( تفسير سورة البقرة )
الدرس الثالث
قوله تعالى
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } البقرة2
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول الله عز وجل :
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } البقرة2
يستفاد من هذه الآية عدة فوائد :
أنه جل وعلا قال : { ذَلِكَ الْكِتَابُ }
ولم يقل : ( هذا الكتاب )
وفرق بين : ” هذا و ذلك “
” هذا ” يشار به إلى الشيء الحاضر .
وأما ” ذلك ” فيشار به البعيد الغائب .
فلما لم يقل عز وجل : ( هذا الكتاب )؟
لتعلم أن اسم الإشارة ” هذا ” واسم الإشارة ” ذلك ” ينوب أحدهما عن الآخر ، وهذا موجود في كلام الله عز وجل .
قال عز وجل :
{ وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } الأنعام92
ما الفائدة إذًا ؟
وخذ هذه الفائدة حينما تتلو كتاب الله عز وجل في أي موطن يمر بك .
إذا قال عز وجل : { ذَلِكَ الْكِتَابُ} إشارة إلى البعد ، بمعنى أن هذا الكتاب في منزلة بعيدة لا يناله أي أحد ، ليس كلاما سفسافاً –لا – ولذلك ماذا قال عز وجل ؟
{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ }فصلت41
{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا }المزمل5
{ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ{13} وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ {14} }
فليس لكل أحد أن ينال بركة هذا القرآن إلا إذا خضع لله عز وجل واستفاد منه
ولذا كلما كان المسلم قريبا من كتاب الله عز وجل كلما نال هذه المرتبة ، وكلما بعد بعدت عنه هذه المرتبة ، ولذا خذ في هذا الزمن كثر المفتون ، وكثر فيهم من يقال ” أرى كذا ، أو رأيي كذا ” هذا الكلام لا يعتد به ، لم ؟
لأن دين الله عز وجل ليس خاضعا للآراء ، فما تراه أنت حسن قد لا أراه حسنا ، فالآراء تختلف ، ومن ثم فإن القول الذي يجب أن يقبل ويجب أن يوعظ الناس بقبوله هو القول وهو الرأي المبني على الدليل.
” أرى ” ترى ماذا ؟ ” الوجوب – التحريم ” أين دليلك ؟
لكن الناس في هذا الزمن – وللأسف – لما عجزوا – لأن القرآن عزيز لا يناله أي أحد – لما عجزوا عن فهمه أخذوا بالآراء .
ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه
( إياكم وأهل الرأي ) نرى في الانترنت من الفتاوى والآراء الشيء الكثير ، كلٌ يدلو بدلوه ، لكن يجب أن نحكِّم عقولنا ، فيما لو طُرح أي أمر ، ما دليلك ؟ عندنا كتاب وعندنا سنة ، يجب أن نلتزم بهما .
قال عمر رضي الله عنه :
( إياكم وأهل الرأي ، فإنه لما أعياهم حفظ الأحاديث أخذوا بالرأي فضلوا وأضلوا )
ثم إن القرآن بعيد عن أن يناله أحدٌ بسوء ، لم ؟
لأن الله عز وجل تكفَّل بحفظه ، قال تعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } الحجر9.
فهو بعيد عن أن يُمسَّ بأذى ، ولذا قوله تعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } الحجر9 ، خذها معك كدليل وصاعقة على الملحدين ، لو أتاك ملحد وشكك في الله عز وجل ، أو شكك في القرآن ، أعطه هذه الآية وقلْ له على مر السنين لم يستطع أعداء الدين أن ينالوا هذا القرآن بسوء ، يمزقون أوراقه ، يضعونه في مراحيض الحمامات ، ، لكن هل نزعوه من صدور الناس ؟
ثم مع أنه محفوظ – هو في لوح محفوظ – كما قال عز وجل :
{ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } البروج22
فهذا اللوح أيضا محفوظ .
لما نأتي إلى قوله تعالى :
{وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } الأنعام92
{ وَهَـذَا } اسم إشارة للحاضر ، ماذا يستفاد منه ؟
يستفاد / أن هذا القرآن مع علو منزلته إلا أنه سهل ميسر { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } القمر17 ، ولكن أين باغي الخير ؟
وما قلته من فائدة خذها معك حينما تتلو كلام الله عز وجل في أي وقت ، تمر بك الآية التي في سورة الأنعام أو في أي سورة من السور ، تذكر ما ذكرته هنا .
وبالتالي – كما أسلفت – ما جلس عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ( ثنتي عشرة سنة في حفظ سورة البقرة بفقهها ) إلا أن فقه سورة البقرة يفتح لك أبوابا في معرفة كلام الله عز وجل .
( ومن الفوائد )
أن كلمة : { الْكِتَابُ }
مأخوذة من ” كتب – يكتب – كتابا إذا جُمِع “
يعني هذا القرآن مجموع ؟ أين مجموع ؟
مجموع في ” صدور البشر ” قال تعالى :
{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } العنكبوت49.
مجموع في ” اللوح المحفوظ ، مجموع في المصاحف “
ولذا قاعدة أهل السنة والجماعة : ” أن القرآن هو كلام الله عز وجل الذي تكلم به ابتداء ، ليس بمخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، وهو المكتوب في المصاحف ، المحفوظ في الصدور “
( ومن الفوائد )
” أن الله عز وجل نفى عن هذا القرآن الريب ” { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }
الريب : هو الشك .
ولتعلموا أن أي صفة تنفى عن القرآن يجب عليك أن تثبت كمال ضدها “
إذًا لما كان القرآن { لاَ رَيْبَ فِيهِ }
دل على أنه يجب علينا أن نثبت له اليقين ، ولذلك قال عز وجل بعدها :
{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } لأن الهداية لا تحصل إلا بيقين ، هل يمكن أن تحصل الهداية بالشك ؟ لا يمكن .
( ومن الفوائد )
أن بعض العلماء يقف على قوله تعالى { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ }
ثم يبتدئ { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
هذا الوقف يختلف فيه المعنى فيما لو قلت : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }
ثم قلت : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
وهذا يدل على عظمة القرآن
لو قرأتَ : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ }
دل على أن القرآن لا ريب فيه .
ثم تثبت أن في هذا القرآن هدى للمتقين { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
لكن لما تقرأ : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }
ثم تقرأ : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
بمعنى أنه حالة كونه هدى للمتقين .
وطريقة الوقف والوصل في كلام الله عز وجل ، هذا من معجزات القرآن ،
كيف ؟
أضرب لكم مثلا /
قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ }
ماذا فهمتم ؟
أن لقمان نهى ابنه عن أن يشرك بالله ، ثم قرر فقال :
{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
هذا ما نقرأه ، هناك وقف آخر .
{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ }
ثم استأنف :{ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } لقمان13.
تأكيد الشرك بأنه عظيم بالقسم .
مثال آخر /
قصة سليمان عليه السلام
كان الجن مسخرين له ومستذلين ، وكانت قد نشأت فكرة بأنهم يعلمون الغيب ، فمات سليمان عليه السلام من حيث لا يشعرون وهو في موته كانوا يشتغلون ، ولو كانوا يعلمون الغيب ما استمروا على هذا الذل الذي هو عليهم من سليمان ، قال عز وجل :
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ }
يعني من عصاه { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }سبأ14
هذا ما نقرأه ، لكن هناك وقف آخر .
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ } تبينت ماذا ؟ القصة ، ثم تستأنف فتقول :
{ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }سبأ14
فهذا يدل على عظم هذا القرآن إذ بالوقف والوصل يتغير المعنى .
( ومن الفوائد )
أن القرآن منزل غير مخلوق “
ويستفاد هذا من هذه الآية ، من أين ؟
قوله تعالى : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }
نفى عنه الريب والتهمة ، والمخلوق يعتريه العجز والنقص والريب والشك ، لكن لما قال عز وجل { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }
دل على أنه منزلٌ من لدن حكيم عليم وليس بمخلوق كما ذهبت إلى ذلك الطوائف الضالة مثل ” المعتزلة ” ومن شابههم .
( ومن الفوائد )
أن هذا القرآن : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
ولتعلموا أنه كما أن القرآن يفسر على أنه كلمات ، يفسر أيضا على أنه وحدة موضوعية شاملة للسورة ، لما تتأمل سورة البقرة – على سبيل المثال – قضية الإنفاق ، وقضية الإيمان ، لما تقرأ السورة كاملة تجد أن في السورة نوعية المال الذي يُنفق أهو قليل أم كثير ؟ تجد أصناف من يُنفق عليهم ، تجد بيان النفقة على الكفار غير المحاربين ، تجد النفقة من حيث إخفاؤها .
مثال آخر / ” الإيمان ”
ذكر في أول السورة ، وذكر في أوساط السورة :
{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ }البقرة177.
وفي آخر السورة : { آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ }البقرة285 .
قال هنا: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
في أوساط السورة : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ } البقرة185.
كيف ؟
نقول / هو من حيث الأصل هدى لجميع الخلق ، لكن من لم يرفع بذلك رأساً لم ينتفع به ، فلما كان المنتفع به هم المتقون ، قال عز وجل هنا :
{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } البقرة2.
( ومن الفوائد )
أنه عز وجل قال : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } البقرة2.
هل قال : هدى لهم من الشر ؟ من الفقر ؟ من المصلحة الفلانية ؟
خذها قاعدة ، ولا تشغل بالك بكثرة الأقوال مما قد تقرأه في التفاسير ، هي أقوال في ذاتها صواب وحق – كما قال شيخ الإسلام رحمه الله – قال ” إنَّ مُعظمَ اختلافِ المُفَسرين اختلافُ تَنوع ”
يعني أن الآية تحتمل كل ما ذكروه ، الشاهد من هذا – أنه لما تأتك كلمة في كلام الله عز وجل خذها بعمومها .
مثال / قال عز وجل :
{ فإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }البقرة196 .
يعني أحصرتم عن إتمام الحج أو العمرة .
هل قال ” أحصرتم بعدو ؟
هل قال ” أحصرتم بضياع نفقة ؟
هل قال ” أحصرتم بضياع أولاد ؟
هل قال ” أحصرتم بمرض ؟
لم يقال شيئا ، إذًا نأخذ بالعموم ، فمتى حصل أي نوع من أنواع الإحصار يؤخذ به.
إذًا / هو : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
في كل شأن من شؤونهم ، ولكن من هو الموفَّق الذي ينال مرتبة التقى ؟
( ومن الفوائد )
بيان ثمرة من ثمرات التقى ، لما تريد أن تتحدث عن التقوى ، بإمكانك أن تذكر مئات الآيات في ثمرات التقوى ، من بين هذه الثمرات ما ذُكر هنا .
” أن المتقي ينال هداية القرآن “
( ومن الفوائد )
أن ” التقوى ” في أصلها في لغة العرب ” قلة الكلام “ وهذا شيء غريب .
هل هناك ارتباط بين هذا المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي ؟
ما معنى التقوى في الشرع ؟
هو ” اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه “
معاذ رضي الله عنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم ( ما ملاك ذلك ؟ قال أمسك عليك لسانك )
دلَّ هذا على أن الإنسان إذا أراد البوابة السريعة لتقوى الله عز وجل فعليه أن يمسك لسانه “
ولذلك كان أبو بكر رضي الله عنه يقول وهو ماسك للسانه ( هذا الذي أوردني الموارد )
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ذات يوم لأبي بن كعب رضي الله عنه وهو من القرَّاء ، قال : ما هي التقوى ؟
قال يا أمير المؤمنين : أريت إذا مررت بأرض ذات شوك ماذا تصنع ؟
فقال عمر رضي الله عنه : أسرع وأحذر ، قال أُبي رضي الله عنه : هذه التقوى )
وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على أننا في هذه الدنيا في أرض ذات شوك ، نسأل الله عز وجل أن ينجينا ، ولاسيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم قال ( فتن كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا )
وهذا قد شوهد – نسأل الله السلامة والعافية – ولا أحد يزكي نفسه ، ولا أحد يأمن على نفسه من الفتن ، تصور لو أنك تسير في أرض وكان الظلام شديدا ، وأنت لا تدري ، ربما تقع في هذه الحفرة ، ربما تصطدم بجدار ، وهكذا حال الفتن إذا حلَّت بالناس .