الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس ( 42 )
حديث( لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ) الثاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تتمة شرح الحديث القدسي
قال الله تعالى :
(( يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ))
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” قال الله تعالى “
هذا الحديث يسمى بالحديث القدسي مأخوذ من القداسة التي هي الطهارة، ويسمى بالحديث الإلهي ويسمى بالحديث الرباني وهو ما كان معناه من الله عز وجل ولفظه من النبي .
فهو يفترق عن القرآن : لأن القرآن لفظه ومعناه من الله عز وجل ،
ويفترق عن الحديث النبوي فإن لفظه ومعناه من النبي فالحديث القدسي لا يأخذ أحكام القرآن فلا يتعبد بلفظه ولا يقرأ به في الصلاة ويجوز مسه من غير طهارة ولا يتحدى به الكفار كما يتحدى بالقرآن وليس بصحيح مطلقا فإن من الأحاديث القدسية ما هو صحيح وما هو ضعيف وما هو موضوع .
قال
قال الله تعالى :
(( قال الله )) فيه إثبات صفة القول لله عز وجل وسبق الحديث عن ذلك ولتعلم أن قاعدة أهل السنة والجماعة أن صفات الله عز وجل لا تؤول ولا تكيف ولذا قال الامام أحمد رحمه الله في كتابه أصول أهل السنة
لا تقل لم ولا تقل كيف فإنما هو الانقياد والتسليم والقبول
فلا تدخل عقلك في أسماء الله عز وجل وصفاته فتتوه كما تاه أهل الكلام وذا كان الله عز وجل يتكلم فكذلك هو يسكت ومن صفاته عز وجل السكوت فتثبت دون تأويل ودون تكييف قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى ثبتت صفة السكوت لله عز وجل بالنص والإجماع ومن بين هذه النصوص قول النبي ( ما سكت عنه فهو عفو ) وحديث ( وسكت عن أشياء )
ولذا ابن عباس رضي الله عنهما كما سيأتي لما ذكر صفة من صفات الله عز وجل عند البعض اقشعر جلده فقال رضي الله عنه ما فرق هؤلاء يعني لماذا يخالف هؤلاء ؟
ما فرق هؤلاء يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه فإذا جاءت الصفة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله فلا تترد أدنى تردد في إثباتها مع تفويض كيفيتها إلى الله عز وجل وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في الفتاوى وأن السكوت يطلق على أمرين :
قال الله تعالى / :
” قوله / تعالى “ فيه إثبات صفة العلو لله عز وجل وسبق الحديث عنها لكن لتعلم أن العلو يختلف عن صفة الاستواء على العرش فكلتاهما صفتان لله عز وجل فاستوائه على عرشه صفة من صفاته جل وعلا وعلوه صفة من صفاته لكن الفرق بينهما من وجهين
والأجدر والأولى بالمسلم إذا ذكر الله عز وجل على لسانه أن يبجله وأن يعظمه فيقول : قال الله عز وجل أو قال الله تعالى كما هنا .
ولم نقل بالوجوب لأنه هناك أحاديث كثيرة ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم لفظ الجلالة ولم يقل عز وجل أو نحوها من العبارات
(( وقوله : يا ابن آدم )) ،
في إثبات صفة النداء لله عز وجل وهو أحد نوعي الكلام وسبق
وقوله آدم / :
اشتقاق هذه الكلمة مأخوذ من الأديم أي من أديم الأرض وذلك لأن النبي أخبر أن الله عز وجل لما أراد أن يخلق آدم أخذ من كل أرض حفنة من تراب فجاء بنو آدم منهم الأحمر ومنهم الأسود ومهم السهل ومنهم الصعب ومنهم بين ذلك .
وقوله : لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ،
ضبط بضابط آخر : ” لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ” بكسر القاف في كلمة قراب ، ولكن الضم أشهر ومعنى قراب الأرض أي ما يقارب ملؤها أو حجمها والخطايا / هي الذنوب
وقوله ثم لقيتني لا تشرك به شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة .
فقوله ثم لقيتني / :
كلمة اللقيا في النصوص الشرعية تكون على وجهين /:
قال الله تعالى :{هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين }
وقال تعالى :{ قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم }
هي لقيا التكريم للمؤمنين وهي اللقيا الخاصة قال الله عز وجل :{ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }
فمن فوائد كلمة : لقيتني / :
أن العلماء قالوا :” إن لقيا الله عز وجل تتضمن رؤيته فإذا جاء النص بأن هناك لقاء يلتقي فيه العبد بربه عز وجل فإنه دليل على إثبات رؤيته عز وجل “
وقد أنكرت المعطلة رؤيا الله عز وجل مستدلين على ذلك بأدلة منهما :
قوله تعالى لموسى:{ قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني }
ومنها قوله عز وجل :{ لا تدركه الأبصار } ومنها وهو دليل عقلي على حسب ما رأته عقولهم أنه لو كان يرى عز وجل لكان في جهة ، وإذا كان في جهة فهو جسم ، والله منزه عن الجسم .
وهل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه في الدنيا ؟
الصحيح :
أنه عليه الصلاة والسلام لم ير ربه يقظة ، ولذا في حديث أبي ذر عند مسلم : “لما سئل النبي أرأيت ربك ؟ قال : (( نور أنا أراه ))
وفي رواية : (( حجابه النور ))
وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك كما جاء في الصحيحين .
وأما ما جاء عند ابن خزيمة أن ابن عباس رضي الله عنهما ذكر في حديثه أن النبي رأى ربه فهو حديث ضعيف .
والصحيح : ” أنه لم يره يقظة ، وإنما رآه في المنام كما قال عليه الصلاة والسلام : (( أتاني ربي هذه الليلة في أحسن صورة ))
وهل يراه أحد في المنام سوى النبي ؟
يذكر في السير أن الإمام أحمد رحمه الله رأى الله عز وجل في المنام ، وهذا هو المذكور في السير ولكن الذي يظهر ، والعلم عند الله أنه لا يراه أحد في المنام لعموم قوله عليه الصلاة والسلام : (( اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا ))
فهذا عام ولا يقل أحد إن النوم وفاة لأن الموت في الإطلاق تكون الوفاة الكبرى والعلم عند الله .
ومن أنكر رؤية الله عز وجل فقد كفره السلف قالوا لأنه أنكر أعظم نعيم في الجنة ويكون صاحبها ضالا أي صاحب من أنكر الرؤيا وأما الأدلة على أنه عز وجل يرى في الآخرة .
قوله تعالى :{ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة }
فقوله :{ ناضرة } أي من النضرة والبهاء
والنظر له استعمالات :
فإن عدي بحرف ( في ) فمعناه التفكر كقوله تعالى { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض }
وإن عدي بـ ( إلى ) فالمراد النظر بالأبصار كما في قوله تعالى :{ إلى ربها ناظرة }
وإن أطلقت فالمراد الإمهال كقوله عز وجل عن المنافقين :{ انظرونا نقتبس من نوركم } أي انتظرونا وأمهلونا .
فنجد أن هذه الآية وهي قوله تعالى :{ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة }
أضيف فيها النظر إلى الوجه الذي هو محله، أين محل النظر ؟
الجواب / :
في الوجه ، وزاد ذلك تأكيدا حرف (( إلى ))
ومن الأدلة على رؤيته عز وجل في الآخرة :
قوله عز وجل : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } فالزيادة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم : (( أنها النظر إلى وجهه الكريم ))
وأما من الأحاديث فقوله عليه الصلاة والسلام : (( اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا ))
فدل على أنه بعد الموت يرى عز وجل.
ومنها :
(( أن الصحابة كما في الصحيحين قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا ؟
قال عليه الصلاة السلام : هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟
قالوا : لا .
فقال هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟
قالوا : لا
قال فكذلك ترونه ))
ورؤيته عز وجل ثابتة للمؤمنين في المحشر وفي الجنة فأما الدليل على رؤيته في المحشر:
أن الله عز وجل يأتيهم على صورة غير صورته فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نبرح مقامنا حتى يأتينا ربنا فيأتيهم عز وجل على صورته .
وأما في الجنة :
فالأحاديث فيها كثيرة ولذلك يناديهم عز وجل فيرفعون أبصارهم فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه الكريم .
ورؤية المؤمنين له عز وجل تختلف باختلاف مراتبهم :
ولذا جاء عند الترمذي وإن كان فيه ضعف أن أعلى أهل الجنة مقاما من يرى الله عز وجل في الجنة في اليوم مرتين ،
ويؤيده ما فسره بعض العلماء كما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى :
قال عز وجل : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } وقد صحح ابن القيم رحمه الله حديث : (( أن يوم الجمعة يوم المزيد )) وذلك لأنهم يأتون الله عز وجل في كل يوم جمعة- ولذا ابن مسعود رضي الله عنه لما أتى الجمعة وقد سبقه ثلاثة قال : (( وما رابع أربعة من الله ببعيد ))
حسنه البعض وضعفه البعض
وكما أن الرجال يرونه عز وجل كذلك النساء
وقد اختلف العلماء في رؤية الكفار لله عز وجل في المحشر :
فقال بعض العلماء : ” إنهم يرونه ” ، ويستدلون على ذلك بما يأتي :
أولا : جميع أدلة اللقيا لأن اللقيا تدل على الرؤيا في مثل قوله تعالى :{ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه }
ثانيا : قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين : (( يلقي العبد ربه عز وجل فيقول له أولم أسودك )) أي أجعلك سيدا ((ألم أزوجك ؟ فيقول بلى ، فيقول أكنت تظن أنك ملاقي ؟ قال : لا ، فيقول عز وجل : اليوم أنساك )) الحديث
ثالثا : حديث ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى ((أن الناس يخرجون من قبورهم فينظر إليهم وينظرون إليه فيأخذ ماء فيرشه في وجوههم فوجه المؤمن يبيض ووجه الكافر يسود ))
رابعا : ومن أدلتهم : قول الله عز وجل : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } فقالوا إن الحجب لا يكون إلا من رؤية سابقة
وقال أصحاب القول الآخر :
لا يعني أن هذه الرؤية رؤية نعيم بل هي رؤية تعريف كما يقال للمجرم : “انظر إلى الملك ” ولله المثل الأعلى
وبعض أهل السنة والجماعة قالوا : إنهم لا يرونه في المحشر، واستدلوا بقوله عز وجل : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون }
وقالوا : هذه الآية في جميع ساعات الآخرة لأنه عز وجل قال في مطلع السورة : { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين }
وقالوا : لو قلنا برؤيتهم له عز وجل لما افترقوا عن المؤمنين :
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ” إن المخالف في رؤية الكفار لربهم عز وجل في المحشر، لا يضلل وإنما قال رحمه الله : ” يجب على من قال أن الكفار يرونه يجب عليه أن يقيد فيقول يراه الكفار في المحشر، وذلك لأن إطلاق الرؤية للكفار موهمة فالرؤية عند إطلاق هي رؤية النعيم “
وأما ما استدلت به المعتزلة بقوله عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام : { لن تراني } فهو دليل لأهل السنة لا دليل للمعتزلة وذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن كلمة (( لن )) لا تفيد التأبيد فقوله :{ لن تراني } أي في الدنيا
ولذا قال بن مالك في ألفيته :
ومن رأى النفي بلن مؤبدا
فقوله اردد وما سواه فاعضدا
يعني أردد قوله وهي مسألة لغوية لا نتوقف عندها كثيرا فيكون معنى قوله لن تراني أي في الدنيا
الوجه الثاني : أن موسى عليه الصلاة والسلام أعلم بالله من غيره فلو كانت رؤيته عز وجل محالة في الآخرة لما سألها موسى عليه السلام في الدنيا
الوجه الثالث : لو كان قوله عليه الصلاة والسلام غير لائق لأنكر عليه عز وجل كما أنكر على نوح عليه الصلاة والسلام لما سأل النجاة لابنه
الوجه الرابع : أنه سبحانه وتعالى تجلى للجبل وهو جماد ألا يتجلى لعباده المتقين ؛ ولذا لم يره موسى عليه الصلاة والسلام ؛ لأن أبصار الخلق عاجزة عن رؤيته عز وجل فهي عاجزة عن رؤيته في الدنيا أما في الآخرة فيعطيهم الله عز وجل قدرة وقوة على رؤيته .
ومما يدل على ضعف أبصار الناس – ولله المثل الأعلى – أن الإنسان لا يستطيع أن يمعن النظر في الشمس ،
وأما ما استدلوا به :
من قوله عز وجل :{ لا تدركه الأبصار } فهو دليل لأهل السنة ، وذلك أن النفي هنا للإدراك وليس النفي لرؤيته عز وجل وفرق بين الإدراك والرؤية :
ولذا لما قالت بنو إسرائيل :{ إنما لمدركون } قال موسى :{ كلا } فهو نفى الإدراك ، لكنه لم ينف رؤيتهم لفرعون ، ولذا قال الله عز وجل :{ فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون } فلكماله عز وجل لا يدرك فيكون نفي الإدراك إثباتا للرؤية .
وأما ما استدلالهم العقلي فهو ناشئ عن فساد عقولهم فهو سبحانه عز وجل لا يقاس بخلقه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:(( لا تشرك بي شيئا )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ شيئا نكرة في سياق النفي :
فيفيد أنه لا يشرك مع الله عز وجل أي شيء لا ملك ولا رسول ،
فإذا جاء العبد بهذا التوحيد ، وترك نواقضه فإن الله عز وجل يقابله ولو كانت ذنوبه ملئ الأرض يقابله بالمغفرة ولذا قال:(( لأتيتك بقرابها مغفرة ))
وهذا هو جواب الشرط لأن :
( أداة شرط ) وفعل الشرط : (( أتيتني بقراب الأرض خطايا )) إلى آخره ،
وجواب الشرط : (( لأتيتك بقرابها مغفرة ))
فيكون وجه إيراد الشيخ رحمه الله لهذا الحديث تحت هذا الباب : لبيان فضل التوحيد،وأن التوحيد إذا مات عليه العبد دون أن يجرحه بذنوب قبل وفاته فإن ذنوبه السابقة تغفر كلها كما قيل في توجيه حديث صاحب البطاقة
ولهذا الحديث شاهد عند مسلم رحمه الله وهو: (( من عمل قراب الأرض خطايا ثم لقيني لا يشرك بي شيئا دخل الجنة ))