تفسير سورة البقرة ــ الدرس الرابع والعشرون
تفسير قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) }
البقرة30/ الجزء الثاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) }
من فوائد هذه الآية :
ذكرنا أن الأرض لا يمكن أن يستقيم لها حال و لا يقر لها قرار إلا بخليفة ، إلا برئيس ، ومرءوس ، وأمير ومأمور
فالولاية في الدين من أوجب الواجبات
فلا يمكن أن تقام حقوق الله وحقوق العباد إلا بالإمارة
وهذه الإمارة تنعقد بأمور
تنعقد للرجل بأمور، لأن المرأة لا يجوز أن تولى
ولذلك :
قال النبي عليه الصلاة والسلام – كما عند البخاري – : (( لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ))
لو قال قائل :
مديرات المدارس هن متوليات أفيصدقُ هذا الحكم عليهن ؟
فالجواب عن هذا :
أن النبي عليه الصلاة والسلام لما علم بأن ابنة كسرى تولت الأمر من بعد أبيها قال : (( لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ))
فالمرأة لا تولى على الرجال ، ولا تولى على رجال ونساء
أما إذا كانت رئيسة أو مسئولة عن مجموعة من النساء فإن هذا لا بأس به لتنظيم أمور هؤلاء النسوة
أما إذا كانت المرأة مسئولة عن الرجال أو عن الرجال والنساء فإن هذا لا يجوز
كيف تتم الولاية ؟
تتم الولاية بأمور أو بطرق
إذا وقع أي طريق من هذه الطرق صار ذلك الرجل واليا :
الطريق الأول :
إذا نصَّ الخليفة السابق على شخص بعينه يتولى من بعده
ودليلها :
أن أبا بكر نص بالخلافة بعد وفاته على عمر
هذا طريق
طريق ثاني :
أن يجعل الخليفة الأول الأمر والولاية في مجموعة ليختار أهل الحل والعقد شخصا من هؤلاء
ودليلها :
أن عمر رضي الله عنه جعل الأمر من بعده في ستة أشخاص ليختار المسلمون ما يشاءون فاختاروا عثمان رضي الله عنه
طريق ثالث :
أن يقوم أهل الحل والعقد بتنصيب شخص
كما فعل الصحابة رضي الله عنهم
فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما توفي اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة والمهاجرون اختلفوا ، فأراد أبو بكر وعمر رضي الله عنهم ألا يحصل شقاق فذهبوا
فقالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير
فقالوا : تعلمون أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : إن هذا الأمر في قريش
لا ينفع ولا يمكن أن تقوم أمة ولا دولة بأميرين
فماذا صنع عمر ؟
أخذ بيدي أبي بكر فبايعه ، فبايعه الصحابة الآخرون
وبالتالي فإنه لو عقد واحد من أهل الحل والعقد لإمام وجب على الجميع أن يوافقوه
لأن عمر رضي الله عنه لما بايع أبا بكر بايعه على أنه رجل واحد لكنه من أهل الحل والعقد فبايعه الجميع
ولذا :
قال العلماء : من امتنع أجبر
يعني :
أهل الحل والعقد إذا عقدوا الإمارة والإمامة لشخص من امتنع يجبر رغم أنفه ولا يجوز له أن يخرج من هذه البيعة
طريق رابع :
أن يستولي بالقوة والقهر
ولذلك من ضمن ما فسر العلماء – مع أن العبد لا يولى إنما يولى الحر أما العبد فهو مملوك لسيده :
ولكن من بين تفسير قوله عيه الصلاة والسلام :
((عليكم السمع والطاعة ولو تأمر عليكم عبد حبشي كان رأسه زبيبة ))
قالوا : هذا من باب المبالغة وإلا فمعلوم أن العبد لا يولى
وبعض العلماء قال : لا
تصور :
لو أن عبدا قام بقوته وقهر الناس واستولى فانصاعت له الأمور حينها يجب على الأمة أن تستجيب له
ولذلك :
مروان بن الحكم ما جرى له ما جرى مع عبد الله بن الزبير
عبد الله بن الزبير في الحجاز انصاعت له الناس
لكن مروان لما بعث الحجاج بن يوسف الثقفي ، وصنع ما صنع وقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه
يقول ابن كثير :
كان ابن الزبير أولى بالخلافة من مروان
لم ؟
لأن الأمر قد انعقد له
لكن لما أتى مروان واستتب له الأمر هنا يجب أن ينصاع له
ومن فوائد هذه الآية الكريمة :
أن كلمة ” إذ / وإذا ” كما سبق ظرفان للزمن
لكن هنا فائدة :
يقول بعض العلماء :
نحن قلنا لكم :
إن إذ للزمن الماضي و” إذا ” للزمن المستقبل
{ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) }
يقول بعض العلماء :
إن ” إذ ” :
إذا أتت في سياق الاستقبال فإنها للماضي
وكلمة ” إذا ” :
إذا أتت وبعدها ماضي فهي للاستقبال
مثال :
قوله عز وجل في : ” إذ ” : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا }
يمكر : فعل مضارع يدل على الحضور والاستقبال
هل المقصود في المستقبل ؟
لا
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ }
لما اجتمعوا وقالوا : لتخرج كل قبيلة فتى ثم يضربون محمدا ضربة رجل واحد فيضيع دمه بين القبائل
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ }
يعني :
يحبسوك أو يأسروك
{ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ }
إذًا :
هنا ” إذ” أتت وأتى بعدها فعل مضارع
إذًا :
ما معنى هذه الآية للمستقبل أم للماضي ؟
للماضي
نأتي إلى إذا :
{ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى }النازعات34
{ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ }عبس33
هل أتت ؟
لم تأت
إذًا:
إذا :
هنا أتى بعدها فعل ماضي ، فدل هذا على أنه سيأتي
يعني :
ستأتي تلك الصاخة وتلك الطامة
ومن الفوائد :
ما الذي أدرى الملائكة أن هذا الخليفة سيفسد في الأرض ؟
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }
هل كان عندهم علم مسبق بأن هذا الخليفة ومن معه سيفسد في الأرض ؟
قال بعض المفسرين :
وهي قصة إسرائيلية ولا تثبت ولكن أريد أن أشير إليها من أجل أنه لا يعتمد عليها
قالوا:
إن الجن كانوا في الأرض قبل آدم فأفسدوا فيها ، فبعث الله إبليس ومعه جند فحارب هؤلاء الجن وطردوهم في الجبال وفي البحار
فبنت الملائكة على ما صدر من الجن في الأرض أن يقع نظير ما وقع من الجن أن يقع من الإنس فقالوا هذا القول
لكن هذا لا دليل عليه
إذًا:
ما الذي أدراهم ؟
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }
الذي أدراهم :
أن الخليفة الذي يكون في الأرض لا يكون خليفة إلا من أجل أن يصلح الأمور إذا فسدت
فوجود الخليفة في الأرض يدل على أن هناك فسادا سيقع
إذ لو لم يكن هناك فساد وإفساد لما كانت هناك حاجة إلى وضع خليفة يقوم على الناس
ففهموا من كلمة خليفة أن هؤلاء سيفسدون في الأرض
ومن الفوائد :
أنهم لما قالوا :
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }
سفك الدماء يكون من شخص واحد ؟
تصور :
لو أن شخصا يعيش في مكان وقيل إن هذا الشخص سفك دما أيصح هذا ؟
وحده ما عنده احد
تصور :
لو أن إنسانا في غرفة وقيل : هذا سفك دما
يصح ؟
ما يصح
إذًا :
سفك الدماء يترتب عليه أن هذا الخليفة ليس آدم وإنما ذريته فكيف يسفك دما وكيف يفسد وهو وحده ؟
فدلَّ :
على أن المقصود من وقع الفساد وسفك الدماء إنما ذلك من ذرية آدم لأن بعضهم يخلف بعضها
ولذلك قال تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ }
فيخلف بعضهم بعضا
ومن الفوائد :
لو قال قائل :
كيف يليق بالملائكة أن يقولوا هذا القول ؟
أيعترضون على الله ؟
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }
وقد مدحهم الله عز وجل بقوله :
{ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ } لا يتقدمون عليه بالقول إلا إذا أذن لهم
فكيف تكلموا هنا ؟
أهو اعتراض ؟
لا
إنما السؤال هنا سؤال استعلام واستغراب : أن يكون هناك خليفة في هذه الأرض فهم سألوا عن الحكمة
يعني :
لم ؟
وهذا يفيدنا بفائدة :
أن السؤال عن الحكمة في أمر شرعي جائز
لو قلت مثلا :
لماذا لحم الإبل ينقض الوضوء ؟
جائز أن تسأل
ولذلك :
سأل النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة في مواطن متعددة عن حكم بعض الأشياء
فلا بأس بذلك :
لكن المشكل :
أن الإنسان يقول : لا أنا لا أفعل ، ولا أمتثل إلا إذا علمت بالحكمة
هذا الغلط
أما السؤال عن الحكمة فقط فلا إشكال في ذلك
أما كون الإنسان يحجم عن الائتمار بأمر ، وعن الانتهاء عن شرع الله عما نهى عنه جل وعلا فإن هذا لا يجوز
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } الأحزاب36
ومن الفوائد :
أليس سفك الدم فسادا في الأرض ؟
بلى
لماذا ذكره مفردا ؟
لو قالوا { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } دخل في ذلك سفك الدم والسرقة والزنا وكل ما حرم الله
لكن لما أفرد سفك الدم لما أفرد بالذكر مع أنه فساد لما أفرد بالذكر مع أنه فساد
أفرد بالذكر بعد سفك الدم :
يدل هذا على جرم من سفك الدماء
ولذلك صح عنه قوله عليه الصلاة والسلام :
(( لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم بغير حق ))
والنصوص في هذا كثيرة
وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على أن الملائكة علموا أن أبغض أو أن من أبغض ما يكون عند الله أن يسفك الدم فكأنهم سألوا :
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }
ومن الفوائد :
أن السفك في اللغة لا يصح أن يطلق إلا على سفك الدم وعلى الكلام
يقال: فلان سفك الكلام يعني : نثره
لكن هذه الكلمة سفك لا يصح في اللغة أن تطلق إلا على الدم وعلى الكلام
لماذا الكلام ؟
لأن وقع الكلام كوقع السيف
الآثار السيئة الناجمة من الكلام كالآثار السيئة الناجمة من القتل
ولذلك :
النبي عليه الصلاة والسلام أمر عند الفتن أن يحبس اللسان
عند الترمذي :
قال عقبة بن عامر : يا رسول الله ما طريق النجاة ؟
لما تقع فتن بين الناس عليك بهذه الوصية حتى تنجو بنفسك
قال : ما طريق النجاة يا رسول الله ؟
قال : أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك ( لا تشارك الناس ) وابك على خطيئتك
لا تبك على خطايا فلان وفلان
لأن بعض الناس لما تأتي الفتن يقول : فلان عمل فلان فعل فلان ترك
فلان
فلان
وجعل يبحث عن عيوب الآخرين
يبكي على خطيئات الناس ولا يبكي على خطيئته
(( أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك ))
ولذلك :
النبي عليه الصلاة والسلام كما في السنن قال – لما ذكر الفتن – التي تقع بين المسلمين وتزهق فيها الأرواح من دون حق قال :
(( ووقع الكلام كوقع السيف ))
قال في الفتن ((وقع الكلام فيها كوقوع السف ))
يعني :
أن من تكلم كأنه فعل بسيفه فقتل .