بسم الله الرحمن الرحيم
فقه الحج ـ الدرس ( 20 )
صفة الحج (الجزء الثاني)
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
فإذا جاء يوم التروية وهو اليوم الثامن
وسمي بهذا الاسم: لأن الناس يتروون فيه من الماء.
فإن السنة للمتمتعين: أن يهلوا بالحج قبل الزوال حتى يصلوا إلى منى فيصلون فيها الظهر، ويُحرم من مكانه، وحيث أحرم من مكة أجزأ،
وإن أحرم خارج مكة في حدود الحرم: جاز لفعل الصحابة رضي الله عنهم إذ أحرموا بالأبطح.
ويُستحب لهم عند إحرامهم بالحج كما يُستحب لهم عند إحرامهم في الميقات
من الاغتسال والتنظف والتطيب، ودليلها أن النبي ﷺ لما أمر عائشة أن تُدخِلَ الحج على العمرة أمرها أن تغتسل.
فيتوجه إلى منى
وتكون تلبيته عند الإحرام: (لبيك حجاً)، ويستمر في التلبية.
فيشترك في التلبية مع القارن والمفرد فيقطعونها عند رمي الجمرة.
فيصلي بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء قصراً من غير جمع لفعل النبي ﷺ
وقد نقل شيخ الإسلام رحمه الله اتفاق َالعلماء على: أنَّ المبيت في منى ليلةَ عرفة سُنَّة والألباني رحمه الله يرى وجوبَ المبيت.
فإذا صلى الفجر من يوم عرفة وطلعت الشمس سن له أن يخرج من مِنى.
وسميت منى بهذا الاسم: لكثرة ما يُمنى فيها من الدماء.
– وقد سار ﷺ والصحابةُ منهم الملبي والمكبر، ووصل إلى نَمِرَة وضُرِبَت له قُبَّةٌ وهي مثلُ الخيمة، فنزلَ بها، والنزول بها: سُنَّة، وهذا النزول يدل على: أنَّ الذي ينبغي على الحاج أن يُعطيَ الجسمَ نصيبَهُ من الراحة حتى يتقوَّى على العبادة.
– ثم إذا أتى عرفة: يُصلي فيه الظهر والعصر جمعاً وقصراً، يُسر فيها بالقراءة
ويخطب قبلها خطبةً واحدة، والسنة: تقصير الخطبة وتعجيل الصلاة.
وكانت وقفته ﷺ في يوم جُمُعَة فليس فيه دليلٌ على أنه ﷺ صلى الجمعة لأنه أسرَّ بالقراءة وصلى بعد الخُطبة.
وما رُويَ أنَّ الوقفةَ بعرفة يوم الجمعة: ( تعدِلُ اثنتين وسبعين حَجَّة ) فلا أصلَ له.
وعرفةُ كلها موقف كما قال الرسول ﷺ إلا بَطنَ عُرَنَة، واستثناؤهُ لبطنِ عُرَنَة يدل على: أنَّ عُرَنَةَ مِن عرفة من حيثُ التاريخ لا من حيثُ الحكمُ الشرعي
ونظيرُها/ إشارته ﷺ على أن الأنفَ من الجبهة، وهل هو من الجبهة حِساً؟ لا، وإنما هو من الجبهة من حيثُ الحكم في وجوبِ السجود عليه.
وقد وقف ﷺ عند الجبل مستقبلاً للقبلة راكباً.
سؤال: هل يُسن الوقوف راكباً أم قاعداً؟
الجواب: الصحيح أنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فمتى ما وُجدت الفضيلة والمصلحةُ في أحدِهِما فهو الأفضل.
فجعل ﷺ يرفعُ يدَيه يدعو.
ولا يُسَنُّ صعود هذا الجبل كما قال شيخُ الإسلام رحمه الله ولا الوصول إلى القُبَّة، والطواف بها من الشرك.
ومن ثَمَّ فليس هناك مكانٌ يُطافُ به على وجه التعبد في الأرض إلا الكعبة.
فوقف ﷺ عند الجبل وأرسل رسولَه يقول لمن بعُد:
” قِفُوا على مَشاعِرِكم فإنكم على إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أبيكم إبراهيمَ “
وفي وقوفِه بعرفة نزل قولُه تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
ومر معنا ما جرى من حديثٍ بين عمر رضي الله عنه واليهود.
وفي موقفه ﷺ وقَصَت دابةٌ صاحبَها فمات، فقال ﷺ حديثَهُ المشهور:
“اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا “.
ولو قال قائل: بمناسبة ذكر هذا الحديث، لو أنَّ شخصاً تُوفي وهو مُحرِم بعد التحلل الأول هل يُخمر رأسه ويُطيب؟
الجواب: الظاهر أنه يُخمر رأسه ويُطيب.
وقال ﷺ كما عند الترمذي:
” أفضلُ الدعاء دعاء يومِ عرَفَة، وأفضلُ ما قلتُ أنا والنبيون مِنْ قَبْلِي : لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الْمُلْكُ ، وله الحمدُ ، وهو على كُلِّ شيءٍ قديرٌ”
وقال ﷺ كما في المسند: ( يوم عرفة من ملك فيه سمعه وبصره غُفر له ) .
وقال ﷺ كما عند مسلم: ” ما من يومٍ أكثرُ من أن يعتِقَ اللهُ فيه عبيدًا من النَّارِ من يومِ عرفةَ، وأنه لَيدنو، ثم يباهي بهم الملائكةَ فيقول: ما أراد هؤلاءِ؟ ..”
وقال كما عند البزار:
” وأمَّا وقوفُك عَشيَّةَ عرفةَ؛ فإنَّ اللهَ يُباهي بكُم الملائكةَ، يقول: عِبادي جاءوني شُعثًا أُشهِدُكُم لَو كانتْ ذنوبهم كعَددِ الرَّملِ، أو كقَطْرِ المطرِ، أو كزَبدِ البحرِ لغَفرتُها
أفيضوا عبادِي مغفورًا لكُم، ولمن شَفعتُمْ فيه “
وفي وقوفه ﷺ استرابَ الناسُ هل هو مُفطر أو صائم؟ لعلمهم بأنه ﷺ قد قال في صيام يوم عرفة كما جاء عند مسلم: ( يُكفرُ سنتين )، فأرسلت إليه أمُّ الفضل بلبنٍ فشرب ﷺ ، ولذا يُكرَهُ صيامُ يومِ عرفة لمن هو واقفٌ بعرفة، و قد جاء حديث لو صح لانتقل الحكمُ من الكراهةِ إلى التحريم وهو حديث: ( نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة ).
فلما وقف ﷺ رفع يديه حتى غربَت الشمس، حتى إنَّ زِمامَ ناقتِهِ كما عند النسائي سقط فأخذ الزمام بإحدى يديه والأخرى لم يَزل رافعاً لها، وهذا يدل على أنَّ هذا المَقام ما ينبغي لعاقلٍ أن يُفوِّتَ فيه ثانية.
سؤال: هل يلبي؟
الجواب/ شيخُ الإسلام رحمه الله يقول: لا يُلبي
قال رحمه الله: لعدمِ النقل، قلتُ: جاء عند النَّسائي أنَّ ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما وهو واقفُ بعرفة قال: ما بالُ الناس لا يُلَبُّون؟! فقالوا له: إنَّ معاويةَ نهى عن ذلك
فخرجَ رضي الله عنه من خيمتِهِ وجعلَ يُلبِّي.
قال الألباني رحمه الله: صحيحُ الإسناد. والصحيح أنه: يُلبي
فيعضُدُ فعلَ ابنِ عباس رضي الله عنهما حديثٌ ذكَرَهُ الألباني رحمه الله في منسكِهِ:
أنه ﷺ: ( لبَّى بعرفة قائلاً: لبيك إنَّ الخيرَ خيرُ الآخرة ) قال الألباني رحمه الله:
فلم يزل ذاكراً ملبياً داعياً بما شاء.
وسبق معنا في صيغ التلبية أن النبي ﷺ: ( كان يخلِطُها بالتهليلة )
وثبت عنه قولُه: ( لبيك إله الحق )، والصحابةُ كابنِ عمر رضي الله عنهما يقول:
( لبيك وسعديك والخيرُ في يديك والرغباءُ إليكَ والعمل ) ، وكانوا يقولون وهو يسمع:
( لبيك ذا الفواضل لبيك ذا المعارج ) وبعض الصحابة يُكبر.
فوقف ﷺ بعرفة حتى غرَبَت الشمس واستحكَمَ غروبُها حتى ذهبت الصُّفرَة من أجل أن يُخالفَ الكفار.
ففي تلبيته مخالفةٌ لهديِ الكفار، ولذا قال في هذه الحَجَّة: (هديُنا مخالفٌ لهديهِم)
فإنهم كانوا يقفون بمزدلفة فوقف ﷺ بعرفة قبل هجرته وبعد هجرته في حَجة الوداع.
وكانوا يَفيضون من موقِفِهم بمزدلفة قبل غروبِ الشمس فأفاضَ بعد غروبِها بل بعدما استحكمَ غروبُها.
والوقوفُ بعرفة ركنٌ من أركان الحج، هو الركنُ الأعظم
ولذا قال ﷺ كما عند أبي داود:
” الحجُّ عرَفَةَ، فمَنْ جاء قبلَ الفجْرِ ليلةَ جمْع فقدْ تمَّ حجُّهُ وقضى تَفَثَه “
وَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ.
إذاً الركنُ: أن يقف بعرفة ولو لحظة.
أما الواجب من هذا الوقوف: فإلى الغروب، فإن خالفَ فدفَعَ قبلَ الغروب
فقال بعضُ العلماء: يلزمُه الدم عاد أو لم يَعُد.
وقال بعض العلماء: يلزمه الدم إن لم يَعُد قبلَ الغروب.
وقال بعض العلماء: يلزمه الدم إذا لم يعد قبل الفجر،
فإن عاد ولو قبل الفجر فلا شيءَ عليه. وهو الصحيح.
وهذا في شأن من وقفَ بالنهار، إذ لابد أن يجمعَ في وقوفِهِ بين النهارِ والليل،
أما إذا كان وقوفُهُ بالليل فلا يَدخُل في هذه المسألة.
فوقت الوقوف بالاتفاق ينتهي بطلوع فجرِ يومِ النحر،
فإذا طلع الفجر فاتَ الوقوف لقوله ﷺ:
” من شهد صلاتَنا هذه ووقفَ معنا حتى ندفعَ وقد وقف قبل ذلك بِعرفةَ ليلًا أو نهارًا فقد تمَّ حجُّه وقضى تَفَثَهُ “
” من شهد صلاتَنا”: والصلاة هنا المقصود منها صلاة الفجر في مزدلفة.
أما ابتداء الوقوف فمختلف فيه/ هل هو من طلوع فجرِ يومِ عرفة إلى طلوع فجرِ يوم النحر؟ أومن الزوال إلى طلوعِ فجرِ يومِ النحر؟
المشهورُ من مذهب الحنابلة رحمهم الله: أنه من طلوع فجر يوم عرفة، ويستدلون بهذا الحديث: ” من شهد صلاتَنا هذه ووقفَ معنا حتى ندفعَ وقد وقف قبل ذلك بِعرفةَ ليلًا أو نهارًا فقد تمَّ حجُّه وقضى تَفَثَهُ “
“ليلا أو نهارا”: أطلَق.
والجمهور يرون: أنَّ البداية من الزوال ﷺ فلم يقف إلا بعد الزوال.
فأجابَ الحنابلةُ بقولهم: إن فعلَ النبيِّ ﷺ يدل على الاستحباب، فيكون الوقوف له وقتان: وقت فضيلة وهو من بعد الزوال، ووقت جواز وهو ما قبل ذلك.
ولا شك أنَّ رأي الجمهور أحوَط
وقول الحنابلة قوي بل قد يقولون: إن القاعدة الأصولية/
[ إذا تعارض قول النبي ﷺ مع فعله قُدِّمَ القَول ]
ويُرَدُّ عليهم: إن تقديمَ القولِ على الفعل لاحتمال الخصوصية في فعله ﷺ ولا خصوصية له في هذه المسألة.
ولو قال قائل: لو أن شخصاً جُن أو أُغميَ عليه قبلَ الوقوفِ بعرفة فلم يُفِق إلا بعدَها فهل يَتِمُّ حَجُّهُ؟
الجواب: سبقت هذه المسألة، وقد قرأتُ لابنِ قُدامَةَ أنه يقول: ” إنَّ الإمامَ أحمد توقَّفَ فيها”
فلما غرَبَت الشمس ركِبَ ﷺ
ورُكُوبُه ﷺ في التنقُلات بين المشاعر يُدلل ويقوي ما ذُكِرَ: من أنَّ إراحةَ الجسم مطلبٌ للاستعانةِ بهذه الراحة على الطاعة.
وأردف النبي ﷺ أسامة بن زيد خلْفَهُ
كي يوضحَ للناس ما قرره في خُطبته في عرفة أنه لا فرق بين عربيٍ ولا أعجميّ ولا أسودَ ولا أبيضَ إلا بالتقوى، حتى يُعلِنَها بفعله ﷺ أردَفَه.
وقد قال ﷺ قبل الغروب بقليل:
( لم يبقَ من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقيَ من يومكم هذا فيما مضى منه )
يريدُ أن يُوقِفَ الناسَ على قُربِ زوالِ الدنيا.