فقه الحج ـ الدرس ( 4 )
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى الدين.
حكم العمرة:
[سنشرع الآن في بيان حكم العمرة]
الحج متفقٌ على أنه واجب، لكن هل وجوبُهُ على الفور أو على التراخي؟ خلاف، ورُجِّحَ أنه على الفَور كما سبق.
لكنَّ العمرة هل هي واجبةٌ مرةً واحدة في العُمُر أم غيرُ واجبة؟
اختلف العلماء في وجوب العمرة/
بعض العلماء يقول: إنها سُنة وليست واجبة، وأدلتهم قوله تعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ولم يذكر العمرة.
الدليل الثاني: قولُ النبي ﷺ (دخلتِ العمرةُ في الحج)
ومن أدلتهم، الدليل الثالث: ما جاء عند الترمذي (أن رجلاً سأل رسولَ الله ﷺ عن العمرة أهي واجبة؟ فقال: ﷺ لا، وأن تعتمرَ خيرٌ لك) وهذا اختيارُ شيخِ الإسلام رحمة الله عليه.
القول الثاني: أنها واجبةٌ في العُمُر مرةً واحدة،
وأدلتهم: قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
ومن أدلتهم: الدليل الثاني:
أن رجلاً سأل النبي ﷺ عن أبيه الذي لم يحج ولم يعتمر فقال ﷺ: (حج عن أبيك واعتمر)، ووجه الدلالة من الحديث/ أن الحج والعمرة كانا واجبين على أبيه
الدليل الثالث: أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي ﷺ: (هل على النساء جهاد؟ فقال عليه الصلاة والسلام عليهن جهادٌ لا قتالَ فيه الحجُّ والعمرة)
وهذا هو القول الصحيح
وصحتُه تظهر من دليلِهِ الأخير، قال ﷺ: (عليهن جهادٌ لا قتالَ فيه الحجُّ والعمرة)
وكلمةُ (على) من صيغ الوجوب كما هو مقرر في الأصول.
وإذا جاء هذا الدليل فيُقال إنَّ قولَه تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}
وقولُ النبي ﷺ: (دخلتِ العمرةُ في الحج) لا يدل على عدم وجوبها، لأن حديثَ عائشة رضي الله عنها جاء صريحٌ بوجوبها.
وأما ما استدلوا به عند الترمذي: (أهي واجبة؟ قال: لا، وإن تعتمرَ خيرٌ لك) فهو حديثٌ ضعيف
فالقولُ الراجح هو القول الثاني.
ولكن القول الثاني لا يصح استدلالهم بالآية وهي قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} لماذا؟ لأن الآيةَ تحدثت عن الاستدامة، فالآيةُ لا تدل على وجوب العمرة وإنما تدل على وجوب إتمامها لمن دخلَ فيها.
وعلى هذا القول الذي رُجِّح: من أن العمرة واجبة، فهل هي واجبةٌ على أهل مكة؟
الجواب/ اختلف العلماء.
القول الأول/ يقول بعض العلماء: لا عمرةَ على أهل مكة، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما إذ قال (ليس على أهلِ مكةَ عمرة إنما يكفيهم الطوافُ بالبيت)، ويقولون أيضاً: أن العمرة من الداخل لا من الخارج، وهذا رأي شيخ الإسلام رحمه الله.
القول الثاني: أن على أهل مكة عمرة ودليلُه عموم حديث عائشة رضي الله عنها،
وهذا هو الأصح، فلم يفرق ﷺ بين أهلِ مكةَ وغيرهم، أما قولُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما فلا يُعارَض بقول النبي ﷺ، فقولُ الصحابي كما هو مقرر في الأصول:
” قولُه حُجة ما لم يُخالف نصاً أو يُخالفُه صحابيٌّ آخر، فإن خالَفَ نصا فيُطرَح وإن خالف صحابيا آخر فيُبحَثُ عن المُرَجِّح لقولِ أحدهما “
ويمكن حَمْلُ قولِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما على أنه لا عمرةَ على أهل مكة في حجِّهِم.
وأما دليلهم / أن العمرة من الداخل لا من الخارج، فنقول:
إن عائشة رضي الله عنها اعتمرت من التنعيم وخرجت من الحرم إلى الحل.
مسألة أخرى تتعلقُ بوجوب العمرة:
قررنا أنَّ العمرة واجبة
مسألة: المتمتع ألا يأتي بعمرة وحج؟ بلى
-هل عمرته التمتع تُجزئ عن عمرة الإسلام؟
الجواب / نعم.
مسألة: عمرة القارن هل تُجزئُ عن العمرة الواجبة؟
الجواب / اختلف العلماء.
فبعض العلماء يقول: لا تُجزئ، لأنه لا عمرةَ منفصلة عن هذا الحج فأفعالُ القارن كأفعالِ المُفرِدِ سواءً بسواء.
القول الثاني: أنها مُجزئة، وهذا هو القول الصحيح.
والفاصلُ في هذه المسألة: هو فِعلُ عائشةَ رضي الله عنها لما حجَّتْ قارنة قال عليه الصلاة والسلام: ( طوافُكِ بالبيت وبين الصفا والمروة يَسَعُكِ لحجِّكِ وعمرتِكِ ) فتعليلهم له حظ من النظر، ولكنَّ النصَّ يقضي على التعليل.
مسألة تتعلق بوجوب العمرة:
عمرةُ فواتِ الحج هل تُجزئ عن عمرة الإسلام؟
صورة المسألة كالتالي: لو أن شخصاً أحرم بالحج ففاتَهُ وقتُ الوقوفِ بعرفة -فاته الوقوف بعرفة-:
يلزمُه أن يتحللَ بعمرة -وستأتي مسألةُ الفوات بإذن الله عز وجل وما يترتبُ عليها، لكن مما يترتبُ على الفوات أن يأتيَ بعمرة-
هل هذه العمرة تجزئُ عن عمرة الإسلام أم لا؟
الجواب / لا تجزئ لأنه لم ينوِها في أولِ إحرامه، ولأن عمرته هذه عمرة اضطرار.
مسألة تتعلق بسنية العمرة على القول بوجوبها.
فالواجبُ منها في العُمُر مرةً واحدة وما زاد فهو سُنة.
المسألة هي / ما هو أفضلُ وقتٍ للعمرة؟
الجواب / عمرةٌ في رمضان لقوله ﷺ كما في الصحيح: (عمرةٌ في رمضان تعدِلُ حَجَّة) أو قال: (حَجَّةً معي).
لو قال قائل / ما هو الوقت الذي يلي رمضان في الأفضلية؟
الجواب / أشهرُ الحج.
وأشهر الحج هي: [شوال – وذو القِعدة- وعشر من ذي الحجة] على قول أو:
[ ذو الحجة بأكمله] على قول.
ما الدليل؟
الدليل الأول: فِعلُ النبي ﷺ فكلُّ عُمَرِه صلى الله عليه وسلم في ذي القِعدة، قال ابنُ القيم رحمه الله: [وما كان اللهُ عز وجل ليختارَ لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا أفضلَ الأوقات].
الدليل الثاني: أن النبي ﷺ سمَّى العمرةَ حجاً، وأفضلُ الشيء ما كان في وقته، ووقتُ الحج في أشهر الحج.
الدليل الثالث: مخالفةُ المشركين، فإنهم يرون أنَّ العمرةَ في أشهرِ الحج من أفجَرِ الفجور، ولذا يقولون: “إذا برأ الدَّبَر…” كما جاء في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: ( كَانُوا يَرَوْنَ أنَّ العُمْرَةَ في أشْهُرِ الحَجِّ مِن أفْجَرِ الفُجُورِ في الأرْضِ، ويَجْعَلُونَ المُحَرَّمَ صَفَرًا، ويقولونَ: إذَا بَرَا الدَّبَرْ، وعَفَا الأثَرْ، وانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ )
يعني: (إذا برا الدَّبر) وهو: الأثر الذي يكونُ على الجمال من الأحمال والأثقال بعد مجيء الحجيج؛ فصفر ليس من أشهر الحج.
إذاً فيه مخالفةٌ للمشركين، ولذا النبي عليه الصلاةُ والسلام حَتَّمَ على صحابته الذين أتَوا مُفردين أو قارنين ولم يسوقوا الهدي أن يجعلوها عمرة تمتع، ولذا قال بعضُهم:
( أنذهبُ إلى مِنى ومذاكيرُنا تقطُرُ منياً ؟! ) مذاكيرُنا: جمعُ ذَكّر،
لأنه أمرٌ مستغرب لم يعهدوه.
لو قال قائل: من أيام أشهر الحج عرفة بالإتفاق، ومن أيام أشهر الحج أيام التشريق وليس بالإتفاق،
المسألة: فهل يجوزُ أن تؤدى العمرة في يوم عرفة أو يوم النحر أو أيام التشريق ؟
الجواب / الصحيح الجواز، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله الذي كرهها، فنقول:
تُؤدَّى في هذه الأيام بشرط ألا يكون المؤدي مُتَلبِساً بحج.
(نحنُ في مسائل سُنيّة العمرة)
لو قال قائل: هل من السُنةِ أن يُكثرَ من الاعتمارِ في السنة؟
الجواب / اختلف العلماء في هذا:
قال بعضُ العلماء: يُكرَه، ودليلُهم أنَّ النبي ﷺ لم يعتمر في السنة أكثر من مرة.
والصحيح السُنية، والدليل قوله ﷺ كما في صحيح مسلم: (العمرةُ إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما) ولم يحدد زمناً مُعيناً.
ولقوله عليه الصلاة والسلام: ( تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ ، فإنَّهما ينفِيانِ الفقرَ والذُّنوبَ ، كما ينفي الْكيرُ خبثَ الحديدِ والذَّهبِ والفضَّةِ)
ولأنَّ عائشةَ رضي الله عنها اعتمرت بعد حَجَّتِها مع أنها كانت قارنة فيُحسَبُ لها في نُسُك القِران [عُمرة].
ومن هذا الدليل وهو فعل عائشة رضي الله عنها يدخل علينا داخل فيقول: يُسن تِكرارُ العمرةِ في السفرةِ الواحدة، ففي شهر رمضان مثلاً يمكن أن يأتيَ بستين عمرة، عمرة في الليل وعمرة في النهار، فما هو الجواب؟
الجواب/ فِعلُ عائشةَ رضي الله عنها يدلُّ على الجواز، لكنه جوازٌ مُقيَّد، فمن حالُهُ كحالِ عائشةَ رضي الله عنها فله أن يعتمرَ بعد حَجَّتِه.
ما حالُها؟ [حال عائشة]: أتت متمتعة فحاضت قبل أن تطوفَ بالبيت، فلما خَشِيَ عليه الصلاةُ والسلام أن يفوتَها الحج أمرَها أن تُدخلَ الحجَّ على العمرة فتصبحُ قارنة.
ونظيرُها: لو أن شخصاً جاءَ متمتعاً ثم خشيَ أن يفوته الحج، كأن تتعطل سيارتُه، فماذا يُقال له؟
الجواب / يجب -ليس على سبيل الجواز- يجب أن تُدخلَ الحج على عُمرتك فتصبحَ قارناً، وله في هذه الحال بعد حجته له أن يعتمر.
فالسُنة في السفرةِ الواحدة عُمرةٌ واحدة. ما الدليل؟
الدليل الأول: فعلُ النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل الثاني: فعلُ الصحابةِ -رضي الله عنهم- فلم يفعلوها لما استأذنت عائشةُ رضي الله عنها رسولَ الله ﷺ، بل إنَّ أخاها عبدَ الرحمن هو الذي أَعمَرَها من التنعيم ومع ذلك لم يعتمر، وهذا يدل على عدمِ السُنية.
لو قال قائل: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم من عمرة في حياته؟
الجواب / أربعُ عُمَر.
العمرة الأولى: عمرة الحديبية التي صُدَّ فيها عن البيت.
العمرة الثانية: عُمرة القضية، ومعنى القضية ليست هي قضاءً عن عمرةِ الحديبية – لا – وإنما سُميت بهذا الاسم: لأنه عليه الصلاةُ والسلام قاضَى في الحديبية كفارَ قريش على أن يأتيَ في العام القادم.
العمرة الثالثة: عمرته صلى الله عليه وسلم من الجِعِرَّانَة.
العمرة الرابعة: عمرتُه مع حَجَّتِهِ عليه الصلاةُ والسلام.
وكلها في ذي القِعدة
لكن لو اعترض معترض بحديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي ﷺ اعتمر أربع عمر واحدة في شوال )
فإن الجواب عن هذا كما قال ابنُ حجر رحمه الله:
أنه عليه الصلاة والسلام عقدها أواخر شوال وفعلها في ذي القعدة.
مسألة: قلنا إنه في السفرة الواحدة عُمرة واحدة.
ولكن لا نحرِمُهُ من الأجر فنقول له: أكثِر من الطواف، وستأتي أحاديث عن فضل الطواف وما فيه من الأجر، ولذا يقول شيخُ الإسلام رحمةُ الله عليه:
[العمرةُ إنما هي من الداخل إلى الحرم لا من الخارج من الحرم]
لا من الخارج من الحرم إلى الحِل ثم يعودُ إلى الحرم، إلا من كان مثلَ عائشةَ -رضي اللهُ عنها-
إذا: العمرة تكونُ من الداخل لا مِنَ الخارج.
فهذه هي عُمَرُه عليه الصلاة والسلام التي اعتمرها.
لو قال قائل: كم حِجَجُهُ عليه الصلاةُ والسلام؟
الجواب / ثلاث، أو واحدة
نقول: إنها قد تكون ثلاث حجج باعتبار ما حجه ﷺ قبل الهجرة ،أو نقول إنها حجة واحدة باعتبار ما حجه ﷺ بعد الهجرة.
فقد جاء عند الترمذي وابنِ ماجة من حديثِ جابر رضي الله عنه (أن رسولَ اللهِ ﷺ حجَّ ثلاثَ حِجَج حِجَّتين قبلَ الهجرة وحِجَّة بعدَ الهجرة) صححه الألباني رحمه الله.
أما ثبوت حَجَّة واحدة قبل الهجرة فهذا موجودٌ في صحيح البخاري:
يقول جُبير رضي الله عنه: ( ضللتُ بعيري فأتيتُ إلى عرفة فرأيتُ محمداً واقفاً بها فقلتُ ما شأنُ هذا الرجل وهو من الحُمُس ؟ ) يعني: من قريش، وسموا بهذا الاسم:
لأنهم يتحمسون لدينهم، وقريش يقفون في مزدلفة، فوفَّقَ اللهُ عز وجل نبيَّه ﷺ أن تكونَ حَجَّتُهُ على مُرادِ اللهِ عز وجل.