الشرح الموسع لكتاب التوحيد ــ الدرس ( 52 )
حديث ( سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب) السادس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقال عليه الصلاة والسلام : (( هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون ))
وفي هذا البيان منه عليه الصلاة والسلام دلالة على حرصه عليه الصلاة والسلام لتقديم الخير لأمته .
وأعظم الخيرات التي تقدم لهذه الأمة ما يكون لهم خير لهم في أخراهم .
ولذا أُتي بالفاء التي تدل على التعقيب .
فحرص عليه الصلاة والسلام أإلا يؤخر بيان هذا العلم ولو بزمن يسير :
فقال : (( هم الذين لا يسترقون )) :
معنى : ” لا يسترقون ” :
أي لا يطلبون من أحد أن يرقيهم
والرقية سبق الحديث عنها .
فيكون معنى هذه الكلمة : يكون معناها دالا على كراهية طلب الرقية .
وليس فيه كراهية الرقية ذاتها ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام رقى نفسه ورقاه جبريل ، ورقته عائشة ، فكان يرقى ويُرقى ، لكن من غير طلب .
وهذه الجملة وهي جملة : (( لا يسترقون )) :
هي الثابتة في الصحيحين ، وهي الآتية في مسند الإمام أحمد رحمه الله .
وقد جاءت رواية أخرى عند مسلم ، وهي رواية : (( لا يرقون )) أي لا يفعلون الرقية
وهذه الرواية أحدثت إشكالا بما أنها في صحيح مسلم :
ومكمن الإشكال : أن فيه نفيا لفعل الرقية ذاتها ، مع انه عليه الصلاة والسلام قد فعل الرقية ، وفُعلت له ، ومن ثَم فغن العلماء في إثبات هذه الجملة ، وهي جملة : (( لا يرقون )) لهم فيها نزاع .
فبعض العلماء : يقول إنها ثابتة ، وهي محمولة على الرقية التي فيها شرك أو محتملة للشرك ، لقوله عليه الصلاة والسلام – كما عند مسلم – : (( لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا ))
وأجابوا عن فعله عليه الصلاة والسلام وفعل جبريل : إن هذا الفعل دعا إليه مقام التبيين والتشريع
فيكون القول على هذا القول بأن من ترك الرقية مطلقا داخل ضمن هذا الفضل ، وان من لم يتركها حتى ولو من غير طلب أن هذا الفضل يفوته .
والقول الآخر :
ـــــــــــــــــــــ
أن هذه الرواية غلط ، وهذا رأي شيخ الإسلام رحمه الله :
فقد قال : ” إن الراوي قد وهم ، فقال : ” لا يرقون ” بدل أن يقول : ” ولا يسترقون ” :
وذلك لأن رواة مسلم ورواة البخاري ورواة الإمام أحمد ذكروا جملة ” لا يسترقون “
وتغليطها من أجل أنه عليه الصلاة والسلام فعل الرقية .
وقول من يقول : بأنها ثابتة حملها على ذلك البعد عن تغليط الحفاظ ، وهو توجيه حسن ، وهو ألا يغلط الحفاظ ، لكن الحافظ قد يغلط ، ولا يسلم أحد من الوهم .
ويشوب توجيههم بقولهم بأن هذا فعل منه عليه الصلاة والسلام لبيان التشريع يشوبه أن التشريع ممكن أن يوضح بمرة واحدة أو بمرتين أما أن يفعل دائما فليس هذا لبيان التشريع .
ولذا لا مناص من تغليطها
ولذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في مقدمة أصول التفسير قال : ”
إن عند علماء الحديث علما هو أنفس علومهم ، وهو ما يسمى بـ ” علم علل الحديث “
وذلك أن الحديث قد يكون إسناده صحيحا لكن بيه علة تمنع من الأخذ به تظهر في المتن أو في السند
ولا يقدح هذا في صحة ما جاء في الصحيحين من أحاديث ، ولذا قال شيخ الإسلام رحمه الله : ” أجمعت الأمة على أن ما في الصحيحين في الجملة ثابت صحيح “
وهذه الكلمة ، وهي كلمة : (( لا يسترقون )) تتعارض فعل حصين بن عبد الرحمن لقوله : ” ارتقيت “
وفي رواية عند مسلم : ” استرقيت “
فأراد سعيد رحمه الله أن يوضح أن ترك الكمال
وهذه الكلمة لا تتنافى ولا تتعارض مع حديثه عليه الصلاة والسلام التي استدل بها حصين : (( لا رقية إلا من عين أو حمى )) فليس في هذا الحديث طلب للرقية
لكن حصينا فهم من حديث : (( لا رقية إلا من عين أو حمة )) فهم جواز فعل الرقية ، ولو من طلب ، فعارضه ” سعيد ” بهذا الحديث ، وأراد سعيد أن يوقفه على مرتبة الكمال ، والفضل .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( ولا يكتوون ))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي لا يطلبون من أحد أن يكويهم ، لكن فعل الاكتواء من غير طلب لا يفوت الإنسان الكمال :
بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام كوي سعد بن معاذ في أكحله ” وهو عرق في اليد ” ـــــ كما عند مسلم
وجاء عند البخاري : ” أن أنس كُوي ، والنبي عليه الصلاة والسلام حيٌ “
وقولنا في الاكتواء كقولنا في ” الاسترقاء “
فإذا طلب أحد ممن يحسن الكي أن يكوي فلانا فلا يفوته الكمال :
وذلك أنه عليه الصلاة والسلام – كما جاء في الصحيح – أرسل طبيبا إلى أُبي بن كعب ليكويه “
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ” إن الرقية من جنس الدعاء ، فالمسترقي مستعطىً ملتفت بقلبه إلى غير الله عز وجل “
وكذلك يكون القول في الاكتواء
وقال عليه الصلاة والسلام ، وهذا موضع إشكال ، قال : (( الشفاء في ثلاثة : شربة عسل أو شرطة محجم أو كيةٌ بنار ، وأنهي أمتي عن الكي )) كما جاء في صحيح البخاري .
قال ابن القيم رحمه الله : ” فعله عليه الصلاة والسلام للكي من بيان الجواز ، وأما نهيه فمن باب الكراهة ، فالكي فعله مكروه ، ولو مكن غير طلب لنهيه عليه الصلاة والسلام .”
لكن لو فعل الكي فإنه جائز النهي عن الكي على من فعله خِيفة من حصول الداء قبل أن يحصل ، لقوله عليه الصلاة والسلام – كما في المسند ، وسنن الترمذي : (( من كوى أو استرقى فقد برئ من التوكل ))
ولكن هذا الاحتمال فيه نظر ، لأن كلمة استرقى واكتوى معناها طلب هذين الشيئين :
بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( هم الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ……….. وقال في نهاية الحديث : وعلى ربهم يتوكلون ))
فيكون طلب الكي أو الرقية قبل حصول الداء أو بعده سواء :
وهذا على القول : بأن ” العطف ” في جملة : (( وعلى ربهم يتوكلون )) عطف تفسيري
علما أن طلبهما قبل حصول الداء محرم ، لأنه نص فيما رواه أحمد ، والترمذي نص على أنه بريء من التوكل ، بينما بعد حصول الداء لا يكون طالبهما آثماً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( ولا يتطيرون ” )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التطير : هو التشاؤم ، ولن أخوض فيه ؛ لأن المصنف رحمه الله ذكر بابا مستقلا ، قال : ” باب ما جاء في التطير ” فيرجأ الحديث إلى موضعه .
لكن التطير فيما معناه : ” هو التشاؤم : إما بمرئي أو مسموع أو زمان أو مكان :
كأن يتشاءم ببيت
أو بإنسان
او بشهر من الشهور
وهذا يدل على ضعف التوكل
ولذا فهذه الجمل الثلاث :
” لا يسترقون “
” ولا يكتوون “
” ولا يتطيرون “
تدل على أن في قلب صاحبها بشيء من الضعف في التوكل على الله عز وجل ، ولذا عقب عليه الصلاة والسلام ، فقال : (( وعلى ربهم يتوكلون ))
والتوكل : هو الاعتماد على الله عز وجل في جميع الأمور مع بذل الأسباب
وسيأتي حديث بإذن الله تعالى عن التوكل عند قول المصنف رحمه الله : ” باب قوله تعالى : ((وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ))
وهذه الجملة : (( وعلى ربهم يتوكلون )) :
إما أن تكون جملة تفسيرية
وإما أن تكون جملة معطوفة
فإن كانت تفسيرية فهي تفسر الجمل السابقة :
بمعنى : أنهم ما تركوا الاسترقاء والاكتواء والتطير إلا لأنهم متوكلون .
وقد تكون جملة عطف فتكون هذه الجملة من عطف العام على الخاص .
وهذا ما يسمى عند البلاغيين بـ ” الإطناب “ :” وهو أن يُزاد في الكلام جملة أو جملا لتقويته وتأكيده .
فإذا كانت معطوفة على ما سبق فيكون التوكل مقاما لهم ومنهجا لهم :
ومن بين صور توكلهم على الله عز وجل :
أنهم لا يسترقون
ولا يكتوون
ولا يتطيرون
وهم ما تركوا الاسترقاء والاكتواء لترك السبب كما تقول بعض طوائف الصوفية ، قالوا : ” إن المتوكل هو الذي لا يلتفت إلى الأسباب حتى لو هجم عليه أسد “
ولذا قال ابن القيم رحمه الله : ” إن الإتيان بالأسباب من تمام تحقيق التوحيد “
وقد قال رحمه الله : ” عليك أن تأتي بالسبب على انه لا نجاة لك إلا به ، وتعتمد على الله عز وجل اعتمادا تعتقد بأن هذا السبب لا ينجيك ولا يخلصك “
قال : ” وقد جمع النبي عليه الصلاة والسلام هذين الأمرين في قوله عليه الصلاة والسلام – كما عند مسلم : (( احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ))
فالحرص على النافع من باب بذل السبب .
” واستعن بالله ” هو التوكل عليه عز وجل .
ثم قال في الحديث : (( ولا تعجز )) :
والعجز : إما أن يكون تقصيرا في بذل الأسباب
أو تقصيرا في الاعتماد على الله
قال رحمه الله : ” وهذا الحديث : (( احرص على ما ينفعك )) جمع أصول الدين “
وهؤلاء ما تركوا هذه الأشياء لكونها أسبابا ، وإنما تركوها لكونها أسبابا مكروهة كرهها الشرع .
وذلك لأن بذل السبب من تمام التوحيد ، لكن ترك الاسترقاء والاكتواء لكونها أسبابا مكروهة
فليس المتوكل مَن فتح الباب للسارق وأدخل يده في باب الحية وألقى بنفسه في النار
والحديث يطول عن السبب ، وعن التوكل ، ومن خالف في ذلك من الطوائف .
والحديث عنه إن شاء الله في بابه
ولو قال قائل :
عن حديث النبي عليه الصلاة والسلام : (( من استرقى أو اكتوى فقد برئ من التوكل ))
يفهم منه أن من فعل هذه الأشياء لم يفته الكمال ، بل وقع في المحظور
وهذا الحديث صحيح
فالجواب :
ــــــــــــ
أن الكمال يفوت ، لكنه لا يأثم .
إلا إذا فعل التطير
فالتطير كما قال عليه الصلاة والسلام : (( الطيرة شرك ))
فمن استرقى أو اكتوى فقد فاته الكمال ، وليس بآثم
أما قوله عليه الصلاة والسلام : (( من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل ))
هذا يُحمل على من اعتمد اعتمادا كليا على هذين السببين
ويدل لذلك : أنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن المتصف بهذه الصفات يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب
وكما سلف من أن طلبهما قبل حصول الداء يكون به الإثم .
كان درسنا بالأمس توقف عند سؤال نشأ من شرح جمل : ” هم الذين لا يسترقون ، ولا يكتوون ، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون “:
فلو قال قائل : هل يقاس طلب الدواء على هذه الأشياء المذكور ة أم أنه لا يقاس عليها ؟
من نظر إلى ختام هذه الجمل بجملة : ” وعلى ربهم يتوكلون “ قال : ” إنه محتمل أن الكمال يفوت إذا طلب العلاج ، فلا فرق بين الاسترقاء والاكتواء ، وغيرهما .
ومن نظر إلى النصوص الواردة في التداوي يقول : ” إنه لا يحتمل “
ولكن يحتمل أن طلب العلاج لا يدخل .
وهذا الذي يظهر لي : ” أنه لا يدخل للأسباب الآتية :
أولا :
ــــــــــــ
أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بالتداوي في أحاديث كثيرة :
من بينها :
ما جاء في صحيح البخاري : (( الشفاء في ثلاثة : شربة عسل وشرطة محجم وكيةٌ بنار، وأنهي أمتي عن الكي ))
ولقوله عليه الصلاة والسلام – كما في الصحيحين – قال : (( الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام ، قيل : ما السام ؟ ، قال : الموت ))
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام : (( تداووا – عباد الله – فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء علمه من علمه ، وجهله من جهله ))
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة
ثانيا :
ـــــــــــــ
أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل الحجامة – كما في حديث الشفاء في ثلاث جعلها نوعا من أنواع العلاج
والحجامة في عصره عليه الصلاة والسلام تطلب :
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : (( ما على أحد ألا يتداوى بشيء لشيء إذا احتجم )) كما عند أبي داود
بمعنى : أن من داوم على الحجامة لن يصيبه مرض بإذن الله فلا يحتاج مع الحجامة إلى دواء آخر .
وهذا على القول بصحته .
وقد رجع الألباني عن التصحيح إلى التضعيف .
وهناك أحاديث صحيحة في الحجامة .
السبب الثالث :
ـــــــــــــــــــ
أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر في هذا الحديث :
الاسترقاء
والاكتواء
والرقية
والكي
من أنواع العلاج
فدل على أن المقصود ، والمعني : هذان الأمران إذ لو كان الحكم منسحبا إلى غيرهما لاختصر عليه الصلاة والسلام ، وقد أُعطي جوامع الكلم ، فلو كان الحكم منسحبا لقال : ” هم الذين لا يتطببون “
أو نحوها من هذه العبارات حتى تشمل الكل .
ومما يؤكد أن هذين المعنيين هما المرادان دون غيرهما الحديث الذي أخرجه ” أحمد والترمذي ” : (( من استرقى أو كوى فقد برئ من التوكل ))
فجمع بينهما عليه الصلاة والسلام .
فهذا ما يظهر لنا ولاسيما أن العلاج قد يكون واجبا بإنقاذ النفس من التهلكة .
ويؤكد ما ذهبنا إليه :
ما جاء في سنن أبي داود :
أن سعدا رضي الله عنه قال : ” مرضت مرضا فأتاني رسول الله صلى عليه وسلم فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي ، وقال لي : ” إنك رجل مفؤود ( الذي أصيب فؤاده ) فأت الحارث بن كلدة من ثقيف فإنه رجل يتطبب فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليمدهن بنواهن ثم ليدلك بهن
واللدود ما يتسقاه الإنسان من أحد جانبي الفم
والتداوي اختلف فيه الأئمة الأربعة :
فبعضهم يرى أن تركه أفضل ، وهو مذهب أحمد .
وبعضهم يرى الجواز وهو أبو حنيفة .
والمذهب الأول : هو مذهب الإمام أحمد .
والإمام مالك يرى الجواز .
فالأمر سواء .
وبعض العلماء يرى أنه ” سنة “
وقد قال ابن عثيمين رحمه الله قولا جميلا في الجمع بين هذه الأقوال فقال : ” ما كان يتيقن نفعه أو يغلب على الظن نفعه مع الهلاك بعدمه فهو واجب ، وأما إذا كان يرجى نفعه ولا يخشى بتركه الهلاك ففعله أفضل ، ومن لم يكن كذلك فهو جائز ، وتركه أفضل لأن هذه الأدوية قد لا تسلم من الأضرار “