( تفسير سورة البقرة ) ــ الجزء الخامس عشر
قوله تعالى
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) …… }
الآيات من 17- 20
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين :
أما بعد /
فقد ذكر عز وجل في نهاية ما ذكره عن صفات المنافقين في هذه السورة المباركة
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) }
من فوائد هذه الآيات الكريمات :
أن المثل في اللغة : هو ” القول السائر في الناس للعلم بالشيء “
هو قول يسير – يعني ينتشر بين الناس للعلم بشيء ” كما يقال : رمية من غير رامٍ “
هذا مثل يضرب لمن عمل عملاً لا يحسنه فأصاب ، فيقال له رمية من غير رامي .
والمثل في القرآن له شأن عظيم “
ولذا ألَّف ابن القيم رحمه الله تأليفاً يخص الأمثال التي في القرآن ، فأبدع وأحسن ، كما هي عادته رحمه الله .
من لم يفهم المثل في القرآن ، فإنه ينقص عنده من العلم بقدر ما جهله من هذا المثل ، ومن علم به وبمقتضاه فإنه يكون عالما .
بعض السلف يقول :
” إذا مر بي المثل في القرآن فلم أفهمه عزيت نفسي “
قيل له : لِمَ ؟
قال : لأني لست بعالم . قالوا : كيف؟
قال : ألم يقل الله عز وجل :
{ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } العنكبوت43
فدل على أني لست بعالم إذا لم أفقه المثل المذكور في القرآن .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله :
” إن ضرب المثل في القرآن يقرب المعقول إلى المحسوس “
يقرب الشيء المعقول الذي يكون في التصور يقربه إلى الشيء المحسوس .
( ومن الفوائد )
أن الله عز وجل ضرب مثلين في هذه الآية لهؤلاء المنافقين : مثل ناري ، ومثل مائي “
المثل الناري :
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا }
المثل المائي :
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ }
يعني كمطر .
لِمَ ضرب المثل بالنار وبالماء ؟
لأن النار فيها إضاءة وإنارة ، والماء فيه الحياة ، وكذلك الشأن في القرآن هو ضياء :
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا }النساء174
وهو حياة ، لأن به حياة القلوب :
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا }الشورى52
فمن فقد لذة وبركة هذا القرآن فقد الحياة ، وفقد النور ، وهذا لو تؤمل في القرآن وجد له ما يشابهه ، الله عز وجل ماذا قال في سورة النور لما ذكر جل وعلا مثل نوره في قلب المؤمن ؟
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ }
مكان كانوا في القدم يضعونه في الجدار يحفرون حفرة ، ويضعونه في الجدار ويضعون فيه السراج ، هذا النور من هذا السراج تجمعه هذه الفُوَّة أو هذا المكان ، فتكون إنارته عظيمة – وسبق في العام الماضي ذكرت تفسير هذه الآية – لكن ذكر المؤمن وماله من النور بعدها ماذا قال عز وجل عن الكفار ؟
قال :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ }
في مكان منبسط
{ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً }
يظن أنه ماء في السفر فيشتاق إليه
{ حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } النور39 .
كذلك هؤلاء يظنون أنهم على خير فإذا قدموا على الله عز وجل وجدوا أن أعمالهم بمثابة السراب ، إذًا / فقدوا حياة القلب ، أين ظلمة القلب ؟
وأين ظلمة الدنيا ؟
بل ظلمة الآخرة ؟
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } النور40
مثل آخر يشابه هذا :
قوله عز وجل : { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً }
هذا الماء مثل للقرآن ، لأن القرآن به حياة القلوب كما أن الماء به حياة الأرض .
{ فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا }
القلوب بمثابة الأودية ، الأودية منها الصغير ، ومنها الكبير ، فكذلك القلوب كل يأخذ حسب ما وفقه الله عز وجل من هذا الخير :
{ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا }
يعني لما تكون هناك غشاوة وظلمة في القلب ، فيأتي هذا النور ، وهو نور القرآن ، أو نور الخير ، إذا بهذا القلب يتغير ، بل إذا به يكب ويمحو ، كل ما في هذا القلب ، وهذا شيء مشاهد بعض الناس ممن هو منصرف عن طاعة الله عز وجل إذا قذف الله عز وجل في قلبه الخير إذا بحاله تتغير تغيراً جذرياً واضحاً .
ثم قال عن المثل الناري : قال عز وجل :
{ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ }
الذهب والمعادن لما توضع على النار يذهب ماذا؟ الغبش والغثاء والصدأ الذي عليها ، فتبقى هذا المعادن من الذهب ونحوها ناصعة جميله لذهاب هذا الشيء الذي عليها ، هذا فيما يخص القرآن ، فيما يخص الأحاديث /
النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال كما في المسند من حديث ابن مسعود رضي الله عنه :
( إذا أصاب أحدَكم همٌّ فليقل : ” اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي )
هذا المثل المائي
( ونور صدري )
هذا المثل الناري .
إذًا / لماذا ضرب عز وجل لهؤلاء المنافقين ، ولأشباههم ممن أعرض عن طاعة الله عز وجل ، لماذا ضرب بالمثل المائي والمثل الناري ؟
لأن المثل المائي به حياة ، وكذلك النار به إضاءة وإشراق ، وهؤلاء بعدوا وابتعدوا عن حياة القلب وعن النور .
( ومن الفوائد)
أن سنة الله عز وجل اقتضت أن من انصرف وأعرض عما ينفعه اشتغل بما يضره “
هذه سنة الله جل وعلا ، من اشتغل عما ينفعه اشتغل بما يضره ، هؤلاء لما اشتغلوا عما ينفعهم من هذا القرآن الذي به حياة ،والذي به النور اشتغلوا بما يزيد من ظلمتهم وشقائهم وهو السعي في ظلمات الكفر والنفاق “
وهذا له أمثال وأشباه ، الله جل وعلا لما ذكر إعراض اليهود عن التوراة:
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }البقرة101
نبذوا كتاب الله ، يسلمون ؟ لا ، لا يمكن ، ما الذي بعدها :
{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ }البقرة 102 .
وهذا له أشباه في عصرنا في هذه السنين ، في هذه السنة بالذات ، الناس اشتغلوا في وسائل التواصل بالمحادثات، بالدردشة ، أكثروا منها فاشتغلوا بها ، فأين هم عن ذكر الله ؟
ألم تقض على الأعمار ؟
لأنها قضت على الأيام وعلى الساعات ، فهذه سنة الله عز وجل ، ولذلك عرف الأعداء كيف يستفيدون من هذه الوسائل فيما يخدمهم دنيا ،وفيما يخدمهم ديناً بإشغال كثير من المسلمين عما ينفعهم ، يعني هم سموا هذه الوسائل ” وسائل التواصل ”
حتى ما يخص اليوتيوب أنا قرأت أن من أنشأه طالب من طلاب الغرب ، كان مع مجموعة له فتفرقوا في المدن ، فأراد أحدهم أن يتواصل مع الآخر ، أن يتواصل مع أصحابه ، فإذا رأى شيئاً أو اخترع شيئاً ، أو فعل شيئاً صوَّره ثم أرسله إليهم ففعل ، وهذا هو منشأه ، منشأه لغرض المصلحة ، لكن للأسف ولاسيما المجتمع السعودي كثير منه اشتغل بهذه الأشياء ، ويفترض أن تكون هذه الأشياء معينة له على طاعة الله ، إحصائيات قبل شهر يقولون : إن أعظم الشعوب ، وأكثر الشعوب دخولا لليوتيوب هو الشعب السعودي .
وهذه من المصائب – على كل حال – هذه واقعة في مجتمعنا ، ولكن على المسلم أن يتقي الله عز وجل في هذا الأمر ، وأن لا تمضي عليه الساعات هدراً دون أن يستفيد ، إلى درجة أني سمعت شخصاً يذكر لي البارحة – لأني أخشى أن مثل هذه الوسائل أن يكون عنوانها ” ما يطلبه المتواصلون ، أو ما يطلبه المستمعون ، أو المتابعون شخص من طلاب العلم يذكر أشياء مفيدة ، فيقول في تغريدة له بالأمس أو قبل أمس يقول :
” إن الناس يحبون الدردشة وسعة الصدر ، وبالتالي فإني سأغير أسلوبي – خطأ – إذًا ما الذي يميزك كطالب علم عن غيرك ؟
يفترض أن تؤثر فيهم ، لا أن تتأثر بهم لأن هؤلاء شباب لا يدركون ، والله من خلال دخولي في وسائل التواصل وأخص مجتمعنا ، لان التواصل معه فيه خير عظيم ولكن للأسف هؤلاء لم يوجهوا التوجيه السليم للاستفادة من هذه الأشياء .
خلاصة القول / أن من اشتغل عما ينفعه ، اشتغل بما يضره .
( ومن الفوائد )
” أن الاسم الموصول يفيد العموم “
قال تعالى هنا :
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ }
لم يقل : ” ذهب الله بنوره “
فالاسم الموصول يفيد العموم ، هذه قاعدة في اللغة تستفيد منها في كلام الله عز وجل ، يعني أي اسم موصول يفيد العموم ، ألم يقل الله عز وجل :
{ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } الزمر33 .
ولذلك جميع الأسماء الموصولة ، لأن من بين الأسماء الموصولة ( ما ) تكون اسم موصول ، تكون اسم شرط ، تكون اسم استفهام ، تكون مصدرية
لكن كيف تعرف أنها موصولية؟
إذا وضعت” الذي ” محلها ، يعني ألم يقل الله عز وجل في الآيات السابقات :
{ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ }البقرة4 .
(ما ) هنا موصولية “
يعني يجب بناء على هذه القاعدة ، يجب أن تؤمن بجميع ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم ، لو كفرت أو أنكرت أو شككت في جزئية واحدة لست بمؤمن .
( ومن الفوائد )
أن الله عز وجل مثَّل حال المنافقين ” لما آمنوا استنارت لهم الدنيا فعصمت دماؤهم وأموالهم بكلمة الإسلام فعاشوا مع الصحابة رضي الله عنهم آمنين مطمئنين ، لكن هذا النور يذهب ويزول إذا توفاهم الله عز وجل فيلاقون الظلمات في قبورهم وفي محشرهم وفي مآلهم إلى الجحيم :
{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا }النساء145
{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا }الحديد13 .
حال هؤلاء المنافقين / كحال جماعة كانت في صحراء مظلمة بظلمة السحاب ، وظلمة السماء ، وظلمة الكون ، فأوقدوا نارا ، فأضاءت هذه النار ما حولهم فأبصروا ، ثم ما لبثوا حتى ذهب ذلك النور ، فما هو حال هؤلاء ؟
حال هؤلاء رجعوا إلى ظلمة السماء ، وظلمة السحاب ، وظلمة الأرض ، والظلمة التي صارت بعد هذا النور ، وهذا أشد .
تصور لو أن إنسانا أوشك على العطش ، بقاؤه على ما هو عليه عذاب له ، لكن أشد من هذا أن تأتي بماء أمامه فتتوق نفسه لشربه ثم إذا بك تُسكب الماء أمامه – هذا أشد – كونه يبقى على ما هو عليه أهون .
إذًا / يجتمع للمنافقين عذابان / ” عذاب جسدي وعذاب نفسي “
فهذا هو حال المنافقين .
( ومن الفوائد )
أن الله سبحانه وتعالى قال : { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ }
لم يقل ” ذهب بنارهم “
إذًا / هذا عذاب أعظم وأشد ، هم أوقدوا نارا ، ما الذي أذهبه الله عز وجل ؟
النور ، لم ؟ لأن النار تشتمل على الحرارة ، وتشتمل على الدخان ، وتشتمل على النور ، فأزال الله عز وجل هذا النور ، وبقي مضار هذه النار ، من الحرارة ومن الدخان .
وهذا يدل على عظم مضاعفة العذاب الذي يناله هؤلاء المنافقون ، وكما ذكر عز وجل :
{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ }النساء145
( ومن الفوائد )
أن الله عز وجل بعد أن أذهب بنورهم جعلهم في ظلمات ، وأي ظلمات ؟
ظلمات لا يرجى معها نور ، لم يقل الله عز وجل :
{ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ }
لا ، وإنما أكد بشيء آخر ، لأن من يكون في الظلمات ربما يبصر ، ربنا يتحسس شيئا ، ولذلك قال
{ لَا يُبْصِرُونَ }
جملة حالية ” حالة كونهم لا يبصرون مع هذه الظلمات ”
وهذا يقرر ويؤكد أن هؤلاء المنافقين لا سبيل إلى رجوعهم إلى الحق ، فهم في ظلمات .
ولم يقل عز وجل ” ظلمة “ وإنما جمعها .
( ومن الفوائد )
أن الله عز وجل قال : { فِي ظُلُمَاتٍ }
وسبق وأن ذكرنا أن (فِي) تدل على الاستغراق في السفل ، إذا أتت في سياق من خالف شرع الله ، أما إذا أتت في سياق من هو مطيع لله تأتي كلمة :
( على )
( ومن الفوائد )
أن هؤلاء عطلوا مصادر تلقي العلم والخير :
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ }البقرة18
{صُمٌّ } عن سماع الحق .
{ بُكْمٌ } عن النطق بالحق .
{ عُمْيٌ } عن إبصار الحق .
ومن كانت هذه حالته فإنه لا سبيل إلى رجوعه إلى الخير ، ولذلك قال عز وجل :
{ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }
فالحذر الحذر من أن يعطل الإنسان هذه المصادر وهذه النعم التي أنعمها الله عز وجل بها على العبد ، الحذر أن يعطلها عن سماع الخير ، لأن بعضا من الناس عندما يوعظ وينصح تجد أنه لا يسمع ويصر على ما هو عليه ، ربما يطمس على قلبه ، ولذا قال ابن القيم رحمه الله كما في كتابه ” الداء والدواء “
قال ” إن الذنوب إذا تتابعت على قلب العبد يوشك أن تنغلق أمامه أبواب التوبة “.
( ومن الفوائد )
الأبكم هل هو الأخرس ؟
قال بعض العلماء : هما سواء ، الأبكم هو الأخرس ، والأخرس هو الأبكم .
ولكن الصحيح / أنهما يختلفان ، هؤلاء وصفوا بالبكم ، لأنه أعظم ، لأن من لا يفهم ولا ينطق هذا هو الأبكم .
أما من فهم ولم ينطق فهو الأخرس “
فالأخرس أهون حالا من حال الأبكم ، ولذا وصفهم الله عز وجل بأنهم { بُكْمٌ } بمعنى أنهم لا ينطقون بالحق ، ولا يعون الحق .
( ومن الفوائد )
أن الله عز وجل ضرب للمنافقين مثلا بالماء قال :
{ أَوْ كَصَيِّبٍ }
يعني إن شئت أن تمثلهم بالنار فلك ذلك ، وإن شئت أن تمثلهم بالماء فكذلك .
ما معنى هذا المثل ؟
أن هؤلاء المنافقين مع القرآن الذي هو حياة القلوب ، وما هم فيه من ظلمات الكفر والنفاق إذا نزل هذا القرآن الذي هو حياة القلوب كانوا في ظلمات الكفر والشك والنفاق ، إذا أتت آيات الوعيد والترهيب في القرآن كانت بمثابة الرعد الذي يخيف الإنسان , إذا أتت الآيات ببيان وإيضاح القرآن كانت بمثابة البرق ، فحال هؤلاء المنافقين مع القرآن الذي هو حياة القلوب كحال شخص كان في الصحراء لا يتظلل بشيء ، وإذا بمطر متدفق ينزل عليه ، مع نزول هذا المطر فيه ظلمة ” ظلمة السماء ، ظلمة السحاب ” وإذا برعد شديد وببرق عظيم ، يكاد أن يخطف البصر ، فحاله أنه يضع أصبعيه في أذنيه خوفا من هذه الصواعق ، كذلك هؤلاء المنافقون لما هم فيه من ظلمات الشك والكفر والنفاق إذا أتت آيات الوعيد والترهيب كانت بمثابة الرعد الذي يقلقهم ويزعجهم ، وإذا أتت آيات البيان والإيضاح لما هم فيه كانت بمثابة البرق الذي يكاد أن يخطف أبصارهم ، ومع هذه كله فإنهم لا يريدون سماع القرآن حتى لا يؤمنوا ، لأن الإيمان عندهم موت .
( ومن الفوائد )
أنه عز وجل قال : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ }
أي كمطر نازل من السماء ، لأن السحاب في العلو ، وكل ما علاك فهو سماء ، وإلا فالمطر لا ينزل من السماء المبنية ، وإنما ينزل من السحاب الذي بين السماء والأرض:
{ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ }البقرة164 .
كما أن كل ما هو تحت يسمى أرضا .
( و من الفوائد )
لو قال قائل : هل في القرآن ظلمات ؟
نقول : هذه الكلمة من الآية تفسرها الآيات الأخرى :
{ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا }الإسراء82
{ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ }الحاقة50
فإنهم إذا نزلت الآيات فكفروا بها زادهم ذلك ظلمات على ظلمات .
( ومن الفوائد )
ما هو الرعد ؟
سمي الرعد بهذا الاسم لأنه ” مخوف “ يخيف العبد ، ولذلك إذا قيل ” فلان يرتعد “ يعني خائف .
والرعد هو ” ملك ” النبي صلى الله عليه وسلم – كما عند الترمذي – لما أتاه نفر من اليهود فسألوه عن الرعد ؟ قال ” ملك موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله )
قال العلماء : إن هذا الصوت الذي يصدر هو صوت الملك ، وهذا اللمعان من البرق سببه أنه يضرب السحاب حينما يسوقه بهذه المخاريق .
إذًا هو اسم ملك من الملائكة .
( ومن الفوائد )
أن الله جل وعلا ذكر الكل محل البعض “
وهذا كثير ، قال تعالى : { يجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم } البقرة19 .
هل الأصابع هي التي توضع في الأذنين أم الأنامل ؟
الأنامل ، فذكر الجزء محل الكل .
وهذا أسلوب من أساليب اللغة العربية ، وله فوائد كثيرة من بينها :
أن مثل هذه الأساليب تجعل المسلم حينما يقرأ كلام الله عز وجل تجعله يتدبر ويتأمل ويقف ولا يسرع في القراءة ، ولذا لو أن الإنسان تمعن كل آية ، بل كل حرف في كلام الله عز وجل وجد خيرا عظيما .
( ومن الفوائد )
” أن هؤلاء المنافقين يعدون الإيمان موتا “
وهذا شأن من صرف الله عز وجل قلبه ، فإنه إذا أعرض عن الهدى وقع في الشر ، إذا اتبع هواه ، قال : عز وجل :
{ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا }فاطر8 فإنهم يعدون الإيمان موتا باعتبار ما شربته نفوسهم كما مر معنا في حديث حذيفة عند مسلم :
( لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا لا ما أشرب من هواه )
{ وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ }
ما النتيجة ؟
{ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ }غافر37
فالحذر الحذر من اتباع الهوى .
( ومن الفوائد )
أنه عز وجل قال :
{ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ }
قال : { مِنَ الصَّوَاعِقِ }
و{ مِنَ } هنا سببية ، لأنه ليس معنى { مِنَ } التبعيض ، كما يتوهمه كثير من الناس ، هي تأتي للتبعيض كما مر معنا في صفات المؤمنين :
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } البقرة3
أي : من بعض ما رزقناهم .
أما هنا ” للسببية “
{يجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ }البقرة19 .
أي بسبب الصواعق .
ومنه حديث :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة )
يعني بسبب الجنابة .
لأن هناك سائلا سألني قال :
قال الله عز وجل عن عباد الرحمن :
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ }الفرقان74 .
هل السؤال والدعاء هو أن يكون لك من بعض ذريتك قرة أعين أم للجميع ؟
الكمال لا يكون إلا للجميع ، ولذلك لو أن جميع أولادك صالحون ، وفيهم من ليس بصالح فإنك تعاني ، إذًا هنا ( من ) بيانية للجنس ، يعني من جنس الذرية .
كما قال عز وجل :
{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ }الإسراء82 .
(مِنَ ) هنا لبيان جنس، فجنس القرآن شفاء ، ولا شك أن الله عز وجل جعل في بعض الآيات من المعاني ومن البركة ما ليس في بعضها ، فهي تتفاوت ، ولذلك أعظم آية هي آية الكرسي ، فلو أن الإنسان قرأ :
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } البقرة 228 .
على مريض بقلب حاضر أفادت ، لو قرأت أي آية ، ألم يقل الله عز وجل في صفات الصحابة رضي الله عنهم في آخر آية من آيات سورة الفتح :
{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }
إلى أن قال :
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }الفتح29 .
هل من بعضهم ؟ لا ، فليتنبه لهذا الأمر .
( ومن الفوائد )
أن الله عز وجل قال : { وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } البقرة19
لم يقل ” والله محيط بهم “
لو كان في غير القرآن لصح هذا التعبير ، لأن الأسلوب يرجع إليهم ، لكن قال :
{ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ }البقرة19
لم ؟
هذا يسميه أهل البلاغة :
[ الإظهار في مقام الإضمار ]
ما الفائدة هنا ؟
أولا : لكي يحكم الله عز وجل على هؤلاء بأنهم كفار
ثانيا : أن هذه الإحاطة منه جل وعلا ليس بهذا الصنف من صنف الكفار فحسب ، لأن أصناف الكفار – كما أسلفنا – ” كفر نفاق ، كفر شك ، كفر إعراض ، كفر عناد ، كفار إباء واستكبار “
إذًا / هو ليس محيطا بهؤلاء فحسب ، بل محيط بجميع الكفار .
ونظير هذه الآية : قوله تعالى :
{ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } البقرة98
لو قال : “ فإن الله عدو له “
في غير القرآن صح ، لكن لما قال :
{ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ }
دل هذا على أن هؤلاء كفار .
ودل على أن الله جل وعلا عدو لكل كافر .
( ومن الفوائد )
بيان إحاطة علم الله بجمي الخلق ، ومنهم هؤلاء الكفار ، فإذا كانوا في إحاطته جل وعلا ، كان ذلك أدعى لهم أن يخشوه جل وعلا .
وما يترتب على هذه الإحاطة إذا لم يؤمنوا ” الهلاك “
ولذلك قال عز وجل عن يعقوب عليه السلام لما أخذ العهد على أبنائه :
{ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ } يوسف66 .
يعني “أن تهلكوا جميعا “
فالله جل وعلا محيط بهؤلاء الكفار ، وهم في قبضته جل وعلا ، وأيضا مبيدهم ومهلكم .
( ومن الفوائد )
أن كلمة : { يَكَادُ }
تدل على شيء سيقع لكنه لم يقع ، ويكون للحاضر ،ولذلك لم يأت ( بأن ) ” يكاد البرق أن ) لا ( يكاد البرق يخطف .
كما قرأنا في هذه الليلة :
{ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ } الأعراف22
لم يقل “ أن ” لأن أن تفيد الاستقبال ، و ” كاد ” تفيد الحال .
( ومن الفوائد )
أن هؤلاء المنافقين إذا أتتهم نعمة ، قالوا ما أجمل هذا الدين ، وإذا حلت بهم نكبة قالوا ما أسوأه .
وهذا معنى قوله تعالى :
{ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا }البقرة20 .
يعني وقفوا .
قال عز وجل :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ }
مثل إنسان واقف على هوة جبل يكاد أن يسقط .
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }الحج11.
قال تعالى :
{ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } النساء72
الحمد لله أني ما حضرت هذه المعركة .
{ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا }النساء73
فدل على أن أعظم الفوز وأكمله وأعلاه عندهم هو ما يتعلق بالدنيا ، فهذا أقصى ما تتماه نفوسهم ، وبئس هذا الأمر من أمنية .
( ومن الفوائد )
إثبات صفة المشيئة لله عز وجل إذ قال :
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ }
ذكرنا فيما مضى نُبَذا من معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات ، ولتعلموا أن صفات الله عز وجل تثبت من ثلاثة طرق :
أولا : ” أن ينص الله عز وجل عليها “
{ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ }
وفي الحديث ( رحمتي سبقت غضبي )
صفة الرحمة وصفة الغضب.
ثانيا : عن طريق الاسم ، فأي اسم من أسماء الله عز وجل فهو يتضمن صفة .
{ الرَّحْمنِ }
إثبات صفة الرحمة .
{ الْغَنِيُّ }
إثبات صفة الغنى ، لأنه لا يمكن أن يكون اسمه
( غنيا ) ولم يتصف بهذه الصفة .
لو قلت فلان عالم ، أكيد أن به صفة العلم ، لم ؟ لأن أسماء الله عز وجل حسنى ، ومن حسنها أنها تتضمن صفة .
قال الله عز وجل في الحديث القدسي :
( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر )
هل ” الدهر من أسماء الله ” ؟
لا ، لأنه جامد ليس له معنى ، ولذلك قال :
( وأنا الدهر أقلب الليل والنهار )
أيمكن أن يكون المُقَلِب مُقَلَبا ؟
ثالثا : عن طريق الفعل “
قال هنا :
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ }
فـ { شَاءَ } فعل .
{وَجَاءَ رَبُّكَ } الفجر22 .
إثبات صفة المجيء .
{خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ }
إثبات صفة الختم لله عز وجل
( ومن الفوائد )
أنه لما جل وعلا لما عطَّل أسماعهم وأبصارهم وأفواههم عما يعود عليهم بالنفع ، وهذا عقاب معنوي – لأن الأسماع والأبصار والألسن موجودة ، هددهم وتوعدهم بأن يسلبهم أسماعهم وأبصارهم الحسية ، كما سلبهم إياها معنويا ، يسلبهم إياها حسيا ، ولذا قال :
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ }.
( ومن الفوائد )
إثبات أن الله عز وجل على كل شيء قدير “
ففيه رد على القدرية الذين يقولون إن الله لا يقدر على أفعالنا ، يقولون من باب العدل لا نقول إن الزنا وقع بإرادة الله أو بمشيئة الله ،فكيف يريده الله ثم يعاقب عليه العبد ؟
وضلوا وأضلوا عن أن مشيئة الله عز وجل نوعان :
” كونية وشريعة “
أراد الله جل وعلا من عباده شرعا ” ألا يقعوا في الذنب “
وإذا وقع الذنب أراد ذلك عز وجل منهم كونا وقدرا .
لأنه لا يمكن أن يقع شيء في الأرض إلا بقدر الله ، فالله جل وعلا خلق العباد وخلق أفعالهم ، والعباد لهم مشيئة ، وأفعالهم من كسبهم .
لو قال إنسان “ أنا لن أصلي، وإذا قدَّر الله عز وجل لي أن أصلي صليت “
وهذه تذاع وتبث في بعض القنوات ، من باب إيقاع خلل في عقيدة المسلمين .
لو أتيت إلى هذا الشخص ولطمته على وجهه لطمة ، وغضب، وقلت له ” هذا قدر الله ” هل يرضى ؟!
فإذا كان لا يرضى بذلك فيما يتعلق بدنياه ، فكيف يرضى بذلك فيما يتعلق بدينه ؟!
( ومن الفوائد )
أن من ضلال القدرية أنهم يقولون ” إن الله على كل شيء قدير إلا أفعالنا “
سبحان الله ، هم يقولون ” إن القرآن مخلوق “ يعني القرآن هو من مخلوق الله عز وجل ، أما أفعالهم ليست من مخلوقه عز وجل ” انظروا إلى التناقض ، ولذلك قال عز وجل : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }
افهم واعلم واعتقد يقينا جازما أنه جل وعلا قال :
{ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } الأنعام13
فلا يمكن أن تقع ذرة ولا يمكن أن يتحرك متحرك ولا أن يسكن ساكن إلا بإرادة الله عز وجل ، فتحريك يدي الآن بمشيئة الله ، لكن لي مشيئة ، لكن مشيئتي تابعة لمشيئة الله عز وجل ، ولذلك لو شاء الله أن يعطلها عطلها ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم :
( لما أكل رجل بشماله ، قال كلْ بيمينك ، قال : لا أستطيع ، قال النبي صلى الله عليه سلم : لا استطعت ، فما رفعها إلى فيه )
لما عصى وتكبر ولم ينصع إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، شاء أن يرفع يده الشمال ليأكل بها ما استطاع ، أصابها الشلل .
والله جل وعلا عطل النار مع أن النار سبب للإحراق ، ألم يعطلها الله عز وجل عن إبراهيم ؟
{ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ }الأنبياء68
وأوقدوا نارا عظيما ، قال تعالى :
{ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ }الأنبياء69
( ومن الفوائد )
أن هذا الأسلوب من أقوى وآكد الأساليب :
{ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } البقرة20
لكن هل تقول ” إن الله على ما يشاء قادر “؟
قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }البقرة20
أبلغ ، ولذلك لم تأت ” الله على ما يشاء قادر ” لم تأت في النصوص الشرعية إلا مقرونة بشيء .
قال تعالى : { وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ }الشورى29 تحديد على شيء معين ، هذا من القرآن .
من السنة / عند مسلم
( آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة و يحبو مرة و تسفعه النار مرة ، فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال : تبارك الذي نجاني منك ، لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين و الآخرين ، فترفع له شجرة فيقول أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها و أشرب من مائها ، فيقول الله عز وجل : يا ابن آدم لعلى إن أعطيتكها سألتني غيرها ؟ فيقول : لا يا رب ، و يعاهده أن لا يسأله غيرها ،
وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه ، فيدنيه منها فيستظل بظلها و يشرب من مائها ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى .
فيقول : أي رب أدنني من هذه لأشرب من مائها و أستظل بظلها لا أسألك غيرها .
فيقول : يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ؟ فيقول : لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها فيعاهده أن لا يسأله غيرها ، و ربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر عليه فيدنيه منها فيستظل بظلها و يشرب من مائها ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين .
فيقول : أي رب ؟ أدنني من هذه لأستظل بظلها و أشرب من مائها لا أسألك غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر عليه فيدينه منها فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة )
وهذا يدل على ماذا ؟
كما قال ابن القيم رحمه الله :
إن نفس ابن آدم إذا رغبت في شيء فتحصلت عليه طمحت إلى ما هو أعلى منه “
بعض الناس يقول ” لو أملك المليون ، ما أطلب شيئا غيره ” وإذا ملكه !
( فيقول : أي رب أدخلنيها فيقول : يا ابن آدم ما يعذرني منك ؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا و مثلها معها ؟ قال ؟ يا رب أتستهزئ منى و أنت رب العالمين ؟
فضحك ابن مسعود فقال ألا تسألوني مم أضحك ؟ فقالوا مم تضحك ؟ قال هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : مما تضحك يا رسول الله قال : ” من ضحك رب العالمين حين قال أتستهزئ مني و أنت رب العالمين ؟
فيقول : إني لا استهزئ منك و لكني على ما أشاء قادر “ )
وهذا موطن الشاهد ، فإذًا الأبلغ أن تقول
{ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } البقرة20
وانظروا قال { كُلِّ } وهي من أبلغ صيغ العموم .
وقال { شَيْءٍ } يعني كل شيء .
هذا فيما يتعلق بهذه الآيات التي تتعلق عن المنافقين ، وإن شاء الله تعالى بعد رمضان في يوم ” السبت والاثنين والثلاثاء والأربعاء بين الأذان والإقامة من صلاة العشاء سنكمل التفسير “
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وأن يثبتا على الحق حتى نلقاه وصلى الله وسلم على نبينا محمد .