الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
باب الوضوء بماء الثلج والبرد
حديث رقم – 333-
( صحيح ) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال أنبأنا جرير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس )
من الفوائد :
أن فيه دلالة على أن الماء بجميع أنواعه السائل والجامد يتطهر به ، سواء كان بَرَدَا أو كان ثلجا ، ولكن يشترط في صحة الوضوء بالبرد أو بالثلج يشترط في ذلك أن يسيل الماء على العضو ، أما إمرار الثلج أو البرد على الأعضاء ولا يحصل سيلان فإنه لا يكون مجزئا ، فلابد أن يكون هناك سيلان .
ومن الفوائد :
أن الخطايا دعا النبي صلى الله عليه وسلم أن تزال عنه ، وهو تعليم أيضا للأمة لأنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
ولو قيل : كيف يستغفر النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه مغفور له ؟
يقال : إن هذا من أبلغ مقام الشكر والحمد ، ولذلك في حديث عائشة رضي الله عنها لما تفطرت قدماه من طول القيام ، فسألته عائشة رضي الله عنها عن ذلك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم ( أفلا أكون عبدا شكورا )
لو قال قائل : ما وجه الدلالة منه هذا الحديث على أن الثلج والبرد يتوضأ به ؟
نقول : لما دلت الأحاديث الأخرى على أن الخطايا تخرج مع آخر قطر الماء ، وهنا سأل الله عز وجل أن تزال خطايا بماء الثلج والبرد ، دل على أن البرد والثلج مطهرٌ ورافع للحدث ، ومعلوم أن الخطايا تخرج مع آخر قطر الماء ، إذاً لابد أن يكون هناك سيلان ، ولذا نص الفقهاء على أنه لو أمرَّ الثلج على أعضائه ولم يحصل سيلان فإنه غير مجزئ .
ومن الفوائد :
أن ذكر الثلج والبرد في مقام الخطايا مع أن الماء الساخن أبلغ في التنظيف من الماء البارد – وهذا شيء مشاهد – فلماذا ذُكر الثلج والبرد ولم يذكر الماء الساخن أو الحار ؟
قال بعض العلماء : لأن الخطايا تورث النار ، والنار حارة فناسب أن يكون مقابلا لها البرودة وذلك في ماء الثلج والبرد .
وقال بعض العلماء : لأن الخطايا تورث ضعفا وإنهاكا للبدن والقلب فيكون الماء البارد في تنشيطها
ومن الفوائد :
أن العبد إذا سأل الله سبحانه وتعالى عليه أن يبالغ ويكثر من السؤال لأنه يسأل ربا غنيا كريما واسع الرزق والعطاء ، ولذلك في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يزيل عنه الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، لأن الثوب الأبيض يظهر فيه أي وسخ ، فكذلك على العبد أن يسأل الله عز وجل وأن يبالغ في سؤال المغفرة .
حديث رقم – 334-
( صحيح ) أخبرنا علي بن حجر قال أنبأنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد )
باب سؤر الكلب
حديث رقم – 335-
( صحيح ) أخبرنا علي بن حجر قال أنبأنا علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي رزين وأبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات )
من الفوائد :
أن سؤر – أي ما فضل – من الكلب من طعام أو شراب يكون نجسا وليس كسائر الحيوانات الأخرى ، فإذا ولغ في الإناء فإن هذا الماء يكون نجسا .
ومن الفوائد :
أن القاعدة في الأصول [ أن المسكوت عنه قد يكون أولى بالحكم من المنطوق ] هنا نص على ( الولوغ ) وهو ” تحريك الكلب لسانه في الماء ” إذاً المسكوت عنه كبوله وغائطه يكون في النجاسة من باب أولى ، كما قال تعالى في حق الوالدين { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا }الإسراء23، إذاً لو ضربهما ؟ الضرب مسكوت عنه ، أليس أولى بالإثم ؟ بلى ، إذاً قد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق .
ومن الفوائد :
أن نجاسة الكلب نجاسة مغلظة ، لأن النجاسة ثلاثة أنواع :
النوع الأول : نجاسة مخففة ، وهي بول الرضيع الغلام الذي لم يأكل الطعام ، يكون تطهير بوله بالنضح يعني برش الماء عليه .
النوع الثاني : نجاسة مغلظة وهي نجاسة الكلب ، فتغسل سبع مرات أولاهن بالتراب ، وهي نجاسة الكلب .
النوع الثالث : نجاسة متوسطة وهي ما عدا هذين النوعين ، فهذه النجاسة تغسل مرة أو مرتين أو ثلاثة حتى تزول النجاسة ، فإذا زالت النجاسة بأي عدد من الأعداء فهذا حكم طهارتها .
ومن الفوائد :
أن التنصيص على الكلب يخرج ما عداه من الحيوانات ، وفي ذلك رد على ما اشتهر عند الحنابلة من أن الخنزير يأخذ حكم الكلب ، والصواب أنه لا يأخذ حكم الكلب ، بل حكمه كحكم النجاسات المتوسطة ، وذلك لأن الخنزير موجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلو كان شبيها بالكلب في النجاسة لبينه صلوات ربي وسلامه عليه
ومن الفوائد :
أن كلمة ( أل ) تدل على العموم فيدل في ذلك كل كلب ، قال ( الكلب ) فيدخل في ذلك الصغير والكبير ، ويدخل في ذلك ما اقتني لحاجة كزرع أو صيد أو حراسة أو ما شابه ذلك من هذه الأغراض فإن الحكم واحد ، ففي ذلك رد على بعض العلماء الذين استثنوا من هذا الحكم استثنوا الكلاب التي أجاز الشرع اقتناءها ، لم ؟
قالوا لأن القاعدة الشرعية تقول [ المشقة تجلب التيسير ] ومعلوم أن مثل هذه الكلاب تلامس أواني وملابس ومفارش نقتنيها فلابد أن يُخفف الحكم في حقهم فلا يكونوا كغيرهم .
ولكن الصواب : العموم .
ومن الفوائد :
أنه مر معنا في الهرة أنها ( من الطوافين ) وقلنا إن كل ما طاف علينا يكون طاهرا في الحياة ، والكلب قد يكون من الطوافين علينا ، وذلك إذا اقتني لحاجة الزرع أو الحراسة أو الصيد ، فيقال إن هذا الحديث خصص عموم حديث الهرة ( إنما من الطوافين عليكم والطوافات )
إذاً / كل ما طاف علينا يكون طاهرا في الحياة ما عدا الكلب .
ومن الفوائد :
أن هذا الحكم يشمل كل إناء صغر أم كبر لأنم عمَّم ، ومن باب أولى إذا ولغ في إناء غيرنا ، لأنه إذا ولغ في إنائنا وقد تكون هناك مشقة الاحتراز منه ، إذاً في أواني غيرنا من باب أولى ، فلا يكون الحكم خاصا بإناء الشخص في قوله صلى الله عليه وسلم ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم )
ومن الفوائد :
أن الكلب إذا ولغ في إناء فليرق ما في هذا الإناء ، ويتم تطهيره بسبع غسلات أولاهن بالتراب ، وهذا الحديث لم يذكر التراب ، لكن الأحاديث الأخرى وستأتي معنا إن شاء الله ذكرته .
ومن الفوائد :
أن العلماء القائلين بأن ما دون القلتين إذا وقعت فيه النجاسة يكون نجسا ولو لم تتغير أحد أوصافه ، ما دليلهم ؟
أدلة كثيرة من بينها هذا الحديث ، لأنه قال ( فليرقه ) لماذا يريقه ؟ قالوا لأن النجاسة أثرت فيه .
ولكن ليس لهم دليل في هذا ، لأن الإراقة قد تكون لعلة أخرى ، لاسيما مع قلة الماء فإن الطب الحديث أثبت أن في لعاب الكلب دودة شريطية متى ما شرب الإنسان من الإناء بعد الكلب علقت في معدته ، فيكون أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإراقة يكون لغرض آخر غير النجاسة .
حديث رقم – 336-
( صحيح ) أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا خالد يعني بن الحارث عن شعبة عن أبي التياح قال سمعت مطرفا عن عبد الله بن مغفل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ورخص في كلب الصيد والغنم وقال إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب )
من الفوائد :
أن فيه دلالة أن جميع الكلاب تأخذ حكم النجاسة المغلظة ، لم ؟
لأنه ذكر حكم التطهير وكان قبل ذلك ذكر حكم اقتناء الكلاب التي للحاجة من زرع ونحوه ، فدل على أن الكلاب كلها تأخذ هذا الحكم .
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الثامنة التعفير بالتراب قال ( وعفروه الثامنة بالتراب )
فضعفها بعض العلماء لسببين :
السبب الأول : أنها أتت في آخر الأمر ، ومعلوم أن التراب إذا كان آخر شيء سيلوث الإناء .
السبب الثاني : أنه ذكر ثمان غسلات ، بينما الأحاديث الأخرى ذكرت سبع غسلات من بينهن واحدة بالتراب .
وقال بعض العلماء : إن الرواة لها رواة ثقات ، فكيف نغلِّط الثقات ما دمنا نجد سبيلا لتوجيه هذه الرواية ؟ فتكون هذه الرواية رواية صحيحة ( وعفروه الثامنة بالتراب ) أي أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع التراب موقع غسلة ثامنة ، لأن التراب إذا ضم مع الماء في حقيقة الأمر تكون غسلة واحدة ، لكن من نظر إلى أن هذا تراب والممازج له ماء أوقع التراب موقع الغسلة الثامنة .
وأما كون هذه الرواية ذكر فيها أن الغسلة الأخيرة تكون بالتراب يقولون تلك الأحاديث الأخرى التي ذكرت ( أولاهن بالتراب ) مرجحة عليها .
إذاً يكون التراب أين ؟ في الأولى .
ومن الفوائد :
أنه لم يذكر في غسلة التراب طريقة التتريب ، هل يمزج التراب بالماء حتى يتكدر ؟
أو أنه يدرُّ التراب على الإناء ويصب عليه الماء ؟
مطلق ، أهم شيء أن يكون هناك تراب .
ومن الفوائد :
أنه نصَّ عليه التراب مع وجود مطهرات أخرى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مثل الأشنان والقرظ ) فدل على أنه لا يجزئ شيء إلا التراب .
خلافا لمن قال : إن المطهرات التي هي أبلغ تكون مجزئة وكافية عن التراب .
ولكن الصواب : أن التنصيص على التراب يدل على أهميته ، ولذلك أثبت الطب الحديث أن في لعاب الكلب دودة شريطية لا يقتلها إلا التراب .
ولكن يمكن أن يستغنى عن التراب في حالتين :
الحالة الأولى : إذا انعدم التراب ، ما وُجد إلا مطهر آخر ، إذاً { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }البقرة286 و[ الضرورات تبيح المحظورات ] كما هي القاعدة الشرعية .
قد يقول قائل : لو استعملنا غير التراب لربما بقيت هذه الدودة فأثرت في جسم ابن آدم لما لم يستعمل التراب ؟
فيقال : هناك قاعدة [ كل ما انتفى ضرره شرعا انتفى ضرره قدرا ] الميتة محرمة لما تحتويه من جراثيم ، لكن إذا بلغ الإنسان حالة الضرورة فأكل منها بقدر ما يقيم حياته فإن جسمه قابل لهذا اللحم المتعفن فيطرد ما هو ضار ، إذاً لما انتفى الضرر شرعا انتفى الضرر قدرا ، ولذا إذا زاد عن قدر حاجته فشبع فقد يحصل له هذا الضرر .
الحالة الثانية : فيما لو كان الإناء يخشى عليه التلف إذا تُرب ، فلو كان هذا الإناء متشققا واستعمل فيه التراب لأثر فيه التراب وأفسده ، هنا يستعمل غير التراب .
وهذه الحالة يمكن تقبل في حالة واحدة وهي ” لو لم يكن لديه إلا هذا الإناء ” أما إذا كان لديه آنية أخرى فلا .
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر أمر بقتل الكلاب بجميع أنواعها الأحمر والأسود والأبيض بجميع أشكالها ثم نُسخ هذا الحكم فقال ( ما بالهم وبال الكلاب ؟ ) فترك الأمر بقتل الكلاب كلها ما عدا الأسود فإن الأسود مأمور بقتله .
وبعض العلماء يقول : ( ما بالهم وبال الكلاب ) هذا وقت الأمر بقتل الكلاب ، كأنه يحضهم على قتلها لما كان مباحا ، كأنه يقول لماذا يدعون قتلها ؟
فمحتمل هذا ومحتمل هذا ، ولكن الاحتمال الأول أقرب .
ومن الفوائد :
أن اقتناء الكلاب محرم ، ومن اقتناه ( فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراطان )
واستثني من ذلك الكلاب المقتناة للصيد أو الحراسة أو الزراعة .
لو قال قائل : هل يلحق بهذه الثلاثة ما هو مثيلها في الحاجة أو أشد ؟ مثل ما يسمى بـ ( الكلاب البوليسية ) فإن فيها حفظا للأمن ، وتستعمل في الكشف عن جرائم القتل أو المخدرات أو ما شابه ذلك ؟
اختلف العلماء، بعض العلماء : لا تقتنى إلا لهذه الأشياء الثلاثة ، وحجتهم قوية جدا ، ما حجتهم ؟ قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فصَّل وذكر هذه الأشياء الثلاثة ولم يذكر واحدة ، دل على أن هذه الأشياء الثلاثة مع وجود أشياء أخرى دل على أنها هي المقصودة بالجواز وما عداها فلا يدخل في الجواز ، فلو كان يريد الإباحة المطلقة لذكرا صنفا واحدا ، لكن لما ذكر ثلاثة أشياء [ الصيد والحراسة والزراعة ] دل على أنها هي المباحة في الاقتناء .
وقال بعض العلماء : هي عامة ، إذاً يدخل في ذلك ما ذُكر في هذا العصر الحديث من اقتناء هذه الكلاب لهذه الفوائد .
وهذا هو الأقرب ، لم ؟ لأن القاعدة الشرعية تقول [ إن الشرع لا يفرِّق بين متماثلين ولا يجمع بين متفرقين ] نصيبنا من القاعدة الجزء الأول [ إن الشرع لا يفرق بين متماثلين ] فالشرع أجاز هذا النوع من هذه الكلاب لحاجة لكن تستجد أمور هي مثيلة لها أو أعظم فلماذا ينهى عنها ؟
وأما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأنواع الثلاثة لأنها أبرز الأغراض في ذلك العصر ، وهذا هو الأقرب والعلم عند الله .