الشيخ زيد البحري تفسير سورة ( الحشر ) الدرس ( 246 )

الشيخ زيد البحري تفسير سورة ( الحشر ) الدرس ( 246 )

مشاهدات: 510

تفسير سورة ( الحشر )

الدرس (246 )

فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفسير سورة الحشر وهي من السور المدنية، وذلك أن هناك صلحا كان بين النبي عليه الصلاة والسلام، وبين يهود بني النضير، وهذا الصلح من شروطه أنه متى ما قتل قتيل عن طريق الخطأ فإنهم يتساعدون في ديته، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما قتل أحد المسلمين بعضا عن طريق الخطأ فإنه أتى من أجل ان يستعين بهم على الدية على مقتضى المعاهدة، فلما كان عليه الصلاة والسلام في مكان قالوا لو تسلق أحد إلى السطح، ثم رماه بحجر كبير حتى يموت ونرتاح منه، فأخبر الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام، فنقض العهد الذي بينهم، وحاصرهم عليه الصلاة والسلام، فقال الله:

{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) }

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} مرت هذه الآية في أول سورة الحديد.

{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} ونص هنا على أنهم أهل الكتاب، والمققصود من ذلك هو يهود بني النضير، فقال تعالى{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} قيل {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} لأنهم كانوا قريبين من المدينة، فأجلاهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى خيبر، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه الإجلاء الثاني من خيبر، أخرجهم من خيبر، وقد قال بعض المفسرين: إن أول الحشر هنا هو الشام،  والشام وذلك من أن الناس في آخر هذه الدينا يحشرون إلى الشام تحشرهم النار، وهذا حشر في الدنيا كما جاءت بذلك الأحاديث تحشرهم النار تحشر من بقي على هذه الدنيا في آخر علامات الساعة تحشر الناس إلى الشام، فقال الله {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} وذلك لأنهم أصحاب قوة، وأصحاب حصون، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} ظنوا أن حصونهم ستمنعهم من بأس الله {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} فسلط عليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومر ما يتعلق بإتيان الله كما مر معنا توضيح ذلك أكثر وأكثر في قوله تعالى في سورة البقرة {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} ومن ثم فإنه لابد من الرجوع إلى ما ذكرناه في سورة البقرة حتى يتضح ذلك أكثر وأكثر، {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} قذف الله في قلوبهم مما يدل على أن الرعب تمكن في قلوبهم، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} يخربون بيوتهم، وذلك لأنهم قالوا إن لنا أن نخرج منها ولنا ما حملناه على إبلنا، فأذن لهم النبي عليه الصلاة والسلام، فكانوا يأخذون أشياء من بيوتهم، ويخربونها من أجل أن ينقلوها معهم، أو من أجل أن يخربوها على المسلمين، والمسلمون في تخريبهم لبيوت هؤلاء ليس المقصود الإفساد، وإنما كما قال تعالى {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } يعني أن أهل الإيمان يخربون بيوتهم من أجل أن يصلوا إلى هؤلاء من باب أن يتحقق نصر الله، {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} فلكم عبرة يا أولي الأبصار في شأن يهود بني النضير، وهذا دليل للأصوليين الذين يقولون بإثبات القياس باعتبار أنه مصدر من مصادر التشريع.

{وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} لولا أن كتب الله عز وجل عليهم فيما كتب الجلاء في الدنيا يعني من أنه يجليهم ويخرجهم من هذه البلاد، {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} إما بقتل أو بأسر، لكنه كتب  الجلاء لحكمة يريدها عز وجل، ومن ذلك أن أموالهم تكون لمن؟ تكون للنبي عليه الصلاة والسلام من غير قتال، {وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} هناك عذاب أعظم من عذاب الدنيا، وهو عذاب النار.

{ذَلِكَ} يعني العذاب الذي سبق {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يعني خالفوا الله ورسوله ونقضوا العهد، {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ولاشك أن من يشاقق الله فإنه يشاقق رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولذا جاء في سورة الأنفال {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} قال هنا {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}

{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} يعني من نخلة وقيل  من نخلة كريمة {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} يعني على أسواقها وعلى جذوعها

{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أذن الله لكم في ذلك، وذلك أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قطع بعض النخيل، فقال يهود بني النضير: إنكم تقولون نحن مصلحون، وأنتم تفسدون، فبين الله من أن ما قالته اليهود لا دليل عليه، بل إن الله له ملك كل شيء، وهو الذي أذن في هذا الأمر في بقائها أو في قطعها، فقال عز وجل بعدها {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} ومن ذلك يهود بني النضير.

{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} يعني من يهود بني النضير {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} يعني يا أيها المسلمون {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} يعني ما أسرعتم {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} {وَلَا رِكَابٍ} يعني ولا إبل، فدل هذا على أن هذا فيء، ولا يقسم كقسمة الغنيمة التي مر معنا ذكرها في سورة الأنفال {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية.. {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} وقد سلط الله محمدا صلى الله عليه وسلم على هؤلاء، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا يعجزه شيء في السموات، ولا في الأرض، فهو قادر على إهلاكهم من غير حرب، ومن غير محاصرة، فقال الله عز وجل بعدها {مَا أَفَاءَ} لم يأت بالواو، لم؟ قال بعض المفسرين: هذه الآية {مَا أَفَاءَ اللَّهُ} يعني فيها بيان للفيء الذي أخذه المسلمون من يهود بني النضير، بمعنى: أن قسمة أموالهم تكون مبينة بهذه الآية، وقال بعض المفسرين: بل إن الآية السابقة تتعلق بغنائم يهود بني النضير هي خاصة للنبي عليه الصلاة والسلام، ولا يشاركه في ذلك أحد، ولذلك ثبت في الحديث  الصحيح: ” كانت غنائم يهود بني النضير كان عليه الصلاة والسلام ينفق على أهله منها ويجعل الباقي في السلاح” فدل هذا على ماذا؟ كما قالوا من أن هذه تختلف عن تلك، ولذلك لم يأت بالواو، فدل هنا على ماذا؟ على أن قوله {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} يعني من القرى كيهود بني قريظة، وما شابه ذلك غير الأموال التي أخذت من يهود بني النضير، يعني ما أفاء الله على المسلمين من غير حرب؛ لأن الفيء يختلف عن الغنيمة، الغنمية ما أخذ من أموال الكفار بحرب، وأما الفيء ما أخذ من أموال الكفار من غير حرب كشأن يهود بني النضير، فقال تعالى من أي فيء تأخذونه مستقبلا فهذا الحكم حكمه {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}  ومر معنا توضيح لهؤلاء الأقسام، ومر معنا لماذا ذكر الله اسمه هنا فيما يتعلق بالفيء، مر ذلك مفصلا في قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية..

{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} يعني أن الفيء تكون قسمته كهذا من أجل ألا يكون المال {دُولَةً} يعني يتداوله الأغنياء فقط دون الفقراء.

{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وهذا يشمل ماذا؟ يشمل كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام، ومن ذلك يدخل ماذا؟ من أنه ما أعطاكم من الفيء فإنكم تأخذونه، ولكن الآية تدل على ماذا؟ تدل على أن السنة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يأخذ بها المسلمون، وجاء ذكر ذلك في آيات كثيرة، وفي هذا الرد على طائفة، طائفة خبيثة تسمى بطائفة القرآنيين يقولون لا نأخذ شيئا إلا من القرآن، وقد حذر منهم النبي عليه الصلاة والسلام من أن أحدهم يجلس على أريكته فيقول: ما وجدناه في كتاب الله من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، فقال:” ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه”

ومن ثم: فإنه لو عطلت السنة، فأين لنا بمعرفة عدد ركعات الصلوات، وأنصبة الزكاة، وما شابه ذلك، فدل هذا على أن هذه الطائفة طائفة خبيثة تريد أن تعطل شرع الله، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}  ولذا ثبت في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام:” إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه”

{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} أمروا بتقوى الله في جميع الأحوال، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فهو شديد العقاب لمن خالفه عز وجل.

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}

{لِلْفُقَرَاءِ} يعني من يعطى من هذا الفيء من؟ الفقراء { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا } وهذا يدل على أن من هاجر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قدموا في الذكر، وذلك يدل على ماذا؟ يدل على أفضليتهم، ومن ثم ذكر بعد ذلك الأنصار، ومعتقد أهل السنة والجماعة أن المهاجرين افضل من الأنصار، ولا شك أن للأنصار مزايا وفضائل ومناقب عظيمة، لكن من حيث الأفضل لما قدمهم دل على ماذا؟ على أنهم أفضل من الأنصار، وقال تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} قدم المهاجرين، فقال تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} وذكر صفاتهم {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} يطلبون من الله الفضل والرضوان لا يطلبون بخروجهم متعا من متع الدنيا، ولا حظا من حظوظها {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يعني أن همتهم نصرة دين الله ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}  ولذلك حكم عليهم بقوله {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فإنهم إن نطقوا فإن أعمالهم تصدق أقوالهم، ثم قال بعدها {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} {تَبَوَّءُوا} يعني سكنوا {الدَّارَ} يعني المدينة {وَالْإِيمَانَ} يعني ألفوا الإيمان، وتمكن الإيمان في قلوبهم وهم الأنصار، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} وهذه فضائل لهؤلاء رضي الله عنهم، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني من قبل مجيء المهاجرين إلى المدينة، فإن الأنصار هم أهل المدينة، {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} يعني أن الأنصار يحبون المهاجرين {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى المهاجرين أموالا، ومع ذلك ما وجد الأنصار في قلوبهم شيئا على ماذا؟ على المهاجرين، {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} يعني مما أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يقدمون المهاجرين على أنفسهم، ولو كان الفقر قد حل بالأنصار، وقد ضرب الأنصار أروع الأمثلة لما قدم الماهجرون إليهم كيف صنعوا بهم حتى إن بعضهم كان يقول: اختر إحدى نسائي حتى أطلقها فتعتد ثم لك أن تتزوجها، وقال: هذا مالي لك نصفه، ولي نصفه، وهذا يدل على ماذا؟ كما قال تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ومن ثم لما كان الشح متمكنا في القلوب، قال {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} أي إنسان {يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} يعني يجنب شح نفسه {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ولذلك قال تعالى {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} قال {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني من بعد المهاجرين والأنصار، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني إلى قيام الساعة، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} يدعون الله أن يغفر لمن سبقهم بالإيمان، {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} بمعنى أنك لا تجعل غلا وحقدا في قلوبنا على الذين آمنوا، ومن ثم فإن هذه الآية لا تصدق على الرافضة الذين يكنون البغضاء والعدواة لصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، وبينا كلام الإمام مالك في آخر سورة الفتح {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} الآية… فقال الله عن هؤلاء {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فإنك أنت الرءوف الرحيم، فتقبل دعاءنا، واغفر لنا، واغفر لمن سبقنا، وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.

{أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) }

{أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} وذلك أن المنافقين، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي أتى إلى يهود بني النضير وقالوا لا تنزلوا عن حصونكم، بل انزلوا وسنناصركم وسنعينكم على محمد {أَلَمْ تَر} وهذا استفهام تعجب، {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ} وهم إخوانهم في الكفر، {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني يهود بني النضير {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} يعني نحن وأنتم سواء، {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} يعني من المدينة

{لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا} يعني من أننا لا نمكن أحدا فيكم، ولا نسمع فيكم أي شيء، {وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} يعني إن قاتلكم محمد صلى الله عليه وسلم {لَنَنْصُرَنَّكُمْ} قال الله {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} نعم فهم كذبة، ولذلك لما حلَّ بهم ما حل لم يناصروهم.

{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} على سبيل الفرض {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} وذلك لجبنهم وخوفهم.

{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً}لأنتم يا مسلمون {أَشَدُّ رَهْبَةً} يعني خوفا {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} يعني يخافونكم أعظم من خوفهم من الله عز وجل، وذلك لأنهم لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بحساب ولا بعقاب، ومن ثم فإن قوله {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} هل هم المنافقون أم هم اليهود؟ والصواب من أنه يشمل الفريقين، فقال الله {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} فإنهم لا فقه لهم، ولا فهم لهم، فكيف يقدمون خوف المخلوق على خوف الله؟!

{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} يعني أن هؤلاء اليهود، وحتى على القول الآخر من أن المنافقين إذا اجتمعوا مع اليهود {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} {فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} ذات حصون {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} جمع جدار {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} بمعنى أن العدواة بينهم واضحة بينة, إذا تقاتلوا فيما بينهم فترى القتال العظيم فيما بينهم {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} ومع هذا إذا رأيتهم قد اجتمعوا {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} وذلك لما في قلوبهم من العداوة والبغضاء بينهم فقال الله {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} فلو كان عندهم عقل ما حاربوا دين الله، ولو كان لديهم عقل لآمنوا بالله وبرسوله عليه الصلاة والسلام، ولذلك جعل الخوف في قلوبهم نتيجة ماذا؟ نتيجة إعراضهم عن دين الله فهم لا يعقلون {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}

{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني من قبل يهود بني النضير من الذين كان قبلهم؟ يهود بني قيقناع، فإنهم جرى لهم ما جرى من الذل والهوان على يد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك الذل والهوان الذي حصل لكفار قريش  في غزوة بدر، فقال الله {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا} يعني من أن المدة ليست بالبعيدة، {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} يعني عاقبة أمرهم، {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني في الآخرة.

{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}

{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} هذا مثل المنافقين لما قالوا لليهود نحن معكم، ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} هم كمثل الشيطان {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} تبرأ منه، وقد ذكر بعض المفسرين هنا قصة عابد يقال له “برصيصا” وذكروا فيها آثارا، وتلك الآثار لا تخلو من ضعف، وذلك باختلاف رواياتها، مما يدل على أن بها ضعفا من أن عابدا عبد الله، وإذا بإخوة أرادوا أن يسافروا، وقيل قد أصاب ما أصاب الأخت هذه من سحر، فقالوا لنأتي إلى هذا العابد، فزين له الشيطان بأن يجامعها، ثم لما جامعها، وخاف من العار قتلها، فأتاه الشيطان، فقال له إني أنجيك شريطة أن تسجد لي، فلما سجد له حصل ما حصل، ومن ثم فإن هذا لا يشتبه لأن هذه فيها آثار ضعيفة، ولكن لا يشتبه في قصة جريج الذي ثبت ذكره في أحاديث  صحيحة من أن امرأة بغية أرادت أن يواقعها، فاجتنب ذلك، فأتت إلى راعي فمكنته من نفسها، فلما حلمت بهذا الغلام، قالت هذا من جريج، جريج ثبته الله، فلم يقع في شأن تلك المرأة الزانية حتى أتى جريج وقال من أبوك ياغلام؟ قال الراعي. 

وأيضا ليعلم أن هناك حديثا حكم عليه ابن حجر في المطالب العالية قال إسناده صحيح موقوف على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من أن رجلا كان يعبد الله، فكانت هناك امرأة باتت عنده، فوقع بها ست ليال، ثم إنه ندم، فخرج نادما فلما أتى إلى مكان يتبعد فيه، وكان معه رغيف، فوجد فقيرين فأعطى أحدهما نصفه، والآخر نصفه، فمات، فلما مات وزن تلك العبادة بما فعله بتلك المرأة، فتلك السيئة التي حصلت منه نسفت كل عبادة عبدها، ثم لما أتي بتلك السيئة مع ذلك الرغيف الذي  تصدق به ذلكم الرغيف نسف تلك السيئة. على كل حال هذا يدل على ماذا؟ يدل على خطورة البعد عن شرع الله، فقال الله {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}

{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} فدل هذا على ماذا؟ على أن من أطاع الشيطان فإن مصيره إلى النار، ولذلك ماذا قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} وأيضا فيه الحذر من أهل النفاق.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) } 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أمر الله بتقواه، {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} وكلمة الغد تطلق على يومك الذي يلي حاضرك، والمقصود هنا يوم القيامة، وصف بأنه غد، وذلك لقربه لأنه متحقق لا محالة، ومن ثم لما أمروا بالتقوى وأمروا بأن يكون الإنسان على أهبة لذلك اليوم دل هذا على أن تذكر اليوم الآخر يزيد من التقوى، {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ماذا قدمت ليوم القيامة من أعمال صالحة، {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} وهذا يدل في قوله تعالى {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} يدل على المحاسبة يحاسب  الإنسان نفسه {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} كررها من باب أهمية التقوى، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم ولو دق.

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} نسوا الله ونسوا دين الله عز وجل فعاقبهم بأن أنساهم أنفسهم فتركوا دين الله، واشتغلوا بما يغضب الله كما قال تعالى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وما ظلمهم الله، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} والفاسق هو الذي انصرف عن دين الله {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} لا يستويان أبدا فأصحاب الجنة كما قال بعدها {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} الذين فازوا بكل مطلوب، إذن أصحاب النار هم الخاسرون، {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}.

{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}

{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ} أنتم يا كفار قريش لا تعتبرون، وكذلك يسري على من جاء بعدهم ممن لم يعظه القرآن، يعني هذا القرآن قال تعالى {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ}  لعظمة هذا القرآن لو أنزلناه {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا} يعني من أن به خشوعا، وبه تذللا {مُتَصَدِّعًا} يعني أن الجبل يتشقق متصدعا {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} من خوفه من الله، وهذا على سبيل ضرب المثل، ولذلك ماذا قال بعدها {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} لعلهم يعملون فكرهم فيعلموا أن هذا القرآن به الخير، وبه ما يرقق القلوب، فقال الله {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.

{هُوَ اللَّهُ الَّذِي} لما ذكر ما ذكر بين أسماءه عز وجل، ومن ثم فإن معتقد أهل السنة والجماعة من أن ما يتعلق بنفي شيء عن الله يأتي على وجه الإجمال، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} على وجه الإجمال، ولا يأتي على وجه التفصيل إلا إذا كان المقصود الرد على طائفة ضالة كاليهود لما قالوا لما أتم الخلق في يوم الجمعة استراح يوم السبت، فقال تعالى {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} بين ذلك من باب الرد عليهم، أما ما يتعلق بإثبات الأسماء والصفات، فإن معتقد أهل السنة والجماعة أن كثرتها وأن تفصيلها هو الذي به المدح والثناء، أما تفصيل النفي الذي مر معنا فإنه لا يكون ثناء، ولذلك ولله المثل الأعلى لو أتيت إلى ملك من ملوك الدنيا، فقلت لست بزبال، ولست بكناس، ولست بجزار، هل يرضى بذلك؟فإنه لا يرضى؛ لأنك فصلت في النفي، فالنفي يجمل، لكن لو قلت لا أحد يساويك من ملوك الدينا أهذا مدح له؟ نعم فسيفرح بذلك، أما على وجه الإثبات فإن فيه مدحا، الإثبات إذا فصل فيه مدح، لو أتيت إلى ملك من ملوك الدنيا ولله المثل الأعلى وقلت له أنت شجاع أنت كريم أنت مقدام أنت صبور ماذا سيكون؟ فيه الثناء، ولذلك تجد في أسماء الله الثناء لما قال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فصل بعد ذلك {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

تجد أن هذه الآيات التي معنا في سورة الحشر ذكر فيها أسماء كثيرة فقال تعالى {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي لا معبود بحق إلا هو، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} يعني عالم بما غاب عنكم وبما تشاهدونه، {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ومن ثم فإن من تاب إلى الله فإن الله يرحمه، ورحمته وسعت كل شيء.

ثم قال بعدها مبينا أيضا أسماء له {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} مالك كل شيء، {الْقُدُّوسُ} يعني الطاهر المنزه عن كل ما لا يليق به، ولذلك قالت الملائكة {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}.

{السَّلَامُ} السلام فهو عز وجل السلام الذي هو سالم من الآفات لكماله عز وجل، وأيضا يسلم عباده الصالحين من الآفات، {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ} {الْمُؤْمِنُ} الذي أمن عباده من عذابهن وأيضا صدق رسله عليهم السلام بالمعجزات {الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} يعني أنه الرقيب والشهيد على كل شيء.

{الْعَزِيزُ} والعزيز يتضمن ماذا؟ كما قال أهل السنة {الْعَزِيزُ}  يعني هو القوي الغالب الممتنع الذي لا ينال بسوء.

{الْجَبَّارُ} والجبار يتضمن ثلاثة أمور: جبر العلو، وجبرالرحمة فهو يجبر كسرك وذلك، جبر العلو وجبر الرحمة وجبر القوة فلا يستعصي عليه شيء.

{الْمُتَكَبِّرُ} المتكبر الذي له الكبرياء كما قال تعالى {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والمتكبر عما لا يليق به عز وجل.

{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ولذلك لما ذكر هذه الأسماء العظيمة نزه نفسه عما يشرك به هؤلاء فمن له هذه الأسماء العظيمة يجب أن تجعل العبادة لله عز وجل وحده {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

سبحان الله {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } أتت على سبيل الترتيب {الْخَالِقُ} بمعنى المقدر؛ لأنه ولله المثل الأعلى المخلوق قد يقدر الشيء، ولا يستطيع أن يخلقه وأن ينشئه، ولذلك ماذا قال تعالى {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} هل هناك خالقون مع الله؟ المقصود من الآية من يقدر لكنه قد يقدر الشي ء هذا المخلوق ولا يستطيع أن يصنعه.

{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} ثم قال { الْبَارِئُ } يعني ما قدره ينشئه عز وجل، ثم بعد ذلك {الْمُصَوِّرُ} يصوره على أحسن ما يكون، {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ثم لما كانت الأسماء كثيرة ولا تحصر بعدد قال {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}.

{الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لما ذكر في أول السورة {سَبَّحَ لِلَّهِ} يعني فيما مضى، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يعني استقر وثبت تسبيح الله فيما مضى، أيضا في نهاية السورة ماذا قال؟ {يُسَبِّحُ لَهُ} دل هذا على أن التسبيح مستمر له عز وجل {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} القوي والحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها اللائقة بها.

وبهذا ينتهي تفسير سورة الحشر….