النبي عليه الصلاة والسلام فيما جاء عن لقمان فيما حكاه الله عز وجل عنه
وقوله عز وجل : (( أولئك )) :
أشار بالبعد ـــــــ لم ؟
لعلو منزلتهم
(( أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ))
والأمن هنا :
إما أن يكون مطلق أمن
أو ” أمنا مطلقا ” :
وبيان هذا :
أن العبد إذا لم يظلم أي ظلم من الأنواع الثلاثة فله المن المطلق الكامل ، وله الهداية المطلقة الكاملة
وأما إذا لم يظلم الظلم الأعظم ” هو الشرك ” يعني : لم يقع في الشرك ، ووقع في نوعي الظلم الآخرين فإنه يحصل له مطلق أمن : ” أي أمن ناقص ، وهداية ناقصة ” بحسب تتفاوت ظلمه .
ولذا قال شيخ الإسلام رحمه الله : (( بعض السلف يجعل الذنوب من الشرك لهذا الاعتبار ))
بمعنى : أن من أذنب فقد أشرك من هذه الحيثية ، وهي أن الأمن والهداية له لا يكتملان
ولذا فإن أهل الكبائر لهم الأمن فيأمنون من الخلود في نار جهنم خلافا للخوارج والمعتزلة ، لكنهم غير آمنين من عذابه عز وجل بقدر أعمالهم
وقد جاء هذا المعنى في هذه الآية في آيات كثيرة :
قوله عز وجل : (( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ))
وقال عز وجل : ((وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ ))
وقال عز وجل : ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ{4} سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ{5} وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ{6} ))
وقال عز وجل في حال المستقيم عند الموت : ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ………………….. )) الآيات
وقال عز وجل عن حال أهل الاستقامة إذا خرجوا من قبورهم : {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }
والنصوص في هذا المعنى كثيرة
وقد حصر بعض المفسرين الهداية في الدنيا ، والأمن في الآخرة .
ولكن الصحيح : أن الأمن يكون للموحدين في دنياهم وفي أخراهم
والنصوص السابقة أشارت إلى هذا بمفهومها العلم
وكذا الهداية تكون لهم في الدنيا وفي الآخرة
ومن صور الاهتداء في الآخرة :
قال عز وجل : ((وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ{6} ))
قال بعض المفسرين : ” يهتدون إلى مساكنهم في الجنة
بل جاء مصرحا من قوله عليه الصلاة والسلام – عند البخاري – :
قال عليه الصلاة والسلام : (( فوالذي نفسي بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة بمنزله في الدنيا ))
ومن صورها :
أنه يهتدي إلى الجواب في قبره :
لأن القبر من الآخرة :
فإذا سئل :
من ربك ؟
ما دينك ؟
من نبيك ؟
هُدي إلى الصواب
ومفهوم الآية :
” أن من أشرك بالله الشرك الأعظم الأكبر أنه لا أمن ، ولا هداية له مطلقا “
ولذا قال عز وجل عن قريش : {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }
بعدها :
{وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ }
وقال في موضع آخر عنهم : (( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا ))
وقال في العنكبوت : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ }
(( ولم يلبسوا )) :
ملحوظة : ” لم ” إذا دخلت على الفعل المضارع حولته من الحاضر إلى المضي
(( ولم يلبسوا إيمانهم )) في الماضي ، ويلزم من ذلك أن يستمروا على عدم الشرك ، وإلا لما حصل لهم أمن ولا اهتداء
وهذا معلوم من النصوص الأخرى ،
ولأن القاعدة في الأصول : أن الفعل المنفي يدل على العموم ، وهو عدم وقوع الشرك
والقاعدة في التفسير وفي اللغة : ” أن المعمول إذا حذف فيفيد السياق العموم
(( الذين آمنوا )) لم يقل : ” آمنوا بالله أو بالملائكة ” وغنما حذف المعمول ، فدل على أنهم آمنوا بجميع ما أخبر الله عز وجل به من أمور الغيب
فلم يأمرنا الله عز وجل بإيمان مطلق
والتعبير بـ ” يلبسوا ” لأنه يغطي تغطية كاملة :
وهذا يتضح جليا بقراءة ” عكرمة ” “يُلبسوا ” مأخوذ من اللباس ، بينما ” فتح الياء ” مأخوذ من اللبس وهو الخلط
والله أعلم
ولذا قال عز وجل : ((فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }
فأصبح الخوف و الجوع بمثابة اللباس الذي يغطي بدن الإنسان ، فلا يدع منه شيئا
ففهم أن الشرك إذا وقع فيه العبد ، وهو الشرك الأكبر انه لا بقاء للتوحيد ، فلا يجتمع التوحيد ولا الشرك
ولذا من مقتضيات التوحيد عدم الشرك
وسبق أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، ولذا قال عز وجل : {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ))
فلا تبقي بقية من التوحيد مع الشرك الأكبر
بمجرد خلط الشرك الأكبر بالإيمان يغطي الإيمان ويزيله
فقوله عز وجل : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ }
فثمر هذا التوحيد هو حصول الأمن والهداية في الدارين
وظهرت مناسبة هذه الآية تحت هذا الباب في أن التوحيد هو : (( العمل الوحيد الذي يحصل به الأمن والهداية ))
بينما لو وجد عمل غير التوحيد لم تحصل معه هداية ، ولا امن
ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام لطيف جميل تحت هذه الآية :
قال رحمه الله : ” إن الشرك هو الذي يرفع الأمن والهداية ، فإذا انتفى الشرك الأكبر حصل المن ، وحصلت الهداية ، ولا يلزم أن يكون هذا الأمن تاما ، ولا هذه الهداية تامة ؛ وذلك لن من تخلص من الشرك ، وهو واقع في الكبائر فقد جاءت النصوص الشرعية بأنه ليس من الآمنين ، وغنما يصيبه خوف كما جاءت بذلك النصوص الشرعية :
قال عليه الصلاة والسلام : (( لعن الله من لعن والديه ))
(( لا يدخل الجنة قاطع ))
وقوله : (( لعن الله من آوى محدثا ))
فإذا انتفى الشرك والذنوب حصل الأمن التام والهداية التامة
وإذا حصل انتفاء الشرك مع الوقوع في الذنوب لم يحصل له أمن تام ، ولا هداية تامة ،
ويكون من أهل الاصطفاء ، ولا يخرج عمن اصطفاهم الله عز وجل :
قال عز وجل : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ))
وخلاصة قوله رحمه الله :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن انتفاء الشرك يكون صاحبه من الآمنين والمهتدين ، ولكن ليس أمنا تاما ، ولا هداية تامة
ويكون من أهل الاصطفاء ، لكن ليس من أهل الصفوة الذين سابقوا إلى الخيرات “
وسمي الشرك ظلما لأنه أعني الظلم هو وضع الشي في غير موضعه اللائق به وهذا المشرك قد جعل محل التوحيد الشرك فوضع الشرك في موضع التوحيد وهذا وضع في غير موضعه