تعليقات على سنن ( النسائي ) ـ الدرس الثالث والأربعون
حديث ( 448 ) جزء ( 2 )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
[ كتاب الصلاة ]
( فرض الصلاة وذكر اختلاف الناقلين في إسناد حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – واختلاف ألفاظهم فيه )
حديث رقم – 448-
( صحيح ) أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا هشام الدستوائي قال حدثنا قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ أقبل أحد الثلاثة بين الرجلين فأتيت بطست من ذهب ملآن حكمة وإيمانا فشق من النحر إلى مراق البطن فغسل القلب بماء زمزم ثم ملئ حكمة وإيمانا ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار ثم انطلقت مع جبريل عليه السلام )
من الفوائد :
أن ( الحكمة والإيمان ) هنا منصوبان على التمييز ، وهذه قاعدة [ إذا أتت الكلمة منصوبة بعد لفظ الامتلاء ومشتقاته فإن هذا اللفظ المنصوب يعرب تمييزا ] كما قال عز وجل عن الكفار { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً }آل عمران91 ، { ذَهَباً } تمييز ، لأنه أتى بعد { مِّلْءُ } فمتى ما جاءت الكلمة منصوبة بعد لفظة الامتلاء ومشتقاتها فإنها تعرب تمييزا .
والتمييز ” يبين ما هو مبهم “ لأنه لو قال ( طست ملآن ) ملآن ماذا ؟ من ماء ؟ من طعام ؟ فلما قال ( ملآن حكمة وإيمانا ) ميَّز ما في هذا الطست ، كما قال عز وجل { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً } لو قال { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ } ملء الأرض من ماذا ؟ من فضة ؟ من نحاس ؟ من ألماس ؟
ومن الفوائد :
أن في قوله ( فشق من النحر إلى مراق البطن ) بيان المعجزة التي وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم إذ شُقَّ صدره ولم يصب بأذى .
لو قال قائل / ألا يمكن أن يملأ الله عز وجل قلب النبي صلى الله عليه وسلم حكمة وإيمانا من غير شق ؟
الجواب / بلى ، الله عز وجل على كل شيء قدير ، لكن هذا الشق من باب توطين قلب النبي صلى الله عليه وسلم لما سيراه من العجائب في هذه الرحلة ، فإنه إذا رأى أن صدره قد شُقَّ ولم يصب بأذى ولا بألم كان ما بعده أخف على قلبه ، ولذلك قبل أن يوحى إلى النبي صل الله عليه وسلم – كما ذكرت عائشة رضي الله عنها – ( كان يرى الرؤيا فتقع مثل فلق الصبح ) هذا كله توطين وتمهيد للنبوة بالوحي إليه عليه الصلاة والسلام ، ولذا أنس رضي الله عنه يقول كما عند مسلم ( كنت أرى أثر المخيط في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
ومن الفوائد :
أن ( مراق البطن ) أي ما رقَّ من جلدة أسفل البطن ، وهذا يدل على بيان الموضع الذي شق من النبي صلى الله عليه وسلم ، فبين الابتداء والانتهاء .
#وشق صدره عليه الصلاة والسلام وملأه حكمة وإيمانا من باب أنه سيقابل أنبياء ، فيكون في أصفى حالته .
#وقد شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ابن حجر رحمه الله في الفتح ( شق ثلاث مرات )
( لما كان مسترضعا صغيرا في بني سعد، ولما جاءه الوحي ، ولما أسري به )
#وهذا الشق حقيقي ، ومع أنه حقيقي كما أسلفنا لم يشعر بألم ولم ير له أثر من دم أو نحوه ، فكونه عليه الصلاة والسلام يبصر هذا الشيء يفعل به ، هذا من باب تقوية قلبه على ما سيراه ، وهذا من ربط القلب من الله عز وجل لعبده ، لأن من أعظم ما يمن الله عز وجل به على عبده أن يربط على قلبه في أحلك وأعظم المواقف الحرجة التي تمر به ، ولذا ربط على قلب أم موسى { لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }القصص10 ، فتية أصحاب الكهف لما قاموا أمام ذلك الملك الظالم المشرك {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً }الكهف14 ، فهذا من باب ربط قلب النبي صلى الله عليه وسلم لما سيواجهه ، ولذلك قد ترى الإنسان خيرا طيبا مستقيما لكن لو حلت به أدنى مصيبة نجد منه الهلع ، وهذا ضعف ، وأكمل الأحوال أن يجمع الله عز وجل له بين الأمرين ، ولذلك ماذا قال يوسف عليه السلام { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }يوسف90 ، فليست التقوى فقط وهي أن تأتي بالأوامر وتنتهي عن الفواحش ، بل لابد من أمر آخر وهو الصبر على ما لا يناسبك إذا وقع بك { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ }هود123 ، قال شعيب عليه السلام { وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }هود88 ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }الفاتحة5 ، والاستعانة تتعلق بالصبر ، ولذلك معظم كلام شيخ الإٍسلام رحمه الله في ” التدمرية ” معظم كلامه ولاسيما في الثلث الأخير كان يتكلم عن الشرع وعن القدر ومن أضل فيهما ، كما سيأتي إن شاء الله معنا في دروس العقيدة .
ومن الفوائد :
لو قال قائل : ما الحكمة من بقاء أثر هذه الخيوط ؟
الجواب / الحكمة أن ما سيخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما جرى له يكون له على ذلك شاهد واضح وبين ، ولذلك لما رجع عليه الصلاة والسلام وأخبر قريشا بما رأى وأنه عُرج به كذبوه ، فكون هذا الأثر يبقى هو كبقاء خاتم النبوة في ظهره عليه الصلاة والسلام ، فتكون هناك علامات ( في ظهره وفي صدره ) تدل على صدقه عليه الصلاة والسلام .
ومن الفوائد :
أن قلب ابن آدم يوجد به دخن وقذر وهو حظ الشيطان ، ولذلك غُسل قلب النبي صلى الله عليه وسلم غسلا حقيقياً ، وغسل بأي ماء ؟ بماء زمزم ، قال ( فغسل القلب بماء زمزم ) فدل على أن ماء زمزم ماء مبارك ، ولذا لو شاء إنسان أن يتحدث عن فضل ماء زمزم فذكر أحاديث فليذكر من بين أحاديثه هذا الحديث ، ولذا لما كان عسيرا على المسلمين أن تشق صدورهم وأن تخرج قلوبهم وتغسل بماء زمزم لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم أمته من فضل ماء زمزم ، فجعل فيه ما جعل من أحاديث ( ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم ) ( ماء زمزم لما شُرب له ) فيستشفى به من الأمراض ، حتى من الأمراض القلبية ، فلو أن الإنسان شرب ماء زمزم بأي نية حصل له مقصوده ، فلو شرب ماء زمزم من أجل أن يتطهر من الذنوب تطهرت ذنوبه ، لو شرب ماء زمزم بنية أن يصلح قلبه صلح قلبه ، وعلى قدر اعتقاده يكون الأثر ، فقد يشرب الإنسان ماء زمزم ولا يكون له أثر ، لأن قلبه فيه ما فيه ، لكن لو شربه مع تغير طعمه عما هو مألوف من المياه الأخرى ، وشربه باعتقاد جازم فإنه سيكون مؤثرا ، ولذلك يذكر عن ابن المبارك رحمه الله ( أنه شرب ماء زمزم ، فلما فرغ من الشرب قيل له يا إمام بأي نية شرب ماء زمزم ؟ قال بنية أن يذهب الله عز وجل عني الظمأ يوم القيامة )
فهذا دليل على أن ماء زمزم له أثرعظيم ، وأيضا فيه دليل على عظم هذه النفوس الزكية الطيبة فإنها لم تقصد الدنيا وإنما قصدت ما عند الله عز وجل من الخير الأخروي .
سؤال : .هل يقتصر على شربه فقط ؟……………..
الجواب / الوارد في ماء زمزم الشرب ، ووارد أنه إذا مرض الإنسان أن يرش عليه من ماء زمزم .
ومن الفوائد :
قوله ( ثم ملئ حكمة وإيمانا )
يدل على أن قلب النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه نصيب ولو كان يسيرا للشيطان لأن قلبه امتلأ من هاتين الصفتين العظيمتين ، فلم يكن هناك مجال في قلبه لأي أمر آخر ، فدل على أن قلبه عليه الصلاة والسلام مليء بالخير كله .
ومن الفوائد :
قال ( ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار ) الآتي بهذه الدابة وهي ( البراق ) الآتي بها هو جبريل عليه السلام ، لماذا أتي بالبراق ؟
لعل هذا يناسب هذه الرحلة ، لأن ( البراق ) مأخوذ من البرق ، والبرق سريع ، وهذه رحلة سريعة ، ذهب من مكة إلى بيت المقدس ، ثم من بيت المقدس عرج به إلى السماء ، بل تجاوز السماء السابعة ، وذلك في جزء من الليل .
أو باعتبار صفة هذا البراق ، فإن خطوته تبلغ منتهى بصره .
ومن الفوائد :
قال ( ثم انطلقت مع جبريل عليه السلام فأتينا السماء الدنيا ، فقيل من هذا ؟ )
الصعود من الأرض إلى السماء هذه الرحلة عبارة عن رحلتين، رحلة أرضية من مكة إلى بيت المقدس ، ورحلة سماوية من بيت المقدس إلى ما فوق السماء السابعة .
لو قال قائل : ما هي الآلة التي سار بها النبي صلى الله عليه وسلم في الرحلة الأرضية وفي الرحلة السماوية ؟
#بعض العلماء يفهم من كلامه أنه عليه الصلاة والسلام كان راكبا في كلتا الرحلتين الأرضية والسماوية كان راكبا البراق ، فتكون هذه الدابة قد صعدت إلى السماء .
#بينما ابن كثير رحمه الله يقول ” إن الرحلة الأرضية كانت بالبراق ، أما الرحلة السماوية فقد وهَّم من زعم أن البراق صعد بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما قال ابن كثير رحمه الله كما في البداية قال ” أتي بالمعراج وهو سلم له درج ، ولا يدرك كنهه إلا الله عز وجل ، فصعد به النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء “
#ولو قيل إن البراق قد صعد به لكان البراق صاعدا بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى السماء السابعة في سبع خطوات ، لم ؟ لأن خطوته تبلغ منتهى بصره ، والإنسان إذا نظر إلى السماء الدنيا فإن نظره يصل إلى السماء ، فيكون بذلك سبع خطوات .
وفي نهاية هذا الحديث سيتبين لنا هذا القول، ولكن القول ما قاله ابن كثير رحمه الله من أن الصعود كان على المعراج .