تفسير سورة الإسراء من الآية (34) إلى ( 57 ) الدرس (159)

تفسير سورة الإسراء من الآية (34) إلى ( 57 ) الدرس (159)

مشاهدات: 478

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الإسراء من الآية 34 إلى الآية 57

الدرس (159)

لفضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله رب العالمين وأصلى وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليم كثيرا إلى يوم الدين أما بعد..

قال تعالى :

﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖإِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ (34(

فكنا قد توقفنا عن قول الله عز وجل { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} لما نهى عنه القتل نهى عن قُربِ مال اليتيم، وقد مرت معنا هذه الآية في سورة الأنعام.

فقوله عز وجل: { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } قال بعدها {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ } والعهد هو: كل ما عاهد الإنسانُ ربَّه من القيام بحقوق الله عز وجل، وما عاهد عليه المخلوقين، مما يكون بين المخلوقِ ومخلوقٍ آخَر

 { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } أي: إن العهد كان مسئولا عنه، وذلك بأن يُسأل الإنسان عن تلك العهود هل وفَّى بها أم أنه نقضها؟!

﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (35(

{وَأَوْفُواَ الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أمر اللهُ عز وجل أن يوفوا الكيل من غير نُقصان {وَأَوْفُواَ الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ} يعني: بالميزان {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} يعني: العدل {ذَٰلِكَ خَيْرٌ} يعني: إتمام الكيل و إتمام الوزن { ذَٰلِكَ خَيْرٌ} هو خيرٌ لكم في الدنيا من حيثُ البركة، و من حيثُ ما يبقى لكم من فضل الله ونعمة الله عز وجل، و خيرٌ لكم في الآخرة حيثُ ثواب الله عز وجل.

{وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } يعني: وأحسن عاقبة في الدنيا، وذلك بأن لا يقع بغضٌ ولا تشاحن بين الناس إذا وفوا بالميزان ووفوا بالكيل، وأيضًا خيرٌ عاقبة في يوم القيامة حيث ثواب الله عز وجل.

{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } (36(

{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} {وَلَا تَقْفُ} أي: لا تتبع، وهذا يشمل القول ويشمل العمل؛ {وَلَا تَقْفُ} بمعنى أنك تقول سمعت ولم تسمع، أو تقول علمت ولم تعلم، وهذا يدل على أن الإنسان قال قولًا من غير ُحجة.

وكذلك يشمل العمل فالإنسان لا يتبع غيرَه إلا إذا كان ذلك الغير على صراطٍ مستقيم وعلى دلائل وحجة واضحة حتى لا يضل، { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لأن من يتبع ما ليس له بعلم يقع في ما يخالف الله من الانحرافات ومن البدع وما شابه ذلك.

{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } بمعنى أنك سوف تُسأل عن سمعك وعن بصرك وعن فؤادك الذي تعقل به وهو قلبك { كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} بل إنه كما قال بعضُ العلماء: أن الإنسان يُسألُ سمعُه وبصرُه و قلبُه عما فعل وقال، ولذا قال عز وجل { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } ( يس :65(

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ (37)

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} لما نهى عن تتبع ما ليس له به علم من قولٍ أو عمل هنا نهي عن التكبر { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا } بمعنى أنك تمشي فخورا مختالاً.

{إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا }  بمعنى أنك عبد ضعيف فإنك إذا مشيت على وجه الخُيلاء فإنك لن تستطيع أن تخرق الأرض إلى قاعِها، وأيضًا لا تستطيع قامتك أن تصل إلى الجبال فالجبالُ أعظمُ منك.

ويدخل في ذلك قولُ من يقول: أن الإنسان كما قال عز وجل هنا: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ} وذلك إذا مشيتَ على قدَمَيك.

ويدخل في ذلك قول بعض المفسرين: من أنك لن تستطيع أن تُحيطَ بمسافة الأرض، وكذلك من أنك إذا مشيت على صدور قدميك فإنك لن تستطيع أن تصل إلى الجبال من حيثُ العلو.

﴿ كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ (38(

{كُلُّ ذَٰلِكَ} أي مما مرّ ذِكره مما نهى الله عز وجل، عنه أو مما أمر به من قوله عز وجل {ولَّا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا } إلى هذه الآية:

﴿ كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ (38(

{كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ} أي السيء منه {كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} السيء منه هو مكروهٌ عند الله عز وجل، وذلك كالشرك بالله وعقوق الوالدين وما شابه ذلك مما مرَّ مما نهى عنه عز وجل.

{كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} وهذا يدل على أن ما مضى إنما هي مُحرمة لأن المكروه هنا يراد منه التحريم، ولذا أكثر ما يأتي عن السلف رحمهم الله فيما يتعلقُ بالكراهة: كراهة التحريم، ولذا قال ﷺ كما ثبت عنه:

” إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قيلَ وَقالَ، وإضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ “

وهذه ليست مكروهةً على حسب مصطلح الفقهاء وهي التي: يُثاب تاركها ولا يُعاقب فاعلها، بل إنَّ هذه الأشياءَ المذكورة في الحديث تدل على التحريم.

 

{ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا }(39(

{ذَٰلِكَ} أي: ما مضى {ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} فدل هذا على أن مما مضى من أوامر وكذلك ما نهى عز وجل عنه هو مِنَ الحكمة، ومن أعظم هذه الحكمة هو: التوحيد، ولذلك في أول ما ذكر عز وجل ذكرَ: التوحيد

{مِنَ الْحِكْمَةِ}: ودل هذا على أن من أخذ بشرع الله عز وجل فهو صاحب حكمة وأعظمُ هذه الحكم كما ذكرنا آنفاً هو التوحيد.

{ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ} وهذا يدل على ما قررناه من أنَّ أعظم الحكمة هو التوحيد و لذلك نهى عنه مرةً أخرى { وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا } في الآية السابقة { فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} هنا { فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ} كما قال تعالى { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } ( الطور:13( يعني: يدفعون إلى نار جهنم دفعا.

{ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا} أي تُلام على فعلك و صنيعك {مدحورا} أي مُقصىً مُبعداً عن رحمة الله عز وجل.

 

﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا ۚ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا﴾ (40(

{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ} هذا إنكارٌ منه عز وجل لهؤلاء الذين جعلوا الملائكة بنات لله عز وجل { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا } فيقول أين عقولكم!؟ فإنكم تفرقون بين البنين و البنات، و ترون أن البنين هم أفضل من البنات.

فقال { أَفَأَصْفَاكُمْ } أي خصَّكم بالبنين و جعل لنفسه ما هو الدون مما تنظرون إليه فيما يتعلق بالبنات { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ } مع أنه عز وجل ليس له ولد ولذا قال عز وجل { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ } (البقرة: 116) وقال عز وجل {سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ( النساء : 171) الآيات في مثلِ هذا كثيرة.

ولذا قال عز وجل هنا: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا ۚ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا﴾  {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ} يعني: هذا القول من أن الملائكة بنات الله {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} وهو قول عظيم يدل على ماذا؟ يدل على أنكم لم تعظموا الله عز وجل الذي هو عز وجل {الصَّمَدُ} الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (َ3) لَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.

 

﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ (41(

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ} صرف الله عز وجل في هذا القرآن الآيات من الوعد والوعيد ومن الترغيب ومن الترهيب ومن الأحكام وما شابه ذلك { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ } من أجل ماذا؟ { لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا } بمعنى أن تلك الآيات إذا نزلت عليهم من الله عز وجل ما تزيدهم إلا نفورا، أي إلا بعدًا عن الحق وذلك لآن قلوبهم مستكبرة منكرةٌ لشرع الله عز وجل.

 

﴿قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا﴾ (42(

قل يا محمد لو كان معه عز وجل {آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا} أي لطلبوا { إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ} أي إلى صاحب العرش فهو مالك العرش عز وجل وخالقُه.

ولذا بين هنا من أنه عز وجل خالق العرش، وهذا يدل على أن من خلق العرش الذي هو عظيم يدل على عظمته عز وجل فكيف يجعلون معه هذه الآلهة.

{ إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } أي: طريقاً، ولذلك اختلف العلماء هنا في معنى هذه الآية/ فقال بعضُ العلماء: { إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } بمعنى: أنهم سينازعون اللهَ عز وجل كما ينازع الشريكُ شريكَه، ولذا قال عز وجل: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } (الأنبياء: 22 ( وقال الله عز وجل كما في أواخر سورة المؤمنون: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ}

 ومن ثَم فأن انتظام هذا الكون يدل على أنه هو الإله الواحد الحق سبحانه وتعالى، فلو كان معه شريك لنازعه ولاختلَّ نظام هذا العالَم فدل هذا على أنه هو الواحد ﷻ.

وقال بعضُ العلماء: {إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} بمعنى أنهم يطلبون التقرب إلى الله عز وجل، من أنهم يريدون الزُلْفَ والتقرب إلى الله عز وجل لأنهم محتاجون إليه عز وجل

 وقد اختار بعضُ المفسرين هذا القول، وبعضُهم اختار القولَ الآخر وعلى كل حال يدل على عظمةِ الله عز وجل .

﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ (43(

ثم قال بعد ذلك {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ} سبحانه: تنزه عما يقوله هؤلاء، وتنزه عز وجل

عما لا يليق به {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ} فله العلو، علو الذات وعلو الصفة وعلو القهر {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} فله العلو الكبير عز وجل.

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(44(

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} دل هذا على أن السموات السبع والأرض ومن فيهن تسبح له عز وجل.

وهذا التسبيح هل المقصود من ذلك من أنها تسبح حقيقةً؟ بمعنى أن لها تسبيحًا لكن لا يدرك ذلك إلا الله عز وجل ونحن لا ندرك ذلك؟؟ قال هذا بعضُ أهل العلم.

وقال بعض العلماء: إنما التسبيح منها من أن وُجُودَها إذا تَمَعَّنَ فيها الإنسان علم أن لها خالقاً وأن لها إلها، فوجودها دلائل على وجود الله عز وجل وعلى تفرده بالربوبية.

والقول الأول هو الصحيح/ أنها تسبح لله عز وجل تسبيحا حقيقيًا لكننا لا ندرك ذلك ولذلك قال بعدها { وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } وأيضًا قوله عز وجل: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ} ( الحج: 18 ).

وأيضًا ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الطعام كان يسبح في عهد النبي ﷺ؛ وكذلك الحصى سبح في يده ﷺ، وفي يدِ أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما.

فدل هذا على أن لها تسبيحا حقيقيا لكننا لا نُدرِكُ ذلك، فقال عز وجل: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} {وَإِن}: يعني (ما) ما من شيء إلا يسبح بحمده، فكل شيءٍ من جماد ونحو ذلك إلا وهو يسبح لله عز وجل.

{ولكن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } لا تفهمون تسبيحهم ولا تدركون ذلك {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} إنه عز وجل كان حليمًا فلا يُعاجل هؤلاء بالعقوبة، فإنه يُنظرهم حتى يتوبوا {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} غفورا: يغفر الذنب فإنه عز وجل لا يعاجلهم بالعقوبة فمن تاب إليه عز وجل بعد هذا الإمهال فإنه عز وجل يغفر له.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا﴾(45(

و إذا قرأتَ يا محمد { الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا } يعني حائلاً، قال بعض العلماء: بمعنى أنه ساتر { حِجَابًا مَّسْتُورًا } بمعنى: أنهم لا يفقهون هذا القرآن ففي قلوبهم أكنة كما قال عز وجل: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (فصلت: 5)

ويُحمل أيضًا على القول الآخر مما قاله بعضُ العلماء/ { جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا } يعني: أنك إذا قرأت القرآن – كما ذكر المفسرون – أنَّ امرأةَ أبي لهب أتت إلى النبي ﷺ ومعه أبو بكر رضي الله عنه، ومعها حجارة تريد أن تضرب بها النبي ﷺ، فقرأ عليه الصلاة والسلام القرآن، فقال أبو بكر: يا رسول الله إنها قادمة، فقال: إنها لن تراني، فدل هذا على أن الله عز وجل عصَمَ النبي ﷺ من أذية هؤلاء.

﴿وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ (46(

{ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} يعني غطاء فلا يفقهون القرآن {أَن يَفْقَهُوهُ} أي لئلا يفقهوه وذلك بسبب صدودهم { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } (الصف: 5)

{وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} يعني ثِقلا وصَمَما، فلا يسمعون الحق ولا يقبلون هذا الحق.

{ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ } بمعنى أنك إذا ذكرت الله عز وجل، وفيه الأمر بتوحيده عز وجل ولم تذكر هذه الآلهة كما يريدون فإنهم يشمئزون من ذلك كما قال عز وجل: { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ ۖ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } ( الحج: 72) وكما قال تعالى {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } ( الزمر: 45 ) فقال عز وجل: { وإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا } يعني انصرفوا {وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } بمعنى أنهم ينفُرون منك و يعطونك أدبارهم و خلفَهم مما يدل على صدودهم عن سماع هذا القرآن.

 

 

 

 

﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا﴾ (47)

{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} يعني لك يا محمد، أي بسبب ما يستمعون إليك نحن نعرف السبب {وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ} يتناجَونَ فيما بينهم، فإنهم ما أرادوا أن يسمعوا القرآن ليعتبروا إنما سمعوه من أجل أن يضربوا لك الأمثال.

{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ} يتناجون فيما بينهم {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} أي ما تتبعون إلا رجلاً مسحورًا، ودل هذا على أنهم يتناجون فيما بينهم فبعضهم قال إنه ساحر، وبعضهم قال إنه شاعر، وبعضهم قال إنه كاهن، مما يدل على هذا الآيةُ التي بعدَها:

﴿ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا(48(

{كيف} تعجب من حال هؤلاء { انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا } بمعنى أنهم ضربوا لك الأمثال من أنك ساحر أو شاعر أو كاهن {فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}  فضلوا عن الحق { فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا }  فلا يستطيعون طريقًا إلى الوصول إلى الحق، وذلك لأنهم لما عموا وصموا أصمهم الله عز وجل وأعماهم و ذلك بعدل منه عز وجل { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } .

 

﴿وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ (49(

{ أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا } العظام معروفة، {وَرُفَاتًا} هو الشيء الفُتات.

{أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} بمعنى أنهم يستبعدون أن يبعثهم الله عز وجل مرة أخرى، وقد مرّ معنا بما يتعلق بقول هؤلاء كما قال عز وجل: { وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ( السجدة : 10 ) {وقال الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } ( سبإ : 7)  دل هذا على أنهم استبعدوا أن يعيدهم الله عز وجل مرة أخرى ﴿وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾

﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا﴾ (50(

قل يا محمد لهؤلاء {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} ﴿أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} ، أيُّ خلقً يكبر ويعظم على أنه عظيم في صدوركم كالسموات أو كالأرض، أو كما قال بعض العلماء كالموت يعني لو أنكم أنتم الموت الذي هو ضد الحياة فلا يقبل الحياة، فالله عز وجل قادر على أي يحييكم وأن يبعثكم.

﴿ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (51(

فسيقولون لو كنا كذلك حجارة أو حديدًا او خلقًا مما يعظم في صدورنا فمن يعيدنا بعد ذلكّ؟ قل لهؤلاء { قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني خلقكم أول مرة، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الروم:27]

وقالوا هذا القَول إنما هو على سبيل الاستهزاء والتهكم

 { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ } سيحركون إليك رؤوسَهم كما يحرك الإنسان رأسه من أجل الاستهزاء والسخرية {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ} أي متى هذا البعث الذي تتوعدنا به يا محمد {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ} من باب الاستبعاد.

{قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا} وعسى من الله عز وجل متحققة وواقعة، وقال هنا {قَرِيبًا} باعتبار ماذا؟ باعتبار أنما وعد الله عز وجل به فإنه واقعٌ لا مَحالة.

﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (52(

{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} يوم يدعوكم يومَ القيامة كما قال تعالى { يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ} يوم يدعوكم {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} الكل يستجيبُ بحمده عز وجل ويحمد الله عز وجل يوم القيامة، حتى الكفار يحمدون الله عز وجل بأنهم ظهرت لهم الحقائق والله عز وجل جازاهم بعدله { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ } في يوم القيامة { إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا } أي ما لبثتم إلا قليلا في الدنيا وفي القبور وتظنون { إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا }.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ (53(

أمر الله عز وجل نبيه محمدا ﷺ أن يأمر المؤمنين بأن يقولوا القول الحسن، وهذا يشمل كل قول حسن { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ} بمعنى: أنهم يقولون القولَ الحسن اللطيف مع بعضهم لبعض، وحتى مع الكفار من باب تأليف هؤلاء.

{إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } بمعنى أن الشيطان يوسوس بينهم ويعظم الأمر بينهم {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} وهو عدوٌ مبين كما قال عز جل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر: 6(

 

﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ (54(

{ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } فالله أعلم بكم بحالكم، بقلوبكم، بأقوالكم بكل ما يتعلق بكم.

{إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} فإن رحمكم عز وجل فهذا بفضلٍ منه ووفقكم للإيمان،

{أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} بعدل منه عز وجل وذلك بأنه لا يوفقكم إلى الايمان.

{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا }  بمعنى أنك يا محمد إنما أنت عليك البلاغ فلست عليهم بوكيل تتولى أمورَهم وتحفظ عليهم أقوالهم وأعمالهم، بل الله عز وجل هو الوكيل عليهم وسيحاسبهم.

 

 

﴿رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ۖ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ (55(

لما ذكر ما يتعلق بعلمه عز وجل بهؤلاء المخلوقين، ذكر هنا ما يتعلق بشمول علمه عز وجل في السماوات والأرض.

{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ} فضل الله عز وجل بعض الأنبياء على بعض، وقد مرّ معنا ذلك في سورة البقرة مفصلًا حول هذا التفضيل { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ }

ثم قال: { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} وقد مر معنا أيضا، وذُكِرَ داود على وجه الاختصاص بسبب: أن اليهود يقولون لم ينزل الله عز وجل كتابا بعد موسى!

 فبين هنا: أنه أنزل الزبور على داود عليه السلام، لأن داود بعد موسى عليه السلام، كما وضحنا ذلك في سورة البقرة في قوله تعالى {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} فقال هنا { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}.

﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا﴾ (56(

قل يا محمد لهؤلاء {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ} من أنهم أولياء وأشباه ونظراء لله {فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ} يعني إذا نزل بكم الضر لا يملكون أن يرفعوه

 {ولا تحويلا} بمعنى أن هذا الضر الذي نزل بكم لا يستطيعون أن يحولوه إلى غيرِكم، فدل ذلك أنهم ضعفاء إنما الذي يملك الضر والنفع هو الله عز وجل.

﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ (57(

أولئك ممن هو في منزلة طيبةٍ حميدة عند الله { أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ } يعني تدعونهم {يَبْتَغُونَ} يعني هؤلاء الفضلاء من الملائكة والأنبياء يدعون الله عز وجل { أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ } يبتغون يعني: يطلبون، فأولئك من الملائكة و الأنبياء وما شابه هؤلاء ممن يُعبد من دون الله عز وجل وهم لا يرضون بعبادتكم لهم من دون الله عز وجل {يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} يتقرب إلى الله عز وجل بكل طريقة توصله إلى الله حتى يكون أقربَ من غيره، فكيف تعبدونهم؟! فإذا كان هؤلاء يتقربون إلى الله ويلجؤون إلى الله عز وجل!؟ فكيف تلجؤون إليهم وتستغيثون بهم!؟

{أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} وكلمة الوسيلة تدل على أنهم أحبوا اللهَ عز وجل، وهذا يدل على أن من أحب الله عز وجل ابتغى وطلب إليه الوسيلة التي يتقربُ بها إلى الله عز وجل ويرضى بها اللهُ عنه.

ولذا لما كان النبي محمد ﷺ أعظمَ الناس محبةً لله وعبادةً لله عز وجل فإنه ينالُ الوسيلةَ يوم القيامة في جناتِ النعيم.

{ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ } يرجون رحمة الله مع أنهم يتقربون إلى الله ومع ذلك هم بين الخوف والرجاء { َ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخَافُونَ عَذَابَهُ} ودل هذا على أنه ذكر المحبة هنا وذكر الرجاء وذكر الخوف وهذه هي أركانُ العبادة فلا عبادة تتم إلا بمحبة الله و بالخوف من الله و برجاء العبد لله عز وجل.

{ ويَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} أي مما يحذر منه العقلاء { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } وهؤلاء مع علو منزلتهم فهم يحذرون من عذاب الله عز وجل، فلماذا لا تحذرون أنتم من عذاب الله عز وجل لما أشركتم مع الله عز وجل أولياء!؟ فقال عز وجل: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }.