الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس (9) قوله تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ….} ( 3 )

الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس (9) قوله تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ….} ( 3 )

مشاهدات: 413

التوحيد الموسع لكتاب التوحيد

الدرس ( 9 )

قوله تعالى :

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: 36] الجزء الثالث

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً }

جاء في كتاب الله عز وجل أن خير هذه الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم :

كما في سورة آل عمران قوله تعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ }  أي في اللوح المحفوظ ، وقيل : ” إن الكاف زائدة ، فأصل الآية : ” أنتم خير أمة أخرجت للناس “

وهذه الأمة فاقت في خيريتها سبعين أمة  ، فقد جاء عند الترمذي بإسناد حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قول الله تعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ  } قال عليه الصلاة والسلام : ” إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها ” )

فدل هذا الحديث على أن عدد الأمم : سبعون أمة .

وقال بعض العلماء : ” إن ذكر السبعين هنا ليس للتحديد وإنما للمبالغة ، كقوله تعالى : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]  فلو زاد عليه الصلاة والسلام في استغفاره للمنافقين على سبعين أيغفر لهم ؟

الجواب : لا ، وإنما المراد المبالغة ، فيكون أصل الحديث على قولهم : ( إنكم تتمون خير أمة من الأمم )

وعلى كل فهذه الأمة حازت هذا الفضل في الخيرية ، لأن محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام هو نبيها ، فهو خير الرسل وأمته خير الأمم .

ولما كان عليه الصلاة والسلام هو آخر الرسل جعل الله عز وجل لهذه الأمة بعد رسولها عليه الصلاة والسلام مجددين في كل مائة سنة ، جاء في سنن أبي داود قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها )

ولذا قد يُلقب بعض العلماء بأنه ” مجدد “

قوله : { رَّسُولاً }

الرسول يختلف عن النبي :

فالرسول : هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه .

وأما النبي : فقيل هو الذي يجدد وينشر دين النبي السابق .

ولكن الأقرب في تعريف النبي : ” أنه من أوحي إليه بشرع ، ولم يؤمر بتبليغه “

لو قال قائل : ما الفائدة من أنه يوحى إليه بشرع ولا يؤمر بتبليغه ؟

الجواب :أن هذا إكرام وفضل من الله عز وجل على هذا النبي ، بحيث يكون في عداد وفي مراتب الأنبياء ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : ( إن يكن منكم محدثون – أي ملهمون – فإنه عمر ) ولذا عمر توافق آراؤه ما ينزل من كتاب الله عز وجل

فقد جاء القرآن موافقا لرأي عمر رضي الله عنه في مواضع متعددة .

وقد جاء في المسند – والعلماء مختلفون في تضعيفه وتحسينه ( أن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ، وأن عدد الرسل عليهم الصلاة والسلام ثلاثمائة وثلاثة عشر )

فمنهم من يحسنه كالألباني رحمه الله في مشكاة المصابيح ، ومنهم من يضعفه ، وهو أيضا في صحيح ابن حبان .

وأما عدد الرسل في كتاب الله عز وجل فهم ” خمسة وعشرون ”

وظاهر قوله عز وجل : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]  ظاهره : أن ما ذكر في القرآن ظاهره أنهم رسل ؛ لأن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا ، فالنبي محمد عليه الصلاة والسلام نقول : ” هو نبي ورسول “

بينما ” آدم ” نبي وليس برسول ؛ لأن أول الرسل ” نوح عليه الصلاة والسلام “

ولما سئل عليه الصلاة والسلام – كما عند ابن حبان – عن آدم قال :  ( هو نبي مكلم ) فآدم نبي مكلم وليس برسول .

قوله تعالى : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ }

( أن ) في اللغة قد تكون مصدرية ، وقد تكون تفسيرية  ، وقد تكون زائدة ، وقد تكون مخففة ، فأحوالهما متعددة .

و ( أن ) هنا : تفسيرية

وضابط التفسيرية : أن يتقدم قبلها ما يدل على القول دون حروفه ، مثال ذلك قوله عز وجل : {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} [طه: 77] ” أن ” هنا تفسيرية ، لم  ؟ لأن الوحي في بنية كلمته ليس فيه حروف القول ، ، وإنما فيه معنى القول .

والمراد :  الوحي التشريعي حتى لا يدخل علينا شخص فيقول ، إن زكريا قال عز وجل عنه : {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم: 11] يعني : أشار إليهم

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى } [طه: 77]  نريد أن نفسر هذا الوحي : { أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي }  .

قوله تعالى هنا  : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا }

يعني أرسلنا ، والإرسال يتضمن معنى القول

{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً }هذا الإرسال فُسر بماذا ؟ { اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ }

فضابط ” أن ” التفسيرية : أن يتقدمها ما يدل عل معنى القول دون حروفه

قوله تعالى : { أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ }

عبادة الله واجتناب الطاغوت هو الاستمساك بالعروة الوثقى ، من هو المستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ؟

الجواب : هو من عبد الله واجتنب الطاغوت ، قال الله عز وجل {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] المخلص لله عز وجل والمتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعماله هو الذي عبد الله واجتنب الطاغوت ، وهو الذي استمسك بالعروة الوثقى .

ما الدليل ؟

قال عز وجل : {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [لقمان: 22] قوله : {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ } هذا هو الإخلاص { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي في عمله ، ومن فعل هذا الشيء العظيم فإن الله عز وجل قد وعده بالأجر ، وأكرم به من أجر ، قال عز وجل : { بَلَى }  رد على من ؟

على اليهود والنصارى : {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111، 112] 

وهؤلاء اليهود والنصارى أبعد الناس عن هذه الأعمال الطيبة الجليلة ، كما قال تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم }

هذا خطاب لأهل الكتاب {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60]

فيُفهم من ذلك أن من عبد الله واجتنب الطاغوت، فمكانه حسن وهو أهدى الناس سبيلا ، وقال عز وجل  : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) } [النساء: 51] ما جزاء من آمن بالطاغوت وعبده ؟

قال تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } [النساء: 52] .

قال عز وجل عن الطاغوت وتأثيره في أتباعه : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } ماذا يصنعون بهم ؟ { يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] 

وهذا الإخراج من النور إلى الظلمات دعاهم إلى أن يقاتلوا أولياء الله

{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]

فقوله تعالى : { أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ  }

{ اعْبُدُواْ اللّهَ } هذه صيغة أمر ، وقد أُمر بالعبادة جميع الناس كما في أول نداء في كتاب الله عز وجل في سورة البقرة : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 21]  فأمر الناس بعبادة الله عز وجل ، وأُمر على وجه التخصيص بالعبادة أمر المؤمنون ، قال عز وجل في سورة الحج : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ } [الحج: 77] والقاعدة : ” أن الأمر بالشيء لمن هو خارج عنه أمر بالدخول فيه ، والأمر بالشيء لمن هو داخل فيه أمر بإتتمامه والاهتمام به “

فقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ } يشمل المؤمن والكافر ، فهو أمر بأن يعبد الناس  الله عز وجل .

وأما قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ }  فالمؤمنون عباد لله عز وجل  ومع ذلك أمروا بالعبادة ، والأمر هنا بتتميم وتكميل هذه العبادة .

والعبادة كما سبق تعريفها هي :اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ”

قوله تعالى : { اعْبُدُواْ اللّهَ } صيغة الأمر ، والقاعدة الشرعية تقول : ”  إن الأمر بالشيء نهي عن ضده “

فقوله عز وجل : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } نهي عن ترك الصلاة .

قوله عز وجل : { اعْبُدُواْ اللّهَ } نهي عن الشرك

ولذا جاءت جملة : { وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ }

ففي هذه الآية : دلالة على هذه القاعدة ، وهي : ” أن الأمر بالشيء نهي عن ضده “

فهو جل وعلا لما أمر بالعبادة نهى عن عبادة الطاغوت .

قوله تعالى : { وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ }

( اجتنبوا ) : أي اتركوا ، ولماذا اختلفت الصيغتان ؟

بمعنى لماذا أوتي بصيغة ( اجتنبوا ) مكان ” اتركوا ” ؟

الجواب :

لأن ( اجتنبوا ) أبلغ من كلمة اتركوا  ، فكلمة” اجتنبوا ” نهي عن الفعل وعن القرب منه ، فليس المعنى أن تتركوا عبادة الطاغوت بل كونوا في جانب بعيد عن عابدة الطاغوت .

” والطاغوت “ عُرِّف بتعريفات كثيرة :

فبعضهم قال : ” هو من عُبد من دون الله وهو راضٍ “

فكل ما عُبد من دون الله وهو راضٍ فهو طاغوت

وبعض المؤلفين يقول في تعريف الطاغوت : ” من عُبد من دون الله ” ويطلقها هكذا ، وهذا فيه قصور ،  لم ؟

لأنه ليس كل من عُبد من دون الله طاغوتاً  ، فعيسى عليه الصلاة والسلام عُبد من دون الله ، والملائكة عبدت من دون الله .

لكن هل الملائكة وعيسى راضون بهذه العبادة ؟

الجواب:  لا ، ولذا يشترط أن يؤتى بهذه الجملة الحالية ، وهي جملة ” وهو راضٍ “

أما إطلاقها بقولهم : ” من عبد من دون الله ” ففيه قصور

بل التعبير الصحيح السليم ” من عبد من دون الله وهو راضٍ “

وبعض العلماء يقول : ” إن الطواغيت كثر “

كما ذكر الشيخ ” محمد بن عبد الوهاب ” رحمه الله في الأصول الثلاثة ،” قال : والطواغيت كثيرون ، ورؤوسهم خمسة :  إبليس لعنه الله، ومن عبد وهو راضٍ ، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادعى شيئا من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله “

فجعل رحمه الله رؤوس الطواغيت خمسة .

وبعض العلماء : وهو ابن القيم رحمه اله يعرف الطاغوت بتعريف شامل جامع ، فيقول : ” هو ما تجاوز به العبد حده “

قال : ” ما تجاوز ” لأن الطغيان هو المجاوزة  ، طغى : يعني تجاوز

قال عز وجل : {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] يعني ما تجاوز الماء .

فيقول رحمه الله : ” عن الطاغوت هو : ” ما تجاوز العبد حده من معبود او متبوع او مطاع ”

فمثال من تجاوز حده من معبود : ” الأصنام “

ومثال ما تجاوز حده من متبوع : ” علماء السوء “

ومثال من تجاوز حده من مطاع : ” أمراء السوء “

ومن ثمَّ إذا أتينا إلى هذا التعريف ، وجدنا ان ما ذكره الشيخ المجدد : ” محمد بن عبد الوهاب ” رحمه الله يدخل تحت هذا التعريف .

لو قال قائل : ” إن هناك ما يناقض ويخالف هذا التعريف، وهو تفسير عمر بن الخطاب رضي اله عنه لقوله تعالى : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } فسَّر الطاغوت بأنه ” الشيطان ”

وجابر رضي الله عنه فسر الطاغوت بأنه ” الكاهن ”

فيُجاب عن هذا :  بأنه لا تناقض ؛ لأن من جملة الطواغيت ” الكهان والشيطان “

والقاعدة في التفسير – كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في مقدمة أصول التفسير – قال : ” إن بعض المفسرين قد يفسر الآية بالمثال تقريبا للأذهان ، ولا يكون هذا التفسير هو التفسير العام لهذه الآية “

أوضح هذا : قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32]

بعض المفسرين يقول : ” إن الظالم لنفسه هو التارك للصلاة ، وإن المقتصد هو القائم بالصلاة المفروضة ، وإن السابق بالخيرات هو القائم بالصلوات المفروضة والتطوعية “

وبعض المفسرين يقول : ” إن الظالم لنفسه هو التارك للزكاة ،

وإن المقتصد هو المؤدي للزكاة المفروضة ، وإن السابق بالخيرات  هو المؤدي للمفروضة والنافلة “

فيكون هذا التفسير تفسيرا للآية بالمثال ولا يعني الحصر .

فنخلص من هذا إلى أن أحسن التعاريف هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله

وهو :  ” ما تجاوز به العبد حده من معبود او متبوع او مطاع “.

 

 

 

 

 

ثم قال المصنف رحمه الله : ( الآية )

فإما أن تقول : ” الآيةَ ” أو الآيةِ “

فكأنه يقول : اقرأ أو أكمل الآيةَ .

أو ” إلى آخر الآية “

وأراد من ذلك الاختصار ، إذ إنه رحمه الله أتى بموضع الشاهد ، وتتمة الآية توضح موقف الناس ممن دعوة هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [النحل: 36]

ففهمنا من تمام الآية أن هناك من اتبع الرسل وأن هناك من خالف الرسل لقوله : { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ }

ولم يبين جل وعلا في هذه الآية عدد المهتدين وعدد الضالين ، وقد بين ذلك عز وجل في مواضع متعددة من أن الضالين أكثر من المهتدين :

قال عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف: 103] وقال تعالى : {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ} [الأنعام: 119]

وقال تعالى : {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49]

وقال تعالى : {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66]

والآيات في هذا المعنى كثيرة ، ونمر إمرارة سريعة على تتمة هذه الآية

فقوله تعالى : { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ }

المراد منها هداية التوفيق ، لأن الهداية نوعان : هداية التبيين والإرشاد ، وهداية التوفيق والإلهام .

وقد عقد لها المصنف رحمه الله بابا ، وهو باب قوله تعالى : ” {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }” [القصص: 56] .

فهداية التبيين والإرشاد من الرسل والعلماء والصالحين ، لكنَّ هداية التوفيق والإلهام من الله عز وجل ، فذكر في مطلع الآية ببعثة الرسل ذكر أي هداية ؟ هداية البيان  ، وذكر في نهاية الآية : { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ }

هداية التوفيق .

وقد جاءت الهدايتان في آية ، قال عز وجل عن المتبوعين والأتباع وهم في النار : {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} [إبراهيم: 21]

{لَوْ هَدَانَا اللَّهُ} : هداية التوفيق .

{ لَهَدَيْنَاكُمْ} : هداية البيان والإرشاد

فقال تعالى : { فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ }  

تهديد ووعيد لكفار قريش الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم

{ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }

ما عاقبة المكذبين للرسل عليهم الصلاة والسلام ؟

كفار قريش يمرون عليهم

قال عز وجل في قصة لوط {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137، 138]

وقال عز وجل لكفار قريش  تنبيهاً لهم أن يعتبروا بما أحله الله بقوم لوط وأصحاب الأيكة ، قال عز وجل : { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 79] يعني في طريق واضح  تمرون عليهم .

وقال عز وجل عن قوم صالح : {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 52]

فإن كذبتم يا كفار قريش فقد يحل بكم مثل ما حل بالأمم السابقة .

ولذا كما ذكرتُ في أول هذه الآية : أن الآية أوكدت بثلاثة توكيدات  ” القسم واللام وقد “

ولذا قال عز وجل بعد قوله : { فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } قال للنبي عليه الصلاة والسلام {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ }

ولتعلم في ختام الحديث عن هذه الآية : أن الرسل عليهم الصلاة والسلام من جنس الرجال ، ولم يبعث الله عز وجل من النساء رسولة ولا نبية ، والدليل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف: 109] .

وقوله تعالى عن مريم  : قال : {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75] أثنى عليها بأنها صديقة ، ولو كانت نبية كما زعم بعض العلماء لقال  ” وأمه نبية ” لأن النبوة أعلى ممن مقام الصديق أعلى من مقام الصديقية ، ما الدليل ؟

قوله عز وجل : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } [النساء: 69]

وهؤلاء الرسل لم يبعثوا إلا من القرى لا من البادية ، قال تعالى في سورة يوسف : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]

ولا يتعارض هذا مع قول يوسف لأبويه : {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100] لأن الآية محمولة على أنهم من أهل القرى ثم سكنوا البادية ، أو أن قريتهم قريبة من البادية .

وهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام من الإنس ، وليس هناك رسول من الجن على الصحيح من قولي العلماء ، وإنما في الجن نُذر ، قال تعالى : {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]

وأما قوله تعالى : { يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130]

فظاهرها أن الرسل من الجن والإنس ؟

فالجواب عن هذه الآية :

أن كلمة { منكم }  أي من أحدكما .

وهذا أسلوب من أساليب القرآن يُذكر الصنفان في الحكم ويراد أحدهما ، كما قال بعض العلماء : في قوله تعالى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] أي من البحرين ، قالوا : والمراد أنهما يخرجان من البحر المالح لا العذب .

والآية فيها قول آخر ، فعلى كل حال فهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام إنما هم من الإنس .