( تفسير سورة البقرة ) / الدرس الخامس
قوله تعالى
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} }
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين :
أما بعد /
نفسر بإذن الله تعالى في هذه الليلة قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }
( من الفوائد )
أن قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ }
هي في حق كل مؤمن ، سواء كان من مؤمني العرب أو من مؤمني أهل الكتاب
خلافا لمن قال : إن هذه الآية يعنى بها مؤمنو أهل الكتاب .
والصواب / أن هذا عام ، لم ؟
لأنه لا يمكن أن يتحقق الإيمان بالغيب ولا يمكن أن تتحقق إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلا إذا آمن الإنسان بما أنزل الله عز وجل من الكتب .
( من الفوائد )
وجوب الإيمان بالكتب المنزلة على الأمم السابقة ، ما ذكر لنا في القرآن وما لم يذكر
ومما ذكر لنا في القرآن : ” التوراة – الإنجيل – الزبور – صحف إبراهيم “
وما خفي علينا يجب أن نؤمن به على وجه العموم .
( من الفوائد )
أن الإيمان بالكتب السابقة إيمان بوجودها ، وبصدقها ، وبهدايتها لأهلها في ذلك الزمن ، ولا يعني ذلك أننا نعمل بها إلا ما جاء في شرعنا مما يوافق ذلك ، أو سكت شرعنا عنه مما جاء عن الأمم السالفة ، وإلا فهذا القرآن نسخ الكتب السالفة .
لو قال قائل : الله جل وعلا ذكر أن التوراة والإنجيل هدى قال تعالى :
{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ }
قد يأتي نصراني أو يهودي ويقول: إن قرآنكم يقر ويعترف ويبين أن التوراة والإنجيل هدى ، فلماذا تقولون بالتفرقة ؟
من المعلوم من حيث العقيدة الصحيحة أنه يجب أن تكفر بجميع الأديان .
لو قال قائل : أنا مؤمن بهذا الدين الإسلامي ، ولكن لا أقول إن النصارى على حق ولا على باطل ، لا أقول إن اليهود لا على حق ولا على باطل – يكفر – لم ؟
لقوله تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } آل عمران85 .
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما عند مسلم :
( من قال ” لا إله إلا الله ” ) فقط ؟ لا ( وكفر بما يعبد من دون الله ، حرم دمه وماله وحسابه على الله )
إذًا لو أتاك آتٍ من النصارى أو من اليهود – وقد أتاني شخص وقال لي القرآن ذكر أن التوراة والإنجيل هدى ؟
فيقال : هي هدى باعتبار ما سبق في زمنها ، لكن لما أتى هذا القرآن نسخها ، قال عز وجل في سورة المائدة { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ }المائدة48 .
ولذلك يصف الله عز وجل ممن هم على الملل السابقة بأنهم مسلمون ، قال تعالى :
{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }البقرة132.
{ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }البقرة133 .
ما هو هذا الإسلام ؟
يقول شيخ الإسلام رحمه الله :
” الإسلام نوعان : إسلام عام ، وهو ما كانت عليه الأمم السابقة .
وإسلام خاص ، وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا الإسلام الخاص نسخ وأبطل الإسلام العام ، بقوله تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }آل عمران85 .
( ومن الفوائد )
أنه عز وجل قال :
{ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ }
{ ما } هنا بمعنى ” الذي ”
يعني : يؤمنون بالذي ، و ” ما “ الموصولية في اللغة العربية تفيد العموم ، بمعنى أنه يجب أن تؤمن بكل ما جاء في هذا القرآن ، لو أنكر الإنسان حرفا واحدا من القرآن فقد كفر .
( ومن الفوائد )
أن الإيمان بهذه الكتب يتضمن الإيمان بالرسل .
لو قال قائل / هل هناك فرق بين الرسول وبين النبي ؟
الجواب / هناك فرق / الرسول ” من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه “
وأما النبي : ” من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه ” وهذ أصح ما قيل فيه .
لو قال قائل : ما فائدة أن يكون الإنسان نبياً ويوحى إليه بشرع ولا يؤمر بتبليغه ؟
فنقول / هذه منقبة من الله عز وجل يمن بها على عبده إذ جعله في مقام الأنبياء .
وقد جاء حديث لا بأس به ( أن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي )
فالأنبياء أكثر من الرسل ، فالرسل :( ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا )
كم عدد الرسل الموجودين في القرآن ؟
( خمسة وعشرون رسولا )
هل هم أنبياء كلهم ، هل هم رسل كلهم ؟
هم رسل كلهم، فجميع من ذكر في القرآن أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه .
ما الدليل ؟
قوله عز وجل :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } غافر78
فوصفهم في القرآن بأنهم رسل .
( ومن الفوائد )
أن هؤلاء الموصوفين وصفوا بأنهم أيقنوا بالآخرة .
ما هو اليقين ؟
اليقين : ” هو العلم التام الذي لا شك فيه الموجب للعمل “
واليقين إحدى الدرجتين للوصول إلى الإمامة في الدين ، فمن أراد أن يكون إماما في الدين ، بل من أراد أن تكون له قدم راسخة في تثبيت حكمه ، كأن يكون ملكا أو زعيما أو قائدا ، فعليه بهاتين المرتبتين ، ولاسيما مرتبة اليقين ، ما المرتبة الثانية ؟
” الصبر “ قال شيخ الإسلام رحمه الله : ” إن الإمامة في الدين تنال بهاتين المرتبتين ” الصبر واليقين ” ما الدليل ؟
في أواخر سورة السجدة :
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ } السجدة24 .
كيف يثبت حكم الحاكم باليقين ؟
قال عز وجل في سورة المائدة :
{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } المائدة50 .
دلَّ على أن اليقين سبيلٌ لإمامة الإنسان في الدين ، ولا شك أن الحكم والسياسة سبيل إلى الإمامة في الدين ، والأدلة واضحة ” عمر – أبو بكر – عثمان ” رضي الله عنهم ، هم خلفاء ومع ذلك أئمة من أئمة الدين .
( ومن الفوائد )
أن الإنسان هو موقن بالآخرة ، لو سئلنا كلنا ؟
نحن نعلم بالآخرة .
ولكن هذا لا يفيد وحده ، لم ؟
لابد من الصبر ، لو سألت أي عاصٍ هل أنت مؤمن بالآخرة ؟ سيقول ” أنا مؤمن بالآخرة”
لكن أين صبرك وثباتك على هذا اليقين ؟
ولاسيما في هذا الزمن ، فاليقين من وصل إليه وصل إلى مرتبة عالية ، في هذا الزمن قد يرى صاحب الدين أو صاحب العبادة يرى ذلك الرجل عنده الأموال ، يرى ذلك الرجل نال من المناصب ما نال ، فهنا أين يقينه بأن ما هو فيه وأن ما هو عليه هو خير له ، فيحتاج إلى مصابرة ، لأن النفس ضعيفة ، والإنسان ابن بيئته ، يتأثر ، وهذا شيء مشاهد ، فالناس في هذا الزمن يحبون ” الإطراء والمدح “ قنوات شعرية كلها ملأى بالمديح ، لكن فيما سبق من يتمعن قبل عشر سنوات أو قبل عشرين سنة ، لما يقال للشخص ” يا شيخ “ يقول له ” اتق الله “ لا تقطع عنقي ، الآن إن لم تقل له ” شيخ ، واللقب الفلاني ” لغضب عليك .
إذًا / القضية تحتاج إلى محاسبة ومجاهدة .
قد يكون الإنسان في حالة فقر ، لكنه مع الله عز وجل على خير ، لكن أين المصابرة ؟ أين اليقين ؟
في الصحيح :
( لما جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم واطلع في بيته وجد حصيرا قد أثَّر في جنبه صلى الله عليه وسلم ، ورأى قربة ، فبكى عمر ، وقال يا رسول الله كسرى وقيصر فيما هم فيه من النعيم وأنت رسول الله ؟! )
فماذا قال عليه الصلاة والسلام ؟
( قال : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة )
( ومن الفوائد )
أن الكفار عندهم يقين ، لكنه يقين غير نافع ، إذا انجلت الأمور أيقنوا ، فلا ينفعهم ، اليقين متى يكون ؟ في حال خفاء الأمر ، ولاسيما في الفتن ، وفي زمن بعد الناس عن الدين ، تكون العبادة لها شأن، النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
( عبادة في الهرج ) يعني في الفتن ( كهجرة إلي )
يعني لما تكثر الفتن احرص على العبادة ، هذه العبادة بمثابة هجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما هاجر من قبل، وإن كان الأجر يختلف ، لكن تكون بمنزلة من هاجر .
الكفار يوقنون ؟
{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } السجدة12، لكن لا ينفع ، فاليقين الحقيقي ينال في هذه الدنيا .
( ومن الفوائد )
أن ذكر الآخرة هو من ضمن أصول الإيمان المذكورة في الآيات السابقات ، لكن لماذا خُصَّ بالذكر ؟
وكثيرا ما يربط الله عز وجل في قضية الإيمان ” بين الإيمان به والإيمان باليوم الآخر “
{ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ }البقرة228 .
قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )
لماذا التنصيص على الإيمان باليوم الآخر ؟
لأنه محل الترغيب والترهيب للعبد “
فتذكير الناس باليوم الآخر هو الذي يدعوهم إلى أن يقدموا إلى الطاعة وأن يحجموا عن المعصية .
( ومن الفوائد )
وجوب الإيمان باليوم الآخر ، لكن متى تكون بداية اليوم الآخر ؟
من بعد الموت ، ولذا يقول شيخ الإسلام كما في العقيدة الواسطية :
” إن اليوم الآخر يكون ما بعد الموت ”
يعني يجب أن تؤمن بعذاب القبر ، وبنعيم القبر ، وبما يكون في القبر ، فما يكون في القبر يعد من الإيمان باليوم الآخر ، وهناك دليل من الكتاب ومن السنة .
قال تعالى :
{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ }إبراهيم27 يعني في القبر .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( القبر أول منزل من منازل الآخر ة )
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .