بسم الله الرحمن الرحيم
فقه الحج ـ الدرس ( 16 )
محظورات الإحرام (السادس: تغطيةُ الرأس وعقد النكاح)
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
المحظور السادس: تغطية الرأس
تغطية الرأس ومنه الأذنان، لأن الأذنين من الرأس، ومثلُه تغطيةُ بعضِه، فتغطيتُهُ بأيِّ صفةٍ يُعدُّ محظوراً من محظورات الإحرام.
والمرادُ من التغطية: التغطيةُ بمُلاصق.
أمَّا المنفصل: كالخيمةِ مثلاً فجائز إذ ضُرِبَتْ القُبَّةُ للنبي ﷺ بِنَمِرَة،
ومثلُها: الشمسيَّة ودليلُ الشمسية: أن النبي ﷺ رمى جمرةَ العقبة وكان معه بلال وأسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان أحدُهما يقودُ الراحلة والآخَر يُظَلله بثوبِه.
ومثله لو حمل عفشَهُ على رأسه –على الصحيح– لأنه لا يُقصَدُ به السِّتر غالبًا،
قال ابن قدامة رحمه الله: “حتى لو قصدَ التغطية فهي شبيهةٌ بوضعِ يدِهِ على رأسه ” ولكن في هذا التعميم نظر، فإنه إن قصد بحمل العفش الستر فالعبرةُ بالنوايا، والنيةُ تُخرِجُ ما عليه غالبُ الشيء،
وفُهِمَ مِن كلامه رحمه الله، بل صَرَّحَ بذلك/ لو وَضَعَ يديه على رأسِه فلا شيء عليه لأنه متصل به كما لو وضع يديه على فرجه لم تجزئه في الستر في الصلاة،
ثم هو مأمور بمسحِ رأسه في الوضوء والنبي ﷺ اغتسل وهو محرم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لو قال قائل: لو وضع على رأسه صمغاً أو نحوَه لِحِفْظِ الشعرِ مِنَ الهوَام، فهل يَدخُلُ في المحظور؟
الجواب: لا، لأن النبي ﷺ كما أخبر ابن عمر رضي الله عنهما كما في البخاري:
رأى النبي ﷺ (يُهِلُّ مُلَبِّداً).
والدليلُ على هذا المحظور: قولُ النبيِّ ﷺ كما في الصحيحين فيمن وقَصَتْهُ دابتُهُ
“بيْنَما رَجُلٌ واقِفٌ بعَرَفَةَ، إذْ وقَعَ عن رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ – أَوْ قالَ: فأوْقَصَتْهُ – قالَ النبيُّ ﷺ: اغْسِلُوهُ بمَاءٍ وسِدْرٍ، وكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْنِ، ولَا تُحَنِّطُوهُ، ولَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فإنَّه يُبْعَثُ يَومَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا”
قال: “لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ” هذا هو الوارد في الصحيحين.
وقد جاء عند مسلم: “لَا تُخَمِّرُوا وجهه” وبالتالي اختلف العلماء:
هل تغطيةُ الوجه من المحظورات أو لا؟
واختلافُهُم ناشئٌ عن اختلافِهِم في ثبوتِ هذه اللفظة/
فبعض العلماء يقول: إنها ليست ثابتة، ولذلك فإنَّ الراوي مرةً يذكُرُها ومرةً لا يذكُرُها، حتى رُوِيَ:
” خَمِّرُوا وجهَهُ ولَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ”
وقد قال ابنُ حجر رحمه الله: لعلَّ الراوي أراد الطيب فذَكَرَ التغطية، ولأن جمْعاً من الصحابة يُغَطون وجوهَهُم كعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، وسعد بن أبي وقاص، وعبدِ الله بن الزبير.
وبعضُ العلماء يقول: إنها ثابتة، فلماذا تُغَلَّط وهي في صحيح مسلم؟ وهذه الزيادة زيادةُ ثقة،
والقاعدةُ عند المُحَدِّثين: [ أنَّ زيادةَ الثقة مقبولة ما لم يُخالف من هو أوثق منه ]
وهنا ليست فيها مخالفة، وقد صححها الألباني رحمه الله، أي: صحح لفظة:
“ولَا تُخَمِّرُوا وجهه” وكذا يُصححها ابن باز رحمه الله.
ومِنْ ثَمَّ/ هل يجوزُ أن يضعَ الكمامة ففيها تغطيةٌ لبعضِ الوجه؟
جوازُها وعدمُه مبنيٌّ على هذه المسألة، ولذا الأَوْلَى بالمسلم ألَّا يُغَطيَ وجهَهُ لاسيَّما مع اختلاف هؤلاء العلماء الكبار في ثبوتِها، لكن له أن يضعَ يدَه على فيهِ وعلى أنفهِ، لأنَّ الرأس يجوز تغطيتُهُ باليد وهو متفقٌ على أن تغطيتَهُ من المحظورات فيكون الوجه من باب أولى.
ولو قال قائل: ما رأيكم في وجه المرأة المحرمة؟
قال بعضُ العلماء: -وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله-
يجبُ على المُحرِمَة أن تكشفَ وجهَهَا إلَّا إذا كان هناك أجانب، أما إذا كانت بين نساء أو بين محارِمِها فلا يجوز أن تغطيَ وجهها، ولحديث: ” إحرامُ المرأةِ في وجهِهِا “.
القول الآخر: وهو الصواب/ أنه يجوزُ لها أن تُغطيَ وجهَهَا، فقد جاء:
أنَّ أسماء غَطَّتْ وجهها وهي محرمة، وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله:
يجوز أن تغطيَ وجهها بحائل أو بدونه.
وأما قول “إحرام المرأة في وجهها”: فإنما هو قول لأحد الفقهاء فتناقلوه على أنه حديث، فوجهُ المرأةِ كبدنِ الرجل، فبدنُ الرجل يجوزُ أن يسترَهُ فكذلك وجهُ المرأة.
قال ابن القيم رحمه الله:
“وليس هناك حرفٌ واحدٌ عن رسولِ الله ﷺ في وجوب كشف الوجه للمحرمة”
ومِنْ ثَمَّ فإنَّ المحرمةَ قد قال النبيُّ ﷺ كما في صحيح البخاري:
“ولَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، ولَا تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ”
إذاً/ يَحرُمُ عليها النقاب ومن باب أولى البُرقُع، ويَحرُمُ عليها القُفَّاز.
ولو قال قائل: القفاز، أيجوزُ للرجل المحرم؟
الجواب: لا يجوز، وأما التنصيص على المرأة لأنه غالبُ لباسِ النساء.
ومن المسائل المتعلقة بالمرأة:
أنه وردت آثار: أن تُحرِمَ بوضعِ الحِنَّاء، بل ولا بأس به حالَ إحرامِها،
أي: بعدما دخلت في النُّسُك، لفعلِ عائشةَ رضي الله عنها.
ومن المسائل المتعلقة بالمرأة: أنه يجوز لها التحلي، أي لبس الحلي.
ومن المسائل المتعلقة بالمرأة: يجوزُ لها أن تكتحل
يجوز لها أن تكتحل، واستثنى بعض العلماء الإثمِد،
“فإن عليًّا رضي الله عنه لما أتى من اليمن دخل على فاطمة رضي الله عنها وقد تزينت واكتحلت، فأنكر عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا، فذهب إلى النبي ﷺ فقال: ماذا قلتَ في إهلالك؟..” الحديث سَبَق.
وقالوا: يُكره ولا فديةَ فيه.
والذي يظهر: أنَّ الإنكار ليس من أجلِ الكُحل وإنما من أجل التحلل بعد العمرة ولذا أتى إلى النبي ﷺ يستفسر.
ومن المسائل المتعلقة بالمرأة:
أن الأفضلَ لها أن تطوفَ ليلاً، لأنه أسترُ لها، لفعلِ عائشةَ رضي الله عنها.
ومن المسائل المتعلقة بالمرأة:
أن الأفضلَ لها أن تطوفَ بعيداً عن الرجال، لقوله عليه الصلاةُ والسلام لأمِّ سَلَمَة: “طُوفي مِن ورَاءِ النَّاسِ”
ومن المسائل المتعلقة بالمرأة:
يجوزُ لها الطواف مُنْتَقِبَة إذا كانت غيرَ مُحرِمَة، خلافاً لبعضِ العلماء،
والدليل: فِعلُ عائشةَ رضي الله عنها.
وَلْيُعلَم أنه إذا تحدثنا عن النقاب، فالمراد هو النقاب الشرعي المُنضَبِط بضوابطه الشرعية، فإنَّ النقابَ موجودٌ في عصر النبي ﷺ،
وإنما جاز للحاجة فلا يُتعدَّى هذه الحاجة، والحاجةُ هي: أن ترى المرأة طريقَها،
أما التوسع الآن الذي يُظهِرُ كاملَ العينين وأعلى الخدين مع التزين والاكتحال فلا يشكُّ أحدٌ في تحريمِهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المحظور السابع من محظورات الإحرام: عقدُ النكاح والخِطبة
أي: خِطبة النساء -بكسرِ الخاء-؛ أما بضم الخاء ( الخُطبة ) فهو: الكلام المُلقَى على مسامع الناس.
وهذا لا فديةَ فيه، ولعل الحكمة والله أعلم لأنه وسيلةٌ إلى الوَطء، وقد قال ﷺ كما عند مسلم: “لا ينكِحُ المحرِمُ ولا يُنكِحُ”
“لا ينكِحُ”: يعني: لا يتزوج.
“ولا يُنكِحُ” يعني: لا يُزَوِّج، كأن يكون وليًّا أو وكيلاً.
والحكمُ متعلقٌ بالزوجِ والزوجةِ والولي، ووكلاؤهم يشاركونَهُم في هذا الحكم،
فلو كان أحدُ هؤلاءِ الثلاثة مُحرِماً فإنَّ العقدَ لا يَصِح ويكونُ باطلاً،
والوكيل لأحدِهِم حُكْمُهُ كحُكمِهِم، والاعتبارُ بحالِ العقد لا بحالِ الوَكالة،
ولذا/ لو وَكَّلَهُ وهو في حالةِ الإحرام وفي حالِ العقد صار مُحِلاً فهل يصح النكاح؟
نعم يصح.
ولو كان العكس/ كأن يُوَكِّلَهُ وهو مُحِل ثم يَعقِدَهُ وهو مُحرِم؟ فإنه لا يصح.
والقول بأنه محظور من محظورات الإحرام هو القولُ الصحيح لحديث:
“لا ينكِحُ المحرِمُ ولا يُنكِحُ” وهو عند مسلم
وقال بعضُ العلماء: عقد النكاح لا يُعَدُّ محظوراً من محظورات الإحرام، لما جاء في الصحيحين:
أنَّ ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما قال: “تزوَّج النبيُّ ﷺ ميمونةَ وهو مُحرِم”
والجواب عن هذا الحديث: جوابٌ لا يُسعفنا فيه الجمع فلابد فيه من الترجيح، والترجيح:
أنَّ عقد النكاح كما سبق أنه محظورٌ من محظورات الإحرام لوجود مُرَجِّحات، وهذه المُرَجِّحات ذكَرَها الأصوليون ليس في هذه المسألة فحسب وإنما هي مرجحات يستفيد منها طالب العلم في مسائلَ أُخرى:
أولاً: أنَّ صاحبَ القصة أعلمُ بحالِه من غيرِه، ولذا فميمونة أخبَرَت أنَّ رسولَ الله ﷺ تزوجها وهو حلال.
المُرَجِّح الثاني: أنَّ الحاضِرَ للقصة أعلمُ من غيرِه ممن لم يحضرها، وممن حَضَرَها أبو رافع رضي الله عنه، وقال: “كنتُ السفير بينهما وما تزوجها النبيُّ ﷺ إلا وهو حلال”
ولذا أنكر المحققون ما نقله ابنُ عباس رضي الله عنهما وقالوا: ( وَهِمَ )، وذلك لأنَّ ابنَ عباس رضي الله عنهما ما زالَ صغيراً.
وأيضاً عندي مُرَجِّح آخر: وهو أنَّ أحاديثَ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما التي رواها عن النبيِّ ﷺ لا تتجاوز أكثرَ من عشرين حديثا، أما أحاديثُه الأخرى فقد أخذها من كبار الصحابة، ففرقٌ بين من يأخذ علوَّ السند ممن ليس كذلك، فقد يكون ابنُ عباس رضي الله عنهما سَمِعَهُ مِن غيرِه فلم يتحقق أو لم يتثبت عمَّن نقل عنه.
ولو قال قائل: ما حكم الشهادة على العقد؟
الجواب: أنَّ الشهادةَ على هذا العقد حرام، بل إنَّ الشهادةَ في كلِّ عقدٍ فاسد مُحرَّمَة،
ولذا قال ﷺ لوالد النُّعمان بنِ بشير لما نَحَلَ ابنَهُ نِحلَة دون أبنائه وأتى لِيُشهِدَ النبي ﷺ قال:
“إني لا أشهدُ على جَور” وحتى لو كان مُحِلًّا،
أما لو كان مُحرِماً وشَهِدَ على عقدِ نكاح محلين: فقد قال العلماء: يُكرَهُ ولا يفسُدُ النكاح بهذه الشهادة.
أما رواية: “ولا يَشهَد” الحديث الذي سبق: “لا ينكِحُ المحرِمُ ولا يُنكِحُ”
زِيدَ: “ولا يَشهَد” فهذه الزيادة غير ثابتة، ولو ثبتت لفَسَدَ النكاح، ووجه الكراهة أنه قد يتهاون المحرم فيشهد على عقد نكاح محرمين، فأراد هؤلاء العلماء أن يسدوا الباب.
ولو سأل سائل: لو خَطَب المحرم بِخُطبة النكاح: “إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه…” إلى آخره؟
فلو كان لمحرمين: فحرام،
وإن كان لمُحِلين: فيُكرَه؛ لماذا يُكرَه؟
صيانةً لِحمى الإحرام وهو مِن بابِ سَدِّ الذرائع، فإنه في هذه المرة يَخطُبُ للمُحلين فتتمادى به نفسُهُ إلى أن يَخطُبَ لِمُحرِمين.