الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المؤلف رحمه الله :
باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجدا
حديث رقم – 320 –
( ضعيف ) حدثنا قتيبة حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جحادة عن أبي صالح عن بن عباس قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج )
من الفوائد :
هذا الحديث يضعفه الألباني رحمه الله ، وهو يصحح حديث ( لعن الله زوَّارات القبور ) أما حديث ( لعن الله زائرات القبور ) فيقول إنه ضعيف ، وهذا على ما رآه رحمه الله ، وأما غيره كشيخ الإسلام رحمه الله يقول إن هذا الحديث ثابت من طرق متعددة، فيكون هذا الحديث ورد بصيغتين ( لعن الله زائرات القبور ) و ( لعن الله زوارات القبور ) فرواية ( زائرات القبور ) اختلف فيها كما سمعتم ، أما رواية ( زوارات القبور ) فإنه لا خلاف في ثبوتها ، وهل هناك فرق بين الروايتين من حيث الحكم ؟
الجواب : نعم هناك فرق ، فمن ضعف حديث ( لعن الله زائرات القبور ) وأثبت رواية ( لعن الله زوارات القبور ) كما يرى الألباني رحمه الله يقول إن اللعنة تصدق على المرأة التي تتكرر منها الزيارة ، أما إذا كانت تزور أحيانا وتدع أحيانا فإن هذا الحديث لا يشملها ، لأن كلمة ( زائرات ) على وزن ” اسم الفاعل ” واسم الفاعل يصدق عليها الفعل ولو مرة واحدة ، أما رواية ( زوارات القبور ) فهي من صيغ المبالغة على صيغة ” فعَّال ” أي من تكثر منها الزيارة ، هذا على ما رأى رحمه الله .
ولكن الصواب : أن رواية ( لعن الله زائرات القبور ) ثابتة من طرق متعددة كما أوضح ذلك شيخ الإسلام رحمه الله ، وكذلك رواية ( لعن الله زوارات القبور ) ثابتة .
إذاً نخلص من هذا على القول الراجح بثبوت الروايتين أن من زارت المقبرة استحقت اللعنة ، وأولى من ذلك المرأة التي تكثر منها الزيارة ، فمن زارت مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث أو عشرين أو مائة استحقت اللعنة .
ومن الفوائد :
أن اللعن معناه : هو الطرد والإبعاد من رحمة الله ، وإذا لعن الله عز وجل أو لعن رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا دل على أن ارتكاب هذا الشيء ليس محرما فحسب بل من كبائر الذنوب ، فأي عمل أو أي قول ترتب عليه اللعن فإنه يعد من كبائر الذنوب .
ومن الفوائد :
أن الشرع نهى المرأة أن تزور المقبرة لما لدى المرأة من قلة الصبر وكثرة الجزع ولما ينجم منها من زيارات أن تختلط بالرجال ، وإذا اختلطت بالرجال فإنه لا يليق بمثل هذا المكان الذي يتذكر فيه الموت ، ومعلوم أن النفوس ميالة إلى النساء ، فإذا رأى الرجال النساء ترتب على ذلك أن يضعف الإيمان الذي يزيد بزيارة المقبرة فتنتفي الحكمة ، ولما لدى المرأة من الضعف في العلم ، فإن هواها وعاطفتها تسيرها ، ولذا يخشى إذا زارت المرأة المقبرة أن ترى قبر عالم له فضل ، ربما أن ترى أن له مزية فتتعبد الله عز وجل عنده أو ربما تصرف له شيئا من العبادة ، ولذلك قرن الرسول صلى الله عليه وسلم زائرات القبور في هذا الحكم بمن اتخذ على القبور المساجد والسُّرُج ، لأن اتخاذ المساجد والسرج على القبور وسيلة من وسائل الشرك ، فلا يبعد في زيارة المرأة للمقبرة أن يقع منها شرك .
ومن الفوائد :
أن زيارة المقبرة من قِبل المرأة مختلف فيها ، منهم من أباحها مطلقا ، ومنهم من كرهها ، ومنهم من نهى عنها إذا أكثرت من الزيارة دون الزيارة الواحدة والاثنتين ، ومنهم من حرمها ، ومنهم من جعلها من كبائر الذنوب .
وهذه المسألة سيأتي معنا بإذن الله تعالى مزيد حديث عنها في كتاب الجنائز .
لكن القول الراجح أن زيارة المرأة للمقبرة من كبائر الذنوب .
ومن الفوائد :
أن هذا الحديث يشمل أي مقبرة ، سواء كان فيها قبر واحد أو اثنان أو ثلاثة ، ويصدق أيضا على من كان قريبا لها أو بعيدا فالحكم واحد للإطلاق ، ويدخل في ذلك زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، لأن بعض العلماء استثنى ذلك ، ولكن استثناءه مخالف للأحاديث ، وكما قلت لكم المسألة ستمر معنا إن شاء الله في كتاب الجنائز .
ومن الفوائد :
أن اتخاذ المساجد على القبور يستحق صاحبه اللعن ، لم ؟
لأنه وسيلة من وسائل الشرك ، واتخاذ المساجد على القبور يشمل نوعين :
النوع الأول :
أن يبني عليها بناء حسيا ، كأن يأتي إلى قبر ويبني عليه مسجدا ، ولو حصل مثل ذلك فإن الواجب على من لديه زمام الأمور أن يهدم المسجد لأنه بني على غير تقى ، أما إذا كان المسجد هو الأسبق والأول وإنما أتي بشخص فدفن فيه فالواجب أن ينبش هذا القبر وأن يدفن مع المسلمين ، فالأحق للأسبق ، فإن كان الأسبق هو القبر هدم المسجد ، وإن كان الأسبق هو المسجد نبش القبر ووضع في المقابر العامة .
النوع الثاني :
ألا يبنى عليها بناء حسيا ، وإنما يتعبد الله عز وجل عندها ، يصلي لله ولكن عند القبور ، يذكر الله ولكن عند القبور ، يقرأ القرآن عند القبور ، فهذا من اتخاذ القبور مساجد .
ولقد أخطأ من أخطأ من العلماء الذين قالوا إن الحديث يدل على أن قوله ( والمتخذين عليها ) يدل على أن المتخذين بجوارها لا يدخلون ضمن هذا الحديث – هذا خطأ عظيم –
ما وجه الخطأ ؟
وجه الخطأ : أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة رضي الله عنها ( ولولا ذلك لأبرز قبره ولكنه خشي أن يتخذ مسجدا ) أيمكن للصحابة أن يبنوا مسجدا آخر والمسجد النبوي قريب ؟ لا يمكن ، فدل على أن قولها (ولكنه خشي أن يتخذ مسجدا ) على أن الخشية حاصلة من أن يتعبد الله عنده ، لا أن الصحابة يبنون مسجدا آخر ، فهذا من العبث ، فدل على أن المقصود أنه يتعبد الله عند قبره .
ومن الفوائد :
لو قال قائل : المسجد النبوي الآن به قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه ، فما الجواب عن هذا ؟
الجواب عن هذا : أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي بنى المسجد ، ولم يبنه على قبره ، فهذا مستحيل ، وإنما الذي جرى أن حجرة عائشة رضي الله عنها ، كانت قريبة من المسجد من جهة الشرق، فدفن الرسول صلى الله عليه وسلم في بيتها ، لم ؟ ( ولولا ذلك لأبرز قبره ولكنه خشي أن يتخذ مسجدا ) فلما جاء العهد الأموي وسِّع المسجد ، والمسجد النبوي وسع أكثر من مرة في عهد الخلفاء الراشدين ، لكن في عهد بني أمية وسعوا المسجد النبوي فشملت التوسعة الجهة الشرقية ، وكان هناك من الصحابة رضي الله عنهم قلائل فعارضوا الأمر ، وهناك من التابعين من عارض الأمر، ولكن قوة السلطان نفذت هذا الأمر ، فلما حصلت توسعة أصبحت الحجرة ملاصقة للمسجد النبوي ، فجعلت هناك جدران ثلاثة محاطة بالقبر ، هذا ما جرى .
لو قال قائل : لماذا لا يخرج صلوات ربي وسلامه عليه لما وقع ما وقع ؟
الجواب: أن إخراجه من بيته يترتب عليه مفاسد :
المفسدة الأولى :
أن إخراجه يكون وسيلة إلى أن يعبد ، فهؤلاء الرافضة وأشباههم ممن خرج من الدين ووقع في الشرك وترك التوحيد يتوجهون – ونحن نراهم في المدينة – يتوجهون إلى قبور أهل البقيع ويدعونهم من دون الله عز وجل ، فكيف إذا كان الموجود الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
المفسدة الثانية :
أن يخشى على جسده الشريف من أن ينال بسوء ، وقد جرى في التاريخ أن هناك اثنين حاولا أن ينبشا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن الله عز وجل فضح أمرهم وهتك سترهم .
المفسدة الثالثة :
أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( الأنبياء يدفنون حيث يموتون ) فأي نبي قبضت روحه في مكان يدفن في هذا المكان .
فلا حجة لمن أجاز بناء المساجد على القبور أو وضع القبور في المسجد لا حجة لهم على وجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه ، ثم لو كان في الأمر خير لكان عثمان وعلي وأكابر الصحابة رضي الله عنهم فعلوا هذا ، ولكنهم ما فعلوا ، فدل هذا على أن التعبد لله عز وجل في المقابر من وسائل الشرك ، ولذلك في صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تصلوا إلى القبور ) وكما مر معنا ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ) لأن الصلاة فيها والتعبد لله فيها وسيلة من وسائل الشرك ، هو يتعبد الله فيها فربما يوحي إليه الشيطان فيغويه ويأمره أن يصرف هذه العبادة إلى هذا المقبور .
وكذلك أخطأ من أجاز الصلاة والتعبد بجوار قبر صالح أو نبي من أجل أن ينال من بركته أخطأ من أجاز ذلك ، لم ؟
لأن الأحاديث التي أوردناها في النهي عن هذا واضحة .
وأما ما قيل من أن قبر إسماعيل في الحِجر وأن هناك قبر سبعين نبيا في المسجد الحرام من الحجر الأسود إلى زمزم ، كل هذا لا يدل عليه حديث صحيح ، إنما هي روايات لا إسناد لها ، ولو قيل إن لها إسناد ، من الذي فعلها ؟ من الذي دفن هؤلاء في المساجد – على اعتبار الصحة مع أنه لا دليل – فمن الذي دفنها ؟
ومن الفوائد :
أن اسراج وإنارة المقابر يستحق صاحبها اللعن ، لم يحرم تنوير المقابر ؟
لأن في إنارتها وسيلة من وسائل الشرك ، فإن القبور إذا نورت تاقت النفوس إلى النور كما هي جبلة ابن آدم ، فربما توهم أن للمقابر مزية فيحصل ما لا تحمد عقباه .
ولكن لو قيل لو احتاج أشخاص لدفن شخص بالليل وأوقدوا سراجا أيجوز هذا ؟
الجواب : نعم يجوز ، وقد ثبت – كما سيأتي معنا إن شاء الله في سنن ابن ماجه – أن الرسول صلى الله عليه وسلم ( دفن أحد أصحابه ليلا وأسرج قبره ) لماذا أسرج قبره ؟ من أجل أن يدفنه ، فهي علة تزول بزوال معلولها ، من أجل أن ينظر إلى القبر وأن يتمكن من الحفر والدفن المطلوب شرعا ، فإذا فرغ انتهى الإسراج .
وهذا الحديث مهم جدا ، باعتبار ماذا ؟ باعتبار أنه يتعلق بعقائد ، فإذا لم يحفظ المسلم عقيدته فإنه يقرب من الشر ، لأن العقيدة هي الأساس والأصل ، فإذا انهدم الأصل انهدم الفرع ، وإذا زالت القواعد زال وانهار البنيان ، ولذلك مكث رسولنا صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاما يدعو إلى التوحيد ، إلى أن يقولوا ( لا إله إلا الله )
باب ما جاء في النوم في المسجد
حديث رقم – 321-
( صحيح ) حدثنا محمود بن غيلان حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر قال : كنا ننام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ونحن شباب )
من الفوائد :
أن النوم في المسجد اختلف في حكمه :
قال بعض العلماء : يجوز مطلقا ، بناء على هذا الحديث .
وقال بعض العلماء : إنه يكره النوم في المسجد إلا لمن لم يجد بيتا ، أو ممن لا أهل له .
وبعض العلماء كرهه مطلقا .
والصواب أنه مباح ، لأن ابن عمر رضي الله عنهما أبوه من ؟ عمر رضي الله عنه ، وله مسكن ومأوى ، ومع ذلك كان ينام في المسجد هو وهؤلاء الشباب ، فدل على جوازه مطلقا ، كما يجوز الأكل والشرب فيه ، ولذا أهل الصُفَّة وهم قوم لا مأوى ولا مسكن ولا أهل يأتون إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وينامون فيه .
فالصواب من هذه الأقوال أن النوم في المسجد مباح ولا كراهية في ذلك .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .