التوحيد الموسع لكتاب التوحيد
الدرس ( 8 )
قوله تعالى :
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}
[النحل: 36] الجزء الثاني
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال المصنف رحمه الله :
قوله تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: 36]
قوله تعالى : { فِي كُلِّ أُمَّةٍ }
( كل ) من صيغ العموم ، أي أن ما من أمة إلا وقد بُعث فيها رسول .
يسأل سائل فيقول : أهل الفترة من هم ؟
الجواب :
أهل الفترة أشار الله عز وجل إليهم : قال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا } يعني لئلا تقولوا { مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [المائدة: 19]
وهذه الفترة التي بين نبينا عليه الصلاة والسلام وعيسى عليه الصلاة والسلام اختلف العلماء في تحديدها بالسنين :
والصحيح : ما جاء في صحيح البخاري عن سلمان رضي الله عنه : ( أنه قال : ” بينهما ستمائة سنة ” )
وهذا قول صحابي مما لا مجال للرأي فيه ، فيأخذ حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد اختلف العلماء في أهل الفترة : هل هم في النار لكفرهم أم أنهم معذرون لعدم مجيء رسول إليهم ؟
قال بعض العلماء : هم في النار لكفرهم ويستدلون على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة ، فمن كتاب الله عز وجل :
قوله تعالى : {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [المائدة: 72] ومنها قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] ومنها قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [البقرة: 161] وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 91] وهذه آيات عامة وهي كثيرة .
وأما من السنة :
ما جاء في صحيح مسلم : ( أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه الذي مات في الجاهلية ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ” هو في النار ” فلما ولَّى دعاه ، وقال : ” إن أبي وأباك في النار )
ومنها ما جاء عند مسلم قوله عليه الصلاة والسلام : ( استأذنت ربي أن أزور أمي فأذن لي ، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي ) فدل على أنها كافرة ومصيرها النار ، ما الدليل ؟ قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة: 113]
ومن الأدلة أيضا : وهي أدلة نظرية مبنية على نصوص ، فهذا الدليل يقول إن هناك بقايا لدعوة الرسل السابقين كإبراهيم عليه الصلاة والسلام وغيره
، ولذا كانت قريش تحج البيت ، وكانت تصوم عاشوراء كما في صحيح البخاري ، ويدل لهذا أن ورقة كان على دين النصارى ، وقد قال تعالى : {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ } استثنى { إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] فدل على أن هناك بقايا من دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام .
ويدل له قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب )
والقول الآخر : أنهم معذورون :
ولهم أدلة :
من بينها قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فحكمته البالغة تأبى أن يعذب أحداً من غير إرسال رسول ، ولذا قال تعالى : {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } و ( كلما ) تفيد العموم في الأزمان {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ } [الملك: 8، 9] فدلَّ على أن عدم مجيء الرسول عذر يعذر به .
ومنها قوله تعالى : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]
ما هو الراجح ؟
القول الأول يختاره النووي رحمه الله .
والراجح :أن ينظر إلى القواعد الشرعية ، والقواعد الشرعية تقول : إنه متى ما أمكن الجمع بين الأدلة وجب ، وتقول ” إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ” وإمكان الجمع هنا متيسر :
فالراجح جمعا بين الأدلة :
أن أهل الفترة يجرى لهما اختبار يوم القيامة ، وحقيقة هذا الاختبار : أنه قد جاء في مسند الإمام أحمد : قوله عليه الصلاة والسلام : ( أربعة يحتجون يوم القيامة : الأصم ، والأحمق ، والهرم ، ومن مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : يا ربي جاء الإسلام ولا أسمع شيئا ، ويقول الأحمق : يا ربي جاء الإسلام وما أعقل شيئا والصبيان يرمونني بالبعير، والهرم يقول : يا ربي جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، ومن مات في الفترة يقول يا ربي لم يأتني رسول ،فيأخذ الله عز وجل عليهم مواثيقه ليطعنه ، فيرسل إليهم أن يدخلوا النار ، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن لم يدخلها سُحب إليها )
فيكون هذا الحديث فاصلا في المسألة .
وأما ما ذكره من قال : إنهم لا يعذرون ، نقول :
إن قوله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [البقرة: 161] وما أشبهها من أدلة نقول هي أدلة عامة ، والقاعدة في الأصول ” أن العام لا يتعارض مع الخاص ؛ لأن العام يكون مخصصا “
وأما استدلالهم بقوله عليه الصلاة والسلام في حق والده ( إنه من أهل النار ) وكذا ” استئذان الرسول عليه الصلاة والسلام ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له ” هذان محملان على أنه عليه الصلاة والسلام أُخبر عن حالهما ، وأنهما ممن لا يدخلان النار يوم القيامة بأمره عز وجل .
وأما قولهم : إذ قالوا إن قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]
قالوا : إن هذا العذاب هو العذاب في الدنيا ، فلا يعذبون في الدنيا ، وإنما يعذبون في الآخرة .
والجواب عن هذا :
أن هذا تقييد لما أطلقته النصوص ، فقوله عز وجل : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] يشمل العذاب الدنيوي والآخروي .
وأما قولهم : ” إن حديث أبي هريرة ضعيف ” وهو ما ذكر لكم آنفا ( أربعة يحتجون يوم القيامة )
وأما قولهم : أنه ضعيف لكونه تكليفا يوم القيامة ، ويوم القيامة لا تكليف فيه ، إنما فيه الجزاء .
فالجواب : أن نفي التكليف إنما هو في الجنة ، ولا ينفي وقوع التكليف في عرصات يوم القيامة ، بدليل أن الله عز وجل يأمر المؤمنين والمنافقين بالسجود ، فيسجد المؤمنون ، ولا يستطيع المنافق السجود ، كما قال عز وجل : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] ونحو ذلك من الأدلة التي جاءت بوقوع التكليف في العرصات .
لو قال قائل : هل هناك فترة تكون في آخر هذه الأمة ؟
الجواب :
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء ولا رسول يأتي بعده ، قال عز وجل : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وقال عليه الصلاة والسلام : ( أنا العاقب ) أي : لا نبي بعدي .
ورد عند ابن ماجه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يدرس الإسلام ) يعني يذهب ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ) يعني زخارفه ( فلا يعرف الناس لا صلاة ، ولا صيام ، وإنما يقولون ” أدركنا آباءنا على هذه الكلمة ، وهي ” لا إله إلا الله ” فنقولها .
فقيل لحذيفة : ” أتنجيهم هذه الكلمة من النار ؟
قال : نعم تنجيهم من النار )
فهذا يدل على أن هناك زمنا تدرس فيه معالم الإسلام ، فيصبح أهله – أي أهل ذلك الزمن – يصبحون معذورين .
هل قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172، 173]
هل هذه الآية لها متعلق أو أن من ذكر فيها يدخل في أهل الفترة ؟
هذه الآية اختلف في معناها وهي في سورة الأعراف ، وهذه الآية ليست لها متعلق بما نحن فيه ، وإنما هي مسألة تتعلق بالميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم يوم خلقه الله عز وجل ، وأخرج ذريته من صلبه ،فقد جاءت بذلك الأحاديث .
وبعض العلماء يقول : إن هذه الآية ليس لها علاقة بالميثاق ، لأن أخذ الذرية هنا أخذ من ظهور بني آدم لا من آدم ، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) فوجود الفطرة مع السماع عن هذا الدين لا يكون عذرا له ، ولا قال بعض العلماء في آية الأعراف { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } عرَّفهم ما يستدلون به على وحدانيته عز وجل بما أودع فيهم من الفطر السليمة ، وهذا هو الأصوب من قولي العلماء في تفسير هذه الآية .
سأل سائل فقال : لقد قلتم إنه سيأتي زمن يدرس الإسلام فيه كما يدرس وشي الثوب ، وأنهم لا يعرفون لا صلاة ولا صيام ، ولا يعرفون غلا كلمة ” لا إله إلا الله ” فتدخلهم هذه الكلمة الجنة وتنجيهم من النار ،هناك حديث بأن الساعة تقوم على شرار الخلق ، فكيف يكون شرار الخلق ويدخلون الجنة ؟
الجواب :
المراد ( بشرار الخلق ) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ( من تقوم عليهم الساعة وهم أحياء ) فالمؤمنون تأتي ريح باردة من قبل الشام فتقبض أرواحهم من بينهم هؤلاء ، وقد يكون هؤلاء قبل قيام الساعة ، يعني هذه المدة التي ذكرت هنا ليست معلومة ، هل هي في آخر الأمة هل هي في الوسط هل هي ما قبل الأخير ؟ الله أعلم .