بسم الله الرحيم الرحيم
التفسير الشامل ـ تفسير (سورة الأحقاف)
الدرس (233)
لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الأحقاف هي من السور المكية.
{حم} وهي من الحروف المقطعة ومر بيانها في أول سورة البقرة
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أي: نزل هذا القرآن من الله العزيز الحكيم، ومر تفسيرها في أول سورة الزمر.
{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3]
{مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} ما خلقهم الله عز وجل إلا بالحق من أجل أن يعبد الله عز وجل وحده.
{وَأَجَلٍ مُسَمًّى} يعني إلى وقتٍ مسمى، وذلك حينما تقومُ الساعة
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ}
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} مع تلك الدلائل العظيمة، {عَمَّا أُنذِرُوا} يعني عمّا خُوِّفوا {مُعْرِضُونَ} عن طريق الهدى والحق.
{قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ۖ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [4]
{قُلْ} يا محمد لهؤلاء {أَرَأَيْتُم} يعني أخبروني {مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} من تلك الآلهة
{أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} أيُّ شيءٍ خلقوه من الأرض؟! أروني.
ولذلك ماذا قال تعالى؟ {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11]
{أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} [فاطر:40].
هل لهم شراكة في السماوات!؟
{ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
{ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا} لتأتوا بكتاب قبل هذا القرآن يشهد لكم على ما قلتموه.
{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أي: بقية من علمٍ نافع يشهد لكم بذلك {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} لكنكم لستم بأهل صدق بل كَذَبَه، ولذلك ماذا قال عز وجل؟
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:40]
ـــــــــــــــــــــــ
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [5]
{وَمَنْ أَضَلُّ} أي: لا أحد أضل، الاستفهامُ هنا للنفي.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} يعني: أنه لو دعا هذه الأصنام من أجل أن تستجيبَ له، جعل يدعوها إلى أن تقوم الساعة ما استجابت له، قال الله عز وجل عن ذلك الرجل المؤمن: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ- لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} [غافر:42-43]
بل تلك الأصنام في يوم القيامة تُبعث معكم، وإذا بها تتبرأ منكم، ولا تستجيب لكم، فيقول الله عز وجل: {وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}
تلك الأصنام عن دعاء هؤلاء هم في غفلة، لأنهم جمادات
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [6]
يعني مع ذلك كلِّه وإذا حُشر الناس كانت تلك الأصنام لهؤلاء أعداءً
{وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} يقولون نحن بعبادتكم لنا نكفر بذلك، فأنتم لم تعبدوننا.
{وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [7]
{وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} تتلى هذه الآيات آيات القرآن واضحة بينة
{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُم}ْ من باب التعنت والطغيان {هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضح وبين.
فدل هذا على صدود وإعراض هؤلاء.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ۖ كَفَىٰ بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۖ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف:8]
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} مع ذلك انظر إلى بشاعة القول، مع أنهم حكموا عليه بأنه سحر، يقولون: محمد افترى هذا القرآن! {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يعني هنا للإنكار، بل أيقولون افتراه؟!
{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} افتراضا {فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} يعني إن أرادني بضُر، لأني لو افتريت هذا القرآن، لأنزل اللهُ بي عذابَه.
{هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي بما تُسارعون فيه، والإفاضة: السرعة، مثل ما يفيض الماء، يعني أنكم تتسابقون إلى الكفر وإلى الأعمال الخبيثة.
{كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يعني كما قال تعالى عنه {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الإسراء:96]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الذي يغفر الذنوب لمن تاب إليه، ويرحم عبادَه وأولياءه.
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [9]
{قُلْ} قل يا محمد {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} يعني لست بأول الرسل {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} أي ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في هذه الدنيا فيما يتعلق به ﷺ، فيقول لا أدري ماذا يفعل الله بي،
هل أُخْرَج مِن مكةَ أم أني أبقى؟ وما شابه ذلك مما يتعلق بالأمور الدنيوية، ثَم ما يتعلق بأمر الآخرة فإن الله عز وجل جعل نبيه ﷺ في أعلى الدرجات،
ومَن ثَم: فإنه لا يطرح مثَل هذا السؤال الذي تحدث عنه كثير من المفسرين من أنه قال: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} فكيف لا يدري ما يُفعل به يوم القيامة؟
فالجواب عن هذا: أن النبي ﷺ ما ذُكر عنه هنا إلا ما يتعلق بالدنيا، وليس في الآية دليلٌ على ما ذكروه مما يتعلق بأمر الآخرة، فدل هذا على أن قوله تعالى {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} أن ما يتعلق به ﷺ هنا إنما يتعلقُ بأمر الدنيا، أما أمر الآخرة فالنبي ﷺ قد أدراه ما هي منازله في الجنة.
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ} أي لا أتبع إلا ما يُوحى إليّ.
{وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي نذيرٌ يخوفكم، ونذارتي واضحة وبينة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [10]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ} وهذه الآية نظير الآية التي مرت معنا {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت: 52] يعني: إذا كان هذا القرآنُ من عند الله عز وجل ثَم كفرتم به، ما تعلمون ما سيحل بكم، سيحل بكم عذاب الله عز وجل إذ أنكرتم هذا القرآن.
ولعل ما ذكر ما يتعلق بالواو مِن أن هؤلاء كفروا بهذا القرآن دون أن يتأملوا فيه، وأما الآية التي في قوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت: 52] مع مَا مرت عليهم الحجج والدلائل الواضحة، كل ذلك لم يؤمنوا بل كفروا بهذا القرآن أولَ نزوله وبعد أن استمعوه.
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ} أي: على مثَل هذا القرآن، فهو شهِدَ، والمقصود من بني إسرائيل هو جنسُ أهلِ الكتاب، فيدخُلُ فيهم عبدُ الله بن سلام، وذلك ﷺ لأن السورة مكية، وعبدُ الله بن سلام إنما أسلم في المدينة، فيكون المقصود هنا حتى ينتفي الخلاف بين أهل العلم: أن المقصود هنا جنس أهل الكتاب ممن آمن بهذا القرآن قبل هجرة النبي ﷺ؛ وبعد هجرته أمن به عبد الله بن سلام وغيرُه ممن هداه الله عز وجل.
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ} يعني على هذا القرآن شهِدَ بأنه حق، وذلك لأن مِثلَه مَن الكتب السابقة بينت أن ما ذكر في هذا القرآن أنه حق، وأن ما أتى به النبي ﷺ حقًا.
{فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} يعني هو آمَن؛ لكن حالكم حال الاستكبار
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يعني أنه لما آمن واستكبرتم ما هي حالكم مِن أنكم أنتم الظالمون، ولذلك قال الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يوفقهم للهداية، وذلك بأنهم زاغوا
{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
ــــــــــــــــــــــــــــــ
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ۚ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [11]
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}
وهذا مما يدل على تكبرهم واستكبارهم مِن أنهم يقولون لو كان هذا الدين حقًا لما سبقنا إليه هؤلاء الضعفاء كبلال وصهيب وما شابه هؤلاء.
{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} يعني أن هؤلاء المشركين إذا لم يهتدوا بهذا القرآن حكموا على هذا القرآن بهذا الحكم الجائر {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} حكموا عليه بأنهم سيقولون هذا إفك، يعني إنه كذب من الأكاذيب الماضية كما قالوا {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25].
{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ} [12]
{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً} يعني أن كتاب موسى وهو التوراة يشهد لهذا القرآن {وَمِن قَبْلِهِ} يعني مِن قبل القرآن {كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} من أنه إمامٌ يُقتدى بهذا الكتاب وهو التوراة {إِمَامًا وَرَحْمَةً} يعني أنه رحمة لمن تمسك به.
فقال الله عز وجل مبينًا أن هذا الكتاب وهو كتاب موسى قد ذكر النبي ﷺ وذكر أن هذا القرآن حقًا فقال عز وجل: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} ثَم أثنى على هذا القرآن:
{وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ}
{وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} مصدق يعني الكتب السابقة، كما أن الكتب السابقة صدقته.
{لِسَانًا عَرَبِيًّا} يعني بلسان العرب.
فلماذا لا تؤمنون؟
{لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} ليخوف الذين ظلموا كحالكم {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} بشرى بالخير وللنعيم لمن هو أحسن
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [13]
أي لا يصيبهم خوف مما سيُقدمون عليه، ولا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، ولذلك قال بعدها: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:14] أي بسبب أعمالهم، فجزاهم الله عز وجل على أعمالهم بأحسن الجزاء، وهذا نظير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [15]
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} لما ذكر الله عز وجل ما يتعلق التوحيد، لما ذكر حقه ذكر حق الوالدين، وهكذا يقرِنُ الله عز وجل بينهما في آيات كبيرة منها قوله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] ونظائر هذا كثيرة.
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ} يعني أمرنا الإنسان وعهِدنا إلى الإنسان {بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} قال: إحسانًا، وفي سورة العنكبوت {حُسْنًا} [العنكبوت: 8]، ولعل الجمع بينهما والعلم عند الله:
مَن أن كلمة {حُسْنًا} بمعنى أنه يكون هذا الفعل على أعلى مقامات الحُسن، وأما إحسانه فيدل على كثرة الفعل، يعني الإحسان تلو الإحسان.
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} لما ذكر ما يتعلق بحق الوالدين، ذَكر حقَّ أعظم الوالدين وهي الأم كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14]
قال هنا: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} يعني مشقة بعد مشقة، مِن حين ما حملت به، ثَم بعد ذلك تطور {وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} يعني حال ولادته أيضًا أصابها ما أصابها من الكره.
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} يعني أنها حملت به وأرضعته ثلاثين شهرا.
وهذا يدل على ماذا؟
يدل على أن هذه الأم عانت حال حملها به، وعانت حال إرضاعها له، ثَم إن قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} وذلك لأن الرضاعة تكون سنتين {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، والحولان هما أربعة وعشرون شهرًا، وأما الحمل:
دل هذا على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لدلالة هذه الآية {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} يعني أن فطامه مع حمله يكون الحساب ثلاثين شهرًا.
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} يعني بعد أن فُطِمَ وتطورت أحوالُه مِن الطفولة إلى الشباب وما شابه ذلك {بَلَغَ أَشُدَّهُ} يعني حتى إذا وصل إلى هذا السن، وهو بلوغ الأشُد، ولعل الأرجح أنه يكون: ثلاثا وثلاثين سنة {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} وبلوغ الأشد يدل على كمال قوته، وأعظمُها أربعون سنة، ولذلك الأنبياء يُبعثون على رأس أربعين سنة.
{قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} يعني ألهمني ووفقني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} أي: بجميع إنعامك الديني والدنيوي {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} وذلك بأن يكونَ خالصًا لك وموافقًا لسنة النبي ﷺ {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} جعل الذريةَ كأنها محل الإصلاح، وهذا مِن باب المبالغة، يعني اجعل الصلاح الأعظم في ذريتي. {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} تُبتُ مما صدر مني فيما مضى {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الذين أسلموا لك يا رب العالمين.
وذِكْرُ هذا السن -والعلمُ عند الله- فيما يتعلق بذكر الوالدين، وما يتعلق بذِكر الذرية من باب تنبيه الإنسان لأنه إذا بلغ أربعين سنة، فإن أولادَه يكثرون، ومِن ثَم: فلربما ينسى الماضي، وهو ماضي أمه وأبيه، فليتذكر أحوالَهما ولْيُكثِر لهما من الدعاء، ثَم أيضًا لا ينسى أبناءه وذلك بالقيام على شؤونهم والدعاء لهم.
{أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [16]
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} يتقبل الله عز وجل أعمالَهم لأنها أعمالٌ حسنة، ولذلك إذا كان يتقبل أحسن ما عملوا، فيتقبل ما دون ذلك.
وبعض المفسرين قال: إن أحسن بمعنى حسن، وذلك لأن الأعمال الصالحة كلها حسنًا، فقال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ}
يعني نعفو ونتجاوز عن ذنوبهم في أصحاب الجنة.
يعني أنهم في جملة مَن؟ جملة أصحاب الجنة {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} وأضاف الوعد إلى الصدق بمعنى: أنه حق، وذلك لأن الله عز وجل وعدهم بأنه يدخلهم الجنة فقال تعالى: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــ
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [17]
هذا حال الشقي الذي شَقيَ، فلم يعبد الله عز وجل، ولم يراعِ حقَّ والديه
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ} وكلمة أف تدل على التضجر.
ولذلك ماذا قال تعالى؟ {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23]
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} أي أتعدانني مِن أنني إذا مِتُّ أن أخْرَجَ مِن قبري {وَقَدْ خَلَتْ} يعني: مضت {الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي}
{وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
{وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} يعني يلجئان إلى الله، يستغيثان بالله {وَيْلَكَ آمِنْ} يحذرانه مما وقع فيه من هذا الإنكار للبعث.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} وذلك ببعث الناس من قبورهم {فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} يعني أكاذيب الأولين، ولذا فهذه الآية تشمل كل إنسان صنع هذا الصنيع.
وأما ما يذكره بعض المفسرين: مِن أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، فإنه لا دليل عليه ولا صحة له، وذلك لأن مروان كما ثبت: مروان لما قال لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه أن هذه الآية نزلت فيه، أجابته عائشة رضي الله عنها كما ثبت عنها قالت: ما أنزل الله عز وجل فينا شيئًا في القرآن إلا براءتي، ومما يدل على أن عبد الرحمن ليس هو المقصود، فإن عبد الرحمن معلوم أنه أسلم رضي الله عنه وحسُنَ إسلامه، ومما يدل على ذلك أن الله عز وجل.
ماذا قال بعدها؟
{أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [18]
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ} قال: أولئك بصيغة الجمع، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني أن حق الله عز وجل وجب على هؤلاء كما قال تعالى:
{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85]
13:58
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} يعني في جملة أمم {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} [الأحقاف:18] يعني قد مضت {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأحقاف:18] بمعنى أن تلك الأمم من الجن والإنس حق عليهم قول الله عز وجل {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:18] خسروا دنياهم وخسروا آخراهم.
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف:19] يعني هذان الفريقان بكل منهم درجات، ومِن ثَم فإنه لا تعارض بين ذلك وبين مِن أن النار قد هي دركات، وقد بينا ذلك في سورة آل عمران فقال الله عز وجل: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [الأحقاف:19] يعني جزاء أعمالهم {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف:19] يعني من كان مِن أهل الإيمان، فإنه يعطى الجنة، ومَن كان مِن أهل الشقاء كحال هذا الذي أنكر البعث، فإن مصيره إلى النار.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف:20] يعني واذكر في ذلك اليوم يوم يعرض الذين كفروا على النار، كما قال عز وجل {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام:27]، ويترتب على ذلك أنه بعد العرض يكونون في نار جهنم {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20] يقال لهم على سبيل التوبيخ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف:20] هذا العذاب الذي يهينكم {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف:20] وذلك بسبب تكبركم {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20] والفسق هنا هو الفسق الأكبر الذي هو الكفر.
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [الأحقاف:21]، يعني واذكر يا محمد حال هود عليه السلام مع قومه، قال الله عز وجل هنا {أَخَا عَادٍ} [الأحقاف:21] وذلك لأنه أخوهم مِن حيث النسب، لا مِن حيث الدين، {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} [الأحقاف:21] ليعتبر هؤلاء بحال قوم عاد {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [الأحقاف:21] والأحقاف هي الرمال التي تكون مرتفعة بحيث لا يصل ارتفاعها إلى الجبل، وهذا معنى الأحقاف، وذلك أنهم يسكنون في تلك البلاد التي بها الرمل المستطيل المرتفع الذي لا يصل إلى الجبال، {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [الأحقاف:21] وقد خلت ومضت النذر مِن بين يديه وهم الرسل ومن خلفه بمعنى أن كل رسول أتى قبله أو أتى بعده، فإنما يأمرون أقوامهم بعبادة الله {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [الأحقاف:21] ثَم خوفهم فقال: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} [الأحقاف:21-22] يعني لتصرفنا {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأحقاف:22] يعني من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف:22] فيما زعمت مِن هذا القول.
{قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحقاف:23] علم نزول العذاب هو علم الله عز وجل، وحاله كحال نوح والأنبياء الذين قال الله عز وجل عن نوح قال: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}[هود:33]، {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} [الأحقاف:23] يعني ما علي إلا البلاغ {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:23] على الكفر، وأيضًا استعجلتم عذاب الله، فأي جهل أعظم من هذا الجهل.
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا} [الأحقاف:23] والعارض هو السحاب، وسمي السحاب بالعارض؛ لأنه يعرض في الأفق، وذلك لأنه هو العلم عند الله من دلالة هذا السياق يدل على أن القحط قد أصابهم، وقد جاء بعض الآثار مما يدل على ذلك {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} [الأحقاف:24] يعني هذا السحاب مستقبل أوديتهم {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] يعني سينزل المطر {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الأحقاف:24] فيقال لهم {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24] هذا الذي استعجلتم به، وذلك لما طلبتم من هود عليه السلام أن ينزل عليكم العذاب، بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم يعني متضمنة العذاب الأليم.
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] تهلك كل شيء بأمر ربها، لا من حولها ولا مِن قوتها، إنما هي جند من الله بأمر مِن الله {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] أنهم هلكوا جميعًا، ولم تبقى إلا مساكنهم شاهدة عليهم {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:25] مَثل ما جزينا هؤلاء نجزي كل قوم مجرمين كحال قوم عاد، فقال الله عز وجل {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}.
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا} [الأحقاف: 26].
يعني {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ} مِن؟
عاد فيما يعني (في) الذي، (إن) هنا بمعنى النافية، يعني لقد مكانهم فيما لم نمكنكم فيه يا كفار قريش مما كانوا عليه من القوة، فهم أعظم منكم قوة {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا} “ما” هنا موصولية يعني في الذي إن يعني ما، ما مكناكم فيه، ومع ذلك {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ} [الأحقاف:26] لأنهم عطلوا هذه الحواس {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف:26] يعني من شيء لما نزل عذاب الله عز وجل، لأنهم لم ينتفعوا بشيء مما أرسل به هود عليه السلام إذ كانوا.
السبب ماذا؟
{إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأحقاف:26] أحاط بهم ما كانوا يستهزئون به مِن دين هود عليه السلام.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف: 27] يا كفار قريش {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف:27] كقوم عاد وثمود وما شابه {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف:27] تمرون عليهم في أسفاركم إلى الشام أو إلى اليمن {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] صرفنا يعني أننا نوعنا الآيات مِن حيث الترغيب، ومِن حيث الترهيب، والحجج والبينات لعلهم يرجعون لعل تلك الأمم السابقة ترجع عن عصيانها، وقال بعض المفسرين {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] يعني كفار قريش لا تناقض بينها، فإن الرسل عليهم السلام أعطاهم الله عز وجل البينات وصرفه ومع ذلك لم يؤمن السابقون من هؤلاء، وكذلك حال كفار قريش.
{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ} [الأحقاف:28] يعني هلا {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف:28] يعني هلا لما نزل عذاب الله عز وجل بهم هلا كانت الآلهة التي جعلوها قربى يتقربون بها إلى الله.
هلا نصرتهم؟
الجواب: لم تنصرهم ولذلك ماذا قال عز وجل؟
{بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف:28] يعني غابوا عنهم {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} [الأحقاف:28] يعني ذلك الإفتراء منهم مِن أن تلك الآلهة تنفعهم {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف:28] أي ما كانوا يفتروه من الكذب.
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف:29] يعني إن لم يسلم هؤلاء، فلتعلم يا محمد وذلك لما تعب ﷺ من صدود قومه، فالله عز وجل صرف إليه نفرًا من الجن {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29] وتأمل هنا يدل على ماذا؟ يدل على حسن أدبهم مع القرآن {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29] واحضروا حواسكم {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ} [الأحقاف:29] يعني النبي ﷺ من قراءة القرآن {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] يعني أنهم ينذرون قومهم، فدل هذا على أن القول الصحيح وقد مر معنا مرارًا مِن أن النبي ﷺ مبعوث إلى جميع الخلق من الإنس والجن، وأن الجن فيهم نذر وليس فيهم رسل.
{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا} [الأحقاف:29-30] سبحان الله لما انتفعوا أرادوا أن ينفعوا غيرهم، وهذا هو حال الداعية يتعلم فيعمل فيبلغ دعوة الله، {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] لم يقل مِن بعد عيسى، وذلك لأن التوراة هي أشهر من الإنجيل، ولأن الإنجيل مبين التوراة لأن الإنجيل وضح {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}[الزخرف: 63]، وهذا هو الصواب خلافًا لمن قال مِن أن هؤلاء لا يعرفون عيسى {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف:30] يعني مِن الكتب السابقة {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30] هذا طريق مستقيم للقرآن يهدي إلى الحق الذي لا باطل حوله، ويهدي إلى صراط مستقيم لا اعوجاج فيه.
{يَا قَوْمَنَا} [الأحقاف:31] وهنا قرروا {يَا قَوْمَنَا} [الأحقاف:31] من باب التلطف معهم {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31] أي كل مَن يدعو إلى الله عز وجل، ومِن ذلك النبي محمد ﷺ {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]، {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31] يعني يخلصكم مِن عذاب أليم، وأخذ بعض العلماء مِن أن الجن يوم القيامة لا يدخلون الجنة، وإنما فقط يزحزحون عن النار لدلالة هذه الآية، والصواب أنهم يدخلون الجنة.
ولذا ماذا قال تعالى؟
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46].
ماذا قال بعدها؟
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:47] وهذا يشمل الإنس والجن، ولما قال: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:74-75]، {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31] يعني يخلصكم من عذاب أليم.
{وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:32] بينوا لهم أن مَن أعرض عن داعي الله عز وجل، {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} [الأحقاف:32] لن يعجز الله ولن يفوت الله، وسيعذبه الله {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ} [الأحقاف:32] يعني أنهم ينصرونه مِن دون الله {أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:32] يعني مَن لا يجيب داعي الله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف:33] لم يصيبه إعياء ولا تعب {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} [الأحقاف:33] الباء هنا زائدة لأنها في خبر أن، وتزاد في خبر أن كخبر ليس، فقال الله عز وجل مبين أن من قدر على خلق السماوات والأرض، قادر على أن يحيي هؤلاء، فقال الله عز وجل: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33] بلى هو قادر، بل هو على كل شيء قدير، ليس على البعث فحسب، بل على كل شيء قدير.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف:34] تكررت من باب التحذير والتخويف ويوم يعرض يعني واذكر يوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق؟ يقول الله عز وجل لهم {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} [الأحقاف:34] حلفوا على ذلك لعل الله ينجيهم {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف:34] بسبب كفركم.
{فَاصْبِرْ} يا محمد على أذى قومك {كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] وهم الذين تحملوا الأذى والمتاعب والمشاق، وهؤلاء أولوا العزم اختلف المفسرون، قال بعض المفسرين أولوا العزم من الرسل قال: مِن هنا بيانية فكل رسول يعتبر من أولي العزم، وقال بعضهم إنما هم أولوا العزم ما عدا يونس، وقيل بأقوال أخرى.
وقال: وهذا هو الأكثر والأشهر والأظهر مَن أن أولي العزم خمسة مذكورون في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}[الأحزاب:7]، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13]، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} حينما يطلبون ماذا؟ عذاب الله، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من عذاب الله إذا نزل بهم {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} يعني كأنهم لم يلبثوا إلا وقتا يسيرًا مع أنهم لبثوا في دنياهم، أو في قبورهم ما قدره الله عز وجل من ذلك الزمن {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} يعني هذا القرآن والمتضمن لما ذكرته بلاغ وحجة عليكم، وهو بلاغ يبلغكم إلى الطريق المستقيم إن أخذتم به، ثَم بعد ذلك ماذا؟ إلى جنات العليم لكن مَن أعرض عنه، فقد قامت عليه الحجة، ولذلك قال بعدها: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35] يعني لا يهلك إلا القوم الفاسقون.
أما المتقون فإنه لا هلاك عليهم لأنهم ماذا؟
آمنوا بهذا القرآن.
وبهذا ينتهي تفسير سورة الأحقاف.