الشرح الموسع لكتاب التوحيد
الدرس ( 7 )
قوله تعالى :
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: 36]
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال المصنف رحمه الله :
قوله تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: 36]
لما ذكر المصنف رحمه الله الآية التي في سورة الذاريات : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }
ثنَّى بذكر آية في سورة النحل ، وهي قوله تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: 36]
وهذا يدل على حسن ترتيبه يرحمه الله ، لأنَّ الآية الأولى فيها بيانٌ لحكمة الجن والإنس ، والحكمة من خلقهما كما سلف عبادة الله عز وجل .
في هذه الآية بيان لحكمة الله عز وجل في إرسال الر سل ، فالحكمة من إرسال الرسل : ” الدعوة إلى عبادة الله عز وجل “
وهذه الآية تدل على أن الرسل عليهم الصلاة والسلام دعوا إلى عبادة الله عز وجل ، فما أرسلت الرسل وما أنزلت الكتب إلا للدعوة إلى توحيد الألوهية ، ولهذه الآية نظائر ، منها ما هو عام كهذه الآية ، وذلك كقوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال تعالى : {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]
وأما الآيات المفصلة :
فما من رسول يأتي إلا ويقول لقومه : {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف: 59] .
اقرأ سورة الأعراف ، اقرأ سورة هود وغيرهما من السور تجد أن كل رسول يقول لقومه : {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } ، قال تعالى عن نوح عليه السلام : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] وقال عن هود عليه السلام : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف: 65] وقال عن صالح عليه السلام : {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف: 73] والآيات في مثل هذا كثيرة .
ومن هنا نعلم : أن توحيد الألوهية هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ، أما توحيد الربوبية فقد كان الكفار يقرون به ، كما في قوله تعالى : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } [يونس: 31] والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة جدا .
أما الآية التي نحن بصدد الحديث عنها فهي قوله تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: 36]
هذه الآية صُدرت بثلاثة توكيدات ، والمؤكدات في اللغة العربية لها مغزى ، لأن البلاغيين يقسمون الخبر إلى ثلاثةأقسام :
أولا : خبر ابتدائي
الثاني : خبر طلبي
الثالث : خبر إنكاري
فالخبر الابتدائي : أن تذكر للمخاطب شيئا يجهله ، فلا تؤكد له .
أما الخبر الطلبي : فهو أن تذكر للمخاطب شيئاً مترددا فيه ، فهذا يُستحسن أن يؤكد له الكلام .
والخبر الإنكاري : أن ينكر المخاطب شيئا تذكره له ، فهذا يجب أن يؤكد له الكلام ، ولا يستحسن بل يجب ، وكلما كان الإنكار منه أكثر كلما كانت التوكيدات أكثر ، والتوكيدات كثيرة .
فقوله تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: 36]
فيه تأكيد على أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أُنكرت رسالته من قِبل قومه ، فيه بيان أنه ليس بدعاً من الرسل : {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } [الأحقاف: 9] فقد كانوا ينكرون رسالته صلى الله عليه وسلم .
فجاءت هذه المؤكدات ، وهي ثلاثة مؤكدات : اللام ، والقسم المقدَّر ، وكلمة ” قد “
ففيه توكيد بأن الله عز وجل قد بعث في كل أمة رسولاً .
وكلمة ” قد ” هنا للتحقيق :
أي هذا متحقق ، ما هو ؟ إرسال الرسل .
لأن ” قد ” لها ثلاثة معاني :
إما أن تكون للتحقيق كما هنا ، وكما في قوله عز وجل : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} [المؤمنون: 1] أي تحقق فلاحهم .
وتكون للتقليل : كقولك : ” قد ينجح الكسلان “
وتكون للتقريب : كقول المؤذن في الإقامة : ” قد قامت الصلاة ” أي قرب قيامها .
وقوله : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا } أي أرسلنا
ويدل لهذا المعنى آيات كثيرة ، كما في قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وكقوله تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] فدلَّ على أن معنى ( بعثنا ) أي أرسلنا
وكلمة : ” البعث ” تدل على الإحياء ، فدلَّ على أن إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام إحياء وحياة للأمم ، قال تعالى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } [الأنعام: 122] أُحيي بهذه الرسالة .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ }
كل من صيغ العموم ، أي أن ما من أمة إلا وقد بُعث فيها رسول ، ولهذه الآية نظائر ، منها قوله تعالى : {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] .
ولو اعترض معترض وقال : ” إن هناك من لم يأتهم رسول ، وهم أهل الفترة ، قال تعالى : {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [يس: 6] وقال تعالى : {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46] وفي آية أخرى : {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3] فما وجه الجمع ؟
وجه الجمع حسب ما استبان لي والله أعلم : أن القوم يختلف عن الأمة ، لأن الآيات جاءت بذكر القوم ، أما في هذه الآية التي معنا وأمثالها فجاء الإرسال في الأمة قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ }
وقال تعالى : {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] .
والأمة ترد في القرآن على أربعة معاني :
إذا أتتك كلمة ” أمة ” فهي تكون على أحد هذه المعاني الأربعة :
أولا : تكون الأمة بمعنى الجماعة ، كما هنا .
ثانيا : بمعنى الزمن : كقوله تعالى عن السجين الذي مع يوسف عليه السلام {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] يعني بعد زمن ، وقال تعالى : {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8]
ثالثا : بمعنى الملة والعقيدة : كقول الكفار : {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } [الزخرف: 22] وكقوله تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] .
رابعا : بمعنى الإمامة :
قال تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [النحل: 120] يعني إماما يُقتدى به في الخير .
وإيراد الأمة بمعنى الطائفة أو الجماعة كثير جدا .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً }
لو سأل سائل على غرار ما صُدِّر الحديث عنه في هذا المجلس فقال : ما الحكمة من إرسال الرسل ؟
الحكمة من إرسال الرسل من بينها : الدعوة إلى عبادة الله عز وجل ، والدليل قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .
ومن بين الحكم : إقامة الحجة على الناس :
قال تعالى : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً }
يسأل سائل فيقول : من هي هذه الأمة التي بُعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب : النبي صلى الله عليه وسلم أُرسل للجميع :
قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } [سبأ: 28] وقال عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيح : ( أُعطيتُ خمسا لم يعطهن أحد قبلي ) من بينها ( كان الرسول يُبعث في قومه خاصة وبُعثت في الناس عامة )
ولذا قال صلى الله عليه وسلم – كما عند مسلم – : ( والله لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كان من أهل النار )
وفي هذا الحديث : دلالة على أنه يجوز أن يُطلق على الناس كافة أمة ، وإنذاره عليه الصلاة والسلام لمن بلغته الدعوة ، ويدل له ما جاء في هذا الحديث ، علَّق الحكم على السماع ، قال : ( والله لا يسمع بي ) فمن لم يسمع فليس داخلا في الإنذار ، ويؤكد هذا قوله تعالى : {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام: 19]
فرسالته عليه الصلاة والسلام لجميع أهل الأرض .
لو قال قائل : في حديث الشفاعة ما يعارض – أي ما يعارض تفضيله عليه الصلاة والسلام على الرسل بأن دعوته عامة ودعوة غيره خاصة – فالناس يأتون إلى نوح عليه الصلاة والسلام ، ويقولن له : ( أنت ؤول رسول أرسل إلى أهل الأرض ) ولم يقولوا : ” أنت أول رسول إلى قومك ” ؟
فالجواب عن هذا التعارض أن يقال :
إن قوم نوح هم الوحيدون في الأرض أول إرساله .