تفسير سورة البقرة الدرس ( 3 ) [ ذلك الكتاب لا ريب فيه … ( 2 ) ]

تفسير سورة البقرة الدرس ( 3 ) [ ذلك الكتاب لا ريب فيه … ( 2 ) ]

مشاهدات: 472

( تفسير سورة البقرة )

 الدرس الثالث

قوله تعالى

{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } البقرة2

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قول الله عز وجل :

{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } البقرة2

يستفاد من هذه الآية عدة فوائد :

أنه جل وعلا قال : { ذَلِكَ الْكِتَابُ }

ولم يقل : ( هذا الكتاب )

وفرق بين : ” هذا و ذلك “

” هذا ” يشار به إلى الشيء الحاضر  .

وأما ” ذلك ” فيشار به البعيد الغائب .

فلما لم يقل عز وجل :  ( هذا الكتاب )؟

لتعلم أن اسم الإشارة ” هذا ” واسم الإشارة ” ذلك ” ينوب أحدهما عن الآخر ، وهذا موجود في كلام الله عز وجل .

قال عز وجل :

{ وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } الأنعام92

ما الفائدة إذًا ؟

وخذ هذه الفائدة حينما تتلو كتاب الله عز وجل في أي موطن يمر بك .

إذا قال عز وجل :  { ذَلِكَ الْكِتَابُ} إشارة إلى البعد ، بمعنى أن هذا الكتاب في منزلة بعيدة لا يناله أي أحد ، ليس كلاما سفسافاً –لا – ولذلك ماذا قال عز وجل ؟

{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ }فصلت41

{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا }المزمل5

{ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ{13} وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ {14} }

فليس لكل أحد أن ينال بركة هذا القرآن إلا إذا خضع لله عز وجل واستفاد منه

ولذا كلما كان المسلم قريبا من كتاب الله عز وجل كلما نال هذه المرتبة ، وكلما بعد بعدت عنه هذه المرتبة ، ولذا خذ في هذا الزمن كثر المفتون ، وكثر فيهم من يقال ” أرى كذا ، أو رأيي كذا ” هذا الكلام لا يعتد به ، لم ؟

لأن دين الله عز وجل ليس خاضعا للآراء ، فما تراه أنت حسن قد لا أراه حسنا ، فالآراء تختلف ، ومن ثم فإن القول الذي يجب أن يقبل ويجب أن يوعظ الناس بقبوله هو القول وهو الرأي المبني على الدليل.

” أرى ” ترى ماذا ؟ ” الوجوب – التحريم ” أين دليلك ؟

لكن الناس في هذا الزمن – وللأسف – لما عجزوا – لأن القرآن عزيز لا يناله أي أحد – لما عجزوا عن فهمه أخذوا بالآراء .

ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه

( إياكم وأهل الرأي  ) نرى في الانترنت من الفتاوى والآراء الشيء الكثير ، كلٌ يدلو بدلوه ، لكن يجب أن نحكِّم عقولنا ، فيما لو طُرح أي أمر ، ما دليلك ؟ عندنا كتاب وعندنا سنة ، يجب أن نلتزم بهما .

قال عمر رضي الله عنه :

( إياكم وأهل الرأي ، فإنه لما أعياهم حفظ الأحاديث أخذوا بالرأي فضلوا وأضلوا )

ثم إن القرآن بعيد عن أن يناله أحدٌ بسوء ، لم ؟

لأن الله عز وجل تكفَّل بحفظه ، قال تعالى :

{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } الحجر9.

فهو بعيد عن أن يُمسَّ بأذى ، ولذا قوله تعالى :

{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } الحجر9 ، خذها معك كدليل وصاعقة على الملحدين ، لو أتاك ملحد وشكك في الله عز وجل ، أو شكك في القرآن ، أعطه هذه الآية وقلْ له على مر السنين لم يستطع أعداء الدين أن ينالوا هذا القرآن بسوء ، يمزقون أوراقه ، يضعونه في مراحيض الحمامات ، ، لكن هل نزعوه من صدور الناس ؟

ثم مع أنه محفوظ – هو في لوح محفوظ – كما قال عز وجل :

{ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } البروج22

فهذا اللوح أيضا محفوظ .

لما نأتي إلى قوله تعالى :

{وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } الأنعام92

{ وَهَـذَا } اسم إشارة للحاضر ، ماذا يستفاد منه ؟

 يستفاد / أن هذا القرآن مع علو منزلته إلا أنه سهل ميسر  { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } القمر17 ، ولكن أين باغي الخير ؟

وما قلته من فائدة خذها معك حينما تتلو كلام الله عز وجل في أي وقت ، تمر بك الآية التي في سورة الأنعام أو في أي سورة من السور ، تذكر ما ذكرته هنا .

وبالتالي – كما أسلفت – ما جلس عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ( ثنتي عشرة سنة في حفظ سورة البقرة بفقهها ) إلا أن فقه سورة البقرة يفتح لك أبوابا في معرفة كلام الله عز وجل .

 

( ومن الفوائد )

أن كلمة : { الْكِتَابُ } 

مأخوذة من ” كتب – يكتب – كتابا إذا جُمِع “

يعني هذا القرآن مجموع ؟ أين مجموع ؟

مجموع في ” صدور البشر ” قال تعالى :

{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } العنكبوت49.

مجموع في ” اللوح المحفوظ ، مجموع في المصاحف “

ولذا قاعدة أهل السنة والجماعة : ” أن القرآن هو كلام الله عز وجل الذي تكلم به ابتداء ، ليس بمخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، وهو المكتوب في المصاحف ، المحفوظ في الصدور

( ومن الفوائد )

” أن الله عز وجل نفى عن هذا القرآن الريب ” { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }

الريب : هو الشك .

ولتعلموا أن أي صفة تنفى عن القرآن يجب عليك أن تثبت كمال ضدها “

إذًا لما كان القرآن { لاَ رَيْبَ فِيهِ }

دل على أنه يجب علينا أن نثبت له اليقين ، ولذلك قال عز وجل بعدها :

{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } لأن الهداية لا تحصل إلا بيقين ، هل يمكن أن تحصل الهداية بالشك ؟ لا يمكن .

 

( ومن الفوائد )

أن بعض العلماء يقف على قوله تعالى { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ }

ثم يبتدئ { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }

هذا الوقف يختلف فيه المعنى فيما لو قلت : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }

ثم قلت : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }

وهذا يدل على عظمة القرآن

لو قرأتَ : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ }

دل على أن القرآن لا ريب فيه .

ثم تثبت أن في هذا القرآن هدى للمتقين { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }

لكن لما تقرأ : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }

ثم تقرأ : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }

بمعنى أنه حالة كونه هدى للمتقين .

وطريقة الوقف والوصل في كلام الله عز وجل ، هذا من معجزات القرآن ،

كيف ؟

أضرب لكم مثلا /

قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ }

ماذا فهمتم ؟

أن لقمان نهى ابنه عن أن يشرك بالله ، ثم قرر فقال :

{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }

هذا ما نقرأه ، هناك وقف آخر .

{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ }

ثم استأنف :{ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } لقمان13.

تأكيد الشرك بأنه عظيم بالقسم .

مثال آخر /

قصة سليمان عليه السلام

كان الجن مسخرين له ومستذلين ، وكانت قد نشأت فكرة بأنهم يعلمون الغيب ، فمات سليمان عليه السلام من حيث لا يشعرون وهو في موته كانوا يشتغلون ، ولو كانوا يعلمون الغيب ما استمروا على هذا الذل الذي هو عليهم من سليمان ، قال عز وجل :

{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ }

يعني من عصاه { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }سبأ14

هذا ما نقرأه ، لكن هناك وقف آخر .

{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ } تبينت ماذا ؟ القصة ، ثم تستأنف فتقول :

{ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }سبأ14

فهذا يدل على عظم هذا القرآن إذ بالوقف والوصل يتغير المعنى .

 

( ومن الفوائد )

أن القرآن منزل غير مخلوق “

ويستفاد هذا من هذه الآية ، من أين ؟

قوله تعالى : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }

نفى عنه الريب والتهمة ، والمخلوق يعتريه العجز والنقص والريب والشك ، لكن لما قال عز وجل { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }

دل على أنه منزلٌ من لدن حكيم عليم وليس بمخلوق كما ذهبت إلى ذلك الطوائف الضالة مثل ” المعتزلة ” ومن شابههم .

 

( ومن الفوائد )

أن هذا القرآن : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }

ولتعلموا أنه كما أن القرآن يفسر على أنه كلمات ، يفسر أيضا على أنه وحدة موضوعية شاملة للسورة ، لما تتأمل سورة البقرة – على سبيل المثال –  قضية الإنفاق ، وقضية الإيمان ، لما تقرأ السورة كاملة تجد أن في السورة نوعية المال الذي يُنفق أهو قليل أم كثير ؟ تجد أصناف من يُنفق عليهم ، تجد بيان النفقة على الكفار غير المحاربين ، تجد النفقة من حيث إخفاؤها .

مثال آخر / ” الإيمان ”

ذكر في أول السورة ، وذكر في أوساط السورة  :

{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ }البقرة177.

وفي آخر السورة : { آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ }البقرة285 .

قال هنا: {  هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }

في أوساط السورة : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ } البقرة185.

كيف ؟

نقول / هو من حيث الأصل هدى لجميع الخلق ، لكن من لم يرفع بذلك رأساً لم ينتفع به ، فلما كان المنتفع به هم المتقون ، قال عز وجل هنا :

{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } البقرة2.

 

( ومن الفوائد )

أنه عز وجل قال : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } البقرة2.

هل قال : هدى لهم من الشر ؟ من الفقر ؟ من المصلحة الفلانية ؟

خذها قاعدة ، ولا تشغل بالك بكثرة الأقوال مما قد تقرأه في التفاسير ، هي أقوال في ذاتها صواب وحق – كما قال شيخ الإسلام رحمه الله  – قال ” إنَّ مُعظمَ اختلافِ المُفَسرين اختلافُ تَنوع ”

يعني أن الآية تحتمل كل ما ذكروه ، الشاهد من هذا – أنه لما تأتك كلمة في كلام الله عز وجل خذها بعمومها .

مثال / قال عز وجل :  

{ فإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }البقرة196 .

يعني أحصرتم عن إتمام الحج أو العمرة .

هل قال ” أحصرتم بعدو ؟

هل قال ” أحصرتم بضياع نفقة ؟

هل قال ” أحصرتم بضياع أولاد ؟

هل قال ” أحصرتم بمرض ؟

لم يقال شيئا ، إذًا نأخذ بالعموم ، فمتى حصل أي نوع من أنواع الإحصار  يؤخذ به.

إذًا / هو : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }

في كل شأن من شؤونهم ، ولكن من هو الموفَّق الذي ينال مرتبة التقى ؟

 

( ومن الفوائد )

بيان ثمرة من ثمرات التقى ، لما تريد أن تتحدث عن التقوى ، بإمكانك أن تذكر مئات الآيات في ثمرات التقوى ، من بين هذه الثمرات ما ذُكر هنا .

” أن المتقي ينال هداية القرآن “

 

( ومن الفوائد )

أن ” التقوى ” في أصلها في لغة العرب ” قلة الكلام “ وهذا شيء غريب .

هل هناك ارتباط بين هذا المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي ؟

ما معنى التقوى في الشرع ؟

هو ” اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه “

معاذ رضي الله عنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم ( ما ملاك ذلك ؟ قال أمسك عليك لسانك )

دلَّ هذا على أن الإنسان إذا أراد البوابة السريعة لتقوى الله عز وجل فعليه أن يمسك لسانه “

ولذلك كان أبو بكر رضي الله عنه يقول وهو ماسك للسانه ( هذا الذي أوردني الموارد )

عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ذات يوم لأبي بن كعب رضي الله عنه وهو من القرَّاء ، قال : ما هي التقوى ؟

قال يا أمير المؤمنين : أريت إذا مررت بأرض ذات شوك ماذا تصنع ؟

فقال عمر رضي الله عنه : أسرع وأحذر ، قال أُبي رضي الله عنه : هذه التقوى )

وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أننا في هذه الدنيا في أرض ذات شوك ، نسأل الله عز وجل أن ينجينا ، ولاسيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم قال ( فتن كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا )

وهذا قد شوهد – نسأل الله السلامة والعافية – ولا أحد يزكي نفسه ، ولا أحد يأمن على نفسه من الفتن ، تصور لو أنك تسير في أرض وكان الظلام شديدا ، وأنت لا تدري ، ربما تقع في هذه الحفرة ، ربما تصطدم بجدار ، وهكذا حال الفتن إذا حلَّت بالناس .