بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المؤلف رحمه الله :
باب ما جاء في ابتداء القبلة
حديث رقم 340-
( صحيح ) حدثنا هناد حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }البقرة144 فوُجِّه نحو الكعبة ، وكان يحب ذلك ، فصلى رجل معه العصر ثم مر على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قد وجه إلى الكعبة قال فانحرفوا وهم ركوع قال وفي الباب عن بن عمر وبن عباس وعمارة بن أوس وعمرو بن عوف المزني وأنس قال أبو عيسى وحديث البراء حديث حسن صحيح وقد رواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق .
حديث رقم – 341-
( صحيح ) حدثنا هناد حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن بن عمر قال : كانوا ركوعا في صلاة الصبح قال أبو عيسى وحديث بن عمر حديث حسن صحيح .
من الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره لما قدم المدينة كان يتألف اليهود ، ولذا كان يصلي قبل مقدمه نحو الكعبة ، فلما هاجر صلى عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس ، لعل اليهود يتبعونه ، ونظير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين ( وجد أن اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فصام عليه الصلاة والسلام ) وكان قبل ذلك كما جاء عند البخاري ( يصوم عاشوراء قبل الهجرة ) وهذا من باب التأليف لهم ، فلم يسبق هذا اليوم أو يعقبه بصيام ، ولذا لما فتح الله عز وجل عليه مكة ، سئل كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند مسلم ( إن اليهود يصومونه ، قال إذا كان من قابل صمنا التاسع ) فمات عليه الصلاة والسلام ولم يصمه ) فلما فتحت مكة لم تكن هناك حاجة لتأليف هؤلاء القوم ، لأنه عليه الصلاة والسلام مع بقائهم تلك المدة لم ينتفعوا أو لم ينتفع منهم إلا عدد يسير ، والمصيبة في علمائهم ، ولذا جاء عند البخاري قوله عليه الصلاة والسلام ( لو آمن بي عشرة من اليهود آمنت بي يهود ) فالمقصود من هؤلاء العشرة هم علماؤهم ، وهذا يدل على أن العالم يكون قدوة إما في الخير وإما في الشر .
ومن الفوائد :
أن حب النبي صلى الله عليه وسلم للتوجه إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام كما ذكر عز وجل في سورة البقرة ، فمكث عليه الصلاة والسلام ستة عشر أو سبعة عشر شهرا حتى أنزل الله عز وجل عليه هذه الآية ، ولما نزلت هذه الآية قالت اليهود إن محمدا يزعم أنه على دين صحيح وهو كل يوم يتوجه إلى قبلة ، فقال عز وجل {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }البقرة142 ، يعني سواء اتجهوا إلى المشرق أو المغرب فالوجهة إلى الله عز وجل ، ولذا قال تعالى {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }البقرة11، وقال عز وجل {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ }البقرة177 الآية
ومن الفوائد :
أن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم متوجها إلى الكعبة بعد بيت المقدس هي صلاة العصر ، لحديث البراء الذي ذكر فيه هذا الرجل الذي أتى على أولئك القوم وهم يصلون نحو بيت المقدس .
ومن هو هذا الرجل ؟
قيل إنه بشر بن عباد ، وقيل بشر بن نهيك .
وهذا يتعارض مع ما جاء في الحديث الآخر من أنه مر على قوم وهم يصلون صلاة الصبح ، وهنا في هذا الحديث صلاة العصر ، وعند ابن أبي حاتم في التفسير ( إحدى صلاتي العشي ) يعني الظهر أو العصر ، وجاء في راوية أنها ( الظهر ) بالجزم .
فكيف التوفيق بين الروايات ؟
التوفيق : أن من كان في المدينة بلغه الحكم في صلاة العصر – كما في حديث البراء – أما من كان خارج المدينة فلم يأتهم الخبر إلا الفجر ، وأما رواية الشك ( إحدى صلاتي العشي ) فإنها أتت في الرواية الأخرى بالجزم ( الظهر ) فلم يبق معنا إلا الظهر أو العصر ، لأن صلاة الصبح وجهت من أن الخبر ما بلغ من كان خارج المدينة إلا عند صلاة الصبح ، ورجحت صلاة العصر على الظهر ، لم ؟ لأن حديث البراء رواته رواة البخاري فيقدم حديث البراء على حديث ( أنها صلاة الظهر )
ومن الفوائد :
قبول خبر الآحاد – وهو الصواب – فأخبار الآحاد مقبولة ، وكما هي مقبولة في الفروع هي مقبولة في الأصول – يعني في العقائد – ولذلك الطوائف المنحرفة في باب الأسماء والصفات لا يرون أخبار الآحاد في هذا الباب ، فيردون خبر الآحاد ولو كانت هذه الأخبار في الصحيحين ، والصواب قبول خبر الآحاد ، والأدلة على ذلك كثيرة منها هذا الحديث فإنهم قبلوا قول شخص واحد فيما يتعلق بالصلاة .
ومن الفوائد :
أنه قال هنا ( هو يشهد ) وفي الرواية الأخرى ( أشهد ) فيكون ( هو يشهد ) تفسره الرواية الأخرى ( أشهد ) فيكون الشاهد هنا هو بشر ، وقد وجه العلماء رواية ( هو يشهد ) من باب التجريد ، أن الإنسان يجرد نفسه من أن ينسب إلى نفسه شيء يعظم به ، ويحتمل أن بشرا حدثهم في أول الأمر فقال ( هو يشهد ) ثم أكد بأن هذا الشاهد هو نفسه وليس غيره .
ومن الفوائد :
أن الإخبار يختلف عن الشهادة ، فإن الخبر يكتفى فيه بخبر الواحد ، سواء كان رجلا أو امرأة ، ولكنه ذكر هذا الخبر ووصفه بالشهادة من باب التأكيد لهؤلاء أنه شهد بنفسه ما وقع وحصل .
ومن الفوائد :
أنهم لم يقطعوا صلاتهم ، وإنما استداروا وانحرفوا تجاه القبلة ، ومن ثم فإن الإنسان لو اجتهد في تحري القبلة فأخطأ ثم مر به شخص آخر وقال إن القبلة عن يمينك أو عن يسارك فلا يقطع صلاته وإنما ينحرف تجاه القبلة ، لكن إن لم يجتهد وصلى هكذا فإنه يعيد لأنه فرَّط ، فهؤلاء الصحابة انحرفوا ولم يقطعوا صلاتهم ، كيف تم هذا الانحراف ، لأنه من المعلوم أن من استقبل بيت المقدس استدبر الكعبة ، ومن استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس ، فهل دار الإمام حول نفسه ؟ أم أنه انتقل من مؤخرة المسجد إلى مقدمته وانحرف الرجال فكانوا محل النساء وانحرف النساء فكانوا محل الرجال ؟
فالرواية التي أتت أن الإمام تقدم وأصبح الرجال محل النساء والنساء محل الرجال ، وهذا يتطلب عملا كثيرا ، والعمل الكثير يبطل الصلاة ، فما هو الجواب ؟
الجواب : يحتمل أن هذا قبل الحكم بأن العمل الكثير يبطل الصلاة ، كما هو الشأن في كلام الناس في الصلاة ، فإنه كان مباحا ثم حرم .
ويحتمل أنه اغتفر عن هذه الحركة الكثيرة لمصلحة الصلاة .
ويحتمل – وهو الأقرب – أن الحركة التي حصلت منهم حركات كثيرة لكنها غير متوالية ، يعني كانت متفرقة .