الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس (86 )
حديث (من عقد لحيته أو تقلد وترا …)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال المصنف :
وروى الإمام أحمد عن : ” رويفع ” قال :
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا رويفع ، لعل الحياة ستطول بك فأخبر الناس : أن من عقد لحيته ، أو تقلد وترا ، أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه ))
الشرح :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
رويفع :
ــــــــــــــــــــــ
هو رويفع بن ثابت
وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن رويفع توفي سنة ست وخمسين
وقيل ك ثلاث وخمسين
ويكون بذلك رويفع قد طال عمره .
ففي هذا علم من أعلام النبوة
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( يا رويفع )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الياء : ــــــــــــ حرف نداء
فيحتمل أن رويفع كان بعيدا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام
ويحتمل أن يكون قريبا
فإن كان بعيدا فالأمر واضح
وإن كان قريبا فإن المقصود من هذا النداء هو تعظيم هذا الأمر حتى يصغي رويفع بسمعه وقلبه إلى ما سيقوله النبي عليه الصلاة والسلام
ويستفاد من هذا :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنه يجوز أن يذكر الإنسان باسمه ولا غضاضة في ذلك
لكن المعروف لدى العلماء أن أفضل ما يتشرف به العبد أن يُكنَّى بأحب الكنى إليه
ولذا يقد يكني النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه في بعض الأحيان
فيجوز هذا ، ويجوز هذا
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( لعل الحياة ستطول بك )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لعل : ــــــــــــــ الأصل فيها أنها للترجي
والترجي : أي ما يرجوه الإنسان ، وقد يقع وقد لا يقع
لكن الترجي كما قال ابن حجر في الفتح : (( إذا كان من الله عز وجل أو من الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه واقع ))
ولذا :
ـــــــــــــــ فإن قوله في الصحيحين لما قال لأبي بكر لما أخبره عن أبواب الجنة ، قال : (( وإني لأرجو أن تكون منهم ))
فهذا سيقع
فالنبي عليه الصلاة والسلام رجا أن تطول برويفع الحياة فوقع
ولذا أصبح علما من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ستطول بك )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه دليل على أن هذه الحياة الدنيا زائلة
، وأن الإنسان مهما طال عمره فإنه سيفنى ويموت
ومن ثم يسرد علينا سؤال :
هل يجوز أن يدعو إنسان لآخر بإطالة العمر ؟
الجواب عن هذا “:
ــــــــــــــــــــــــــــ
يجوز
ولذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لأنس : (( اللهم أطل عمره ))
لكن هذا الدعاء يقيد بالخير
بمعنى : اللهم أطل عمره على الخير أو على الطاعة
ويستدل على هذا بقول النبي عليه الصلاة والسلام عند الترمذي : (( خيركم من طال عمره وحسن عمله ))
ســ / ورد أن صلة الرحم تطيل العمر ــــــــــ كيف ذلك ؟
جـ // يقول النبي عليه الصلاة والسلام : (( من أحب أن يطال في عمره وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه
))
فإذا وصل رحمه طال عمره
ما هو طول العمر هنا ؟
اختلف في ذلك العلماء
يقول بعض العلماء :
إن إطالة العمر هنا إطالة حقيقية
كيف يحصل هذا :
يحصل هذا أن الله قد عمر هذا الإنسان وقدر في اللوح المحفوظ أن هذا الإنسان إذا وصل رحمه سيطول عمره إلى سنة كذا
فالملائكة قد يُنسخ ما بأيديهم إذا وصل هذا العبد رحمه فيتغير ما بأيديهم من الصحف
لكن ما كتبه جل وعلا في اللوح المحفوظ ثابت
قال عز وجل : {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }
فالمحو : ــــــ إنما هو ما بأيدي الملائكة
وقال بعض العلماء :
إن إطالة العمر هي إطالة معنوية
ما هي هذه الإطالة المعنوية ؟
قال بعضهم : أن يجعل الله من بعده ذرية صالحة تدعو له
وذلك لأن الحياة الحقيقة هي الحياة التي تكسب فيها العمل الصالح
فليست حياتك هي المدة التي تقضيها في هذه الدنيا إنما هي الحياة التي تطيع فيها الله عز وجل
ولذا يوم القيامة يقول الله عز وجل عن المفرطين : ((يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ))
وقال تعالى : ((أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ ))
وقال تعالى : ((حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ))
أي على ما فرطنا في الدنيا من القيام بالواجبات وترك المنهيات
وقال بعض العلماء :
إن هذه البركة تكون في كثرة العمل الصالح أي يوفقه الله عز وجل لأن يعمل أعمالا صالحة فيحصل بذلك إطالة العمر إطالة معنوية
وقال بعض العلماء :
هو الأثر الذي يبقيه بعد موته فكأنه حي وذلك كأن يخلف ابنا صالحا فيستفاد منه كأنه حي
وهناك توجيهات أخرى
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( فأخبر الناس )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأخبر : هذا أمر منه عليه الصلاة والسلام لرويفع
بماذا ؟
بأن يبلغ الناس
فهذه وصية منه عليه الصلاة والسلام لرويفع بأن يدعو إلى الله
وليعلم : أن هذا المذكور من العلم ليس محصورا به رويفع ، وإنما هو له ولغيره
ولذا قال : (( فأخبر ْ الناس ))
والناس : ـــــ هنا الناس الذين في عصره أو في محيطه ، وليس المراد العموم لأن هذا قد يستحيل
فيجوز إطلاق اللفظ العام على الخاص
وسبق بيان هذا
ويقول العلماء :
إن كلمة الناس يستفاد منها معان في اللغة :
المعنى الأول :
ــــــــــــــــــــــ
أن هذه الكلمة تدل على الحركة
ولذا أم زرع كما جاء في الصحيحين من حديث أم زرع قالت : (( أناس من حلي أذني ))
بمعنى : أنه أعطاها حليا فوضعته في أذنها حتى إن هذا الحلي ليسمع له حركة
وهذا يدل على أن الإنسان بطبعه متحرك
قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( أصدق السماء حارث وهمام ))
لماذا كان هذان الاسمان أصدق الأسماء ؟
لأن كل إنسان يهم ويتحرك ، لا يمكن أن يبقى هذا الإنسان هكذا
ولذا السلف يقولون : (( نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية ))
لابد أن تكون هناك خواطر بالنفس
ومن ثم هنا حركة ولذا قال شيخ الإسلام : ” الإنسان متحرك بطبعه “
ومن المعاني :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 ـــ الأنس :
ــــــــــــــــــــــــــ
فإن بعضهم يأنس ببعض
الإنسان يأنس بغيره ولذا لا يستطيع الإنسان أن يعيش وحيدا فريدا
ولذا شرع الزواج أن فيه أنسا : (( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ))
لكن أعظم الأنس أن يأنس الإنسان بعبادة ربه
ولذا يقول بعض السلف : ” مساكين أهل الغفلة خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب ما فيها !
قيل : وما أطيب ما فيها ؟
قال : ” ذكر الله والأنس به “
3 ـــ أن كلمة ” الناس ” توحي بالنسيان ، وذلك أن الإنسان بطبعه ينسى
ولذا قال عليه الصلاة و السلام في الصحيحين من حديث ابن مسعود : (( إنما أنا بشر أنسى كما تنسون )) .
(( فأخبر الناس أن من عقد لحيته )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العقد :
ــــــــــــــــــ
هو الربط
عقدت الشيء: ربطته
ولذا : السحرة يعقدون ويربطون ما يريدون أن يسحروا به :
قال تعالى : {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ }
والنبي عليه الصلاة والسلام لما سُحر عُقد له إحدى عشرة عقدة
فهو الربط
واللحية : جمعها لحى أو لحاً بضم اللام أو كسرها
الأسنان إلى الذقن
والذقن : هو مجمع اللحيين مع شعر الخدين
ولذا لا يجوز أن يحلق ما على الخدين
هذا هو تعريف اللحية في مفهوم ولغة العرب
والعنقفة :
ـــــــــــــــــ
وهو الشعر الذي ينبت تحت الشفة السفلى داخل في حكم اللحية
ولذا لما أخبر ” أنس ” في شيب النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( في رأسه وفي لحيته عنقفة )) فلم يفصل بين اللحية والعنقفة بالواو ، وإنما كأنما العنقفة هي من اللحية
ـــــ وعقد اللحية : لم يبين الرسول عليه الصلاة والسلام ما سببها :
لم يقل : ” من عقد لحيته تكبرا “
لم يقل : ” من عقد لحيته تأنثا “
لم يقل : ” من عقد لحيته دفعا للعين “
لم يقل : ” من عقد لحيته دفعا للضرر “
ومن ثم :
ــــــــــــــــــ
فإن حكم النبي عليه الصلاة والسلام باق في حق من عقد لحيته ، قد يشمل العقد ما يُخشى من العين أو من ضرر
وقد يكون للتكبر ، وقد يكون للتأنث أو لغير ذلك من الأسباب
فقوله :(( أن من عقد لحيته )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا أول أمر ذكره النبي عليه الصلاة والسلام لرويفع
(( أو تقلد وترا )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو هنا للتقسيم أو للتوزيع
بمعنى :
ـــــــــــــ
أن من فعل هذا أو فعل هذا أو فعل هذا (( فإن محمدا بريء منه ))
ولا يعني أن البراءة تكون في حق من جمع هذه الخصال الثلاث ، وإنما من أتى بواحدة فإن هذا الحكم ، وهو التبرؤ باق في حقه
ففرق بين ” أو ” التي للتقسيم
و ” أو ” التي بمعنى الواو
وقوله : (( أو تقلد وترا )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مر معنا في حديث أبي بشير
(( أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت ))
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ( أو استنجى برجيع دابة أو عظم )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاستنجاء : مأخوذ من النجو ، وهو الارتفاع
ومن ثم : فإن التعبير بالاستنجاء في ذكر الرجيع ، والعظم دون ربطه بالماء فيه دلالة على أن الاستجمار يطلق عليه استنجاء
لكن إذا اجتمعا فالاستنجاء بالماء والاستجمار بالحجارة ونحوها ، وذلك مثل : (( الكسوف والخسوف ))
ولذا في أحاديث كسوف الشمس
ولم يحصل الكسوف إلا مرة واحدة في عصر النبي عليه الصلاة والسلام
وأما خسوف القمر فلم يحصل البتة
بعض الصحابة يقول : (( خسفت الشمس ))
وبعضهم يقول : (( كسفت الشمس ))
فيصح الوجهان باعتبار إن أحدهما يجوز ان يطلق عليه لفظ الآخر عند الإفراد
وقوله : (( رجيع )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرجيع : هو فضلات الدواب
وأصله هو الطعام ، فكان الطعام رجع عن حالته الأولى ، فلما كان طعاما لم يكن بعد ذلك طعاما إنما هو رجع عن حالته وتغير
وقوله : (( برجيع دابة )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أطلقها : وهذا يشمل جميع الرجيع سواء كان رجيعا لدواب يؤكل لحمها أو لم يكن
ولذا :
ـــــــــــــ
فإن الرجيع لا يجوز الاستنجاء به حتى ولو قلنا بطهارته ، لأن القاعدة على رأى الجمهور : ” أن كل ما يؤكل لحمه فبوله وروثه وممنيه وقيئه طاهر “
فالعلة هي تحريم الاستنجاء برجيع ما يؤكل لحمه ليست علة النجاسة ، إنما هي تنجيسه على دواب الجن
قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( ولكم كل بعرة علف لدوابكم ))
وأما إن كان لا يؤكل لحمه فإنه نجس
ولذا النبي عليه الصلاة والسلام لما أتى إليه ابن مسعود بروث حمار قال : (( هذا ركس ))
يعني : نجس
وقوله : (( أو عظم )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال كما عند مسلم : (( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما ))
والعظم هنا : يدخل فيه السن ، وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( وأما السن فعظم ))
وقد أطلق النبي عليه الصلاة والسلام العظم مع أنه قد يكون عظم مذكاة يؤكل لحمها
والعلة في ذلك أنه ينجس وهو طعام لإخواننا من الجن
وإن لم يكن من مذكاة فإنه نجس
ويستفاد من هذه الجملة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنه يحرم أن يُستنجى برجيع دابة أو عظم
لو قال قائل :
ما الدليل ؟
نقول :
ــــــــــــ
تبرؤ النبي عليه الصلاة والسلام منه بل إنه من الكبائر
لأن الكبيرة على ما رجَّحناه ، وهو رأي شيخ الإسلام رحمه الله
مضبوطة بوصف : ” وهو : ما توعد الله عليه بلعنة أو غضب أو نار أو براءة أو حدّ في الدنيا “
والنهي يقتضي الفساد
بمعنى : أن من تطهر بهذه الأشياء ولو كان طُهر موضع النجاسة فإنه لا يكون تطهيرا في الشرع
ومحل هذا في الفقه ، فمن أراد الاستزادة فليرجع إلى الفقه الموسع
ثم إن قوله : (( فإن محمدا بريء منه )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد : هو النبي عليه الصلاة والسلام ، فهو يخبر عن نفسه خبرا مجردا
وهو في بعض الأحيان يقول : ” (( فإن محمدا بريء منه ))
وأحيانا يقول : (( أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب ))
وقوله : (( بريء منه )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التبرؤ : ــــــــــ هو التخلي
ولو قال قائل : كيف يتخلى النبي عن هذا الفاعل ؟
فيقال :
ـــــــــــــــ
إن كان في حياته فشيء مدرك
وإن كان بعد وفاته فإن المسلم بحاجة إلى شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام
ســ / ما معنى ” فليس منا ”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جــ / يعني البراءة منه
فالمعنى هو نفس المعنى اللهم إلا إن قوله : (( فليس منا )) كلمة تهديد مطلقة
قد يفهم منها الإنسان أفهاما متعددة
أما هذا فهو نص صريح منحصر في البراءة
فقوله : (( ليس منا )) قد يكون المعنى : ” ليس على طريقتنا “
وقد يكون أننا براء منه
فالمعنى واحد
إلا أن كلمة ” ليس منا ” كلمة مجملة يفهم منها أفهاما متعددة
وللجهمية تفسير لها يأتي بيانه إن شاء الله في الأبواب القادمة