تفسير سورة ( التغابن ) ( الدرس 251 )

تفسير سورة ( التغابن ) ( الدرس 251 )

مشاهدات: 429

تفسير سورة ( التغابن )

الدرس (251 )

فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرع بعون من الله في تفسير سورة التغابن، هل هي من السور المكية أو المدنية؟ اختلف العلماء والذي يظهر أن من بينها آيات مكية، وآيات مدنية.

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)}

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ينزه الله عما لا يليق به من في السموات ومن في الأرض {لَهُ الْمُلْكُ} فالملك كله له عز وجل، {وَلَهُ الْحَمْدُ} فهو عز وجل الذي يحمد على أقواله وعلى أفعاله وعلى شرعه {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} ولا يتعارض هذا مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه: ” كل مولود يولد على الفطرة” فنعم كل مولود يولد على الفطرة، لكن هناك من أضلهم الله لحكمته، وذلك كما قال تعالى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقد بينا هذه المسالة المهمة بيانا واضحا شافيا في سورة الأعراف في قوله تعالى {…كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} وفي آية الأنعام {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا} فالرجوع إليها جد مهم.

قال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فالله مطلع عليهم.

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} يعني ليتأمل هؤلاء حتى يؤمنوا بهذا الدين، {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} ما خلقهما للباطل أو اللعب بل  من أجل أن يتأمل وأن يتدبر فيهما، فيعلم أن الله هو الذي خلقهما، وهو الذي يستحق العبودية. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أيضا هذه من دلائل عظمة الله إذ صوركم أيها الخلق فجعلكم على أحسن صورة. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} فليتأمل الإنسان في نفسه، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.

{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وإليه المرجع إليه عز وجل.

{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فهو عز وجل يعلم ما يكون في السموات وما في الأرض. {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} يعني ما تخفونه {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} يعني ما تظهرون، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فهو عليم بما تكنه صدور الخلق {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)}

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} يعني يا كفار قريش ألم يأتكم خبر الذين كفروا من قبل كيف كفروا فماذا صنع الله بهم؟ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ} يعني خبر {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} يعني عاقبة أمرهم، {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني مؤلم، وذلك لما يكون لهم في يوم القيامة.

{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} ذلك العذاب الذي نزل بهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالدلائل الواضحات {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} يعني استغربوا من أن ياتي بشر من الرسل، وقد مر معنا ما يتعلق بهذه الحجة التي ذكرها هؤلاء في أكثر من موطن، ورددنا عليها فقال تعالى عن هؤلاء {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} فما الذي جرى؟ {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا} يعني أعرضوا {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} هنا السين والتاء للمبالغة فالله غني عنهم، {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فله الغنى المطلق التام، وهو حميد يحمد على أفعاله وعلى أقواله.

{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} مع تلك الدلائل العظيمة {زَعَمَ} يعني أنهم افتروا وكذبوا {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ} يا محمد لهؤلاء {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} أي لتخبرن {بِمَا عَمِلْتُمْ} وهذا يترتب عليه الجزاء {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} فهو أمر هين يسير على الله، وهذا هو الموطن الثالث الذي أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحلف به على إثبات يوم القيامة كما مر معنا في سورة سبأ، وفي سورة يونس.

{فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إذن ما الذي يلزمكم بعد تلك الدلائل؟ {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} {وَالنُّورِ} يعني القرآن {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فهو خبير بأعمالكم وسيجازيكم عليها.

{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)}

{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} يجمع الأولين والآخرين {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)}

{يَوْمُ التَّغَابُنِ} يغبن أهل الجنة أهل النار إذا أخذوا منازلهم في الجنة، فإن الكفار حينها يتحسرون بل كما ذكر بعض العلماء من أن ابن آدم يتحسر على تلك الساعات التي غفل فيها في الدنيا، ولم يذكر الله فيها حتى ولو كان من أهل الإيمان. قلت: وقد رد حديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” ليس هناك شيء يتحسر عليه أهل الجنة إلا ساعة كانت في الدنيا لم يذكروا الله فيها” ولكن هذا الحديث ضعيف. وأيضا ذلك الحديث: ” أن ابن آدم ليتحسر على ساعة لم يذكر الله فيها في الدنيا”. وكذلك ما ذكره بعض المفسرين فإن تلك الحسرة ليست حسرة عذاب، ولا يترتب عليها شيء فيما يتعلق بأهل الإيمان؛ لأن من دخل الجنة فإنه يكون في سعادة غامرة طيبة، ولكن الدرجات درجات أهل الجنة تختلف بحسب اختلاف أعمالهم.

{ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} ثم قال {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ}  {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} وذلك لأن تكفير السيئات يزيل عنه المكروه، فقال الله بعدها {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} لم يقل خالدا فيها لأن كلمة ” من ” من حيث لفظها تدل على مفرد، ومن حيث معناها تدل على الجمع، ولذلك نوع فيما يتعلق بالإفراد، وفيما يتعلق بالجمع فقال هنا {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فهذا الفوز الذي لا فوز أعظم من هذا الفوز.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} كفروا بالله وكذبوا بهذه الآيات كما قال الله  {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} فقال الله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا} خالدين فيها لا يخرجون منها، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وبئس المرجع ما هو؟ النار.

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)}

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي إلا بإذنه القدري، فما من شيء يقع مما لا يلائم الإنسان إلا وقد كتبه الله وقدره وأذن فيه بإذنه الكوني، ولذا قال تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ}

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قال به بعض المفسرين هو المؤمن تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم، ومن ثم فإن هذا القول الذي قاله تدل عليه الأدلة، ولذلك قال {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} يعني من يؤمن بأن هذا من قضاء الله ومن قدره فإن  الله يهدي قلبه إلى الصبر، ولذا في قراءة غير سبعية: ” ومن يؤمن بالله يهدأ قلبه” بمعنى أن قلبه يكون منشرحا، ودلائل هذا من حيث السنة قوله عليه الصلاة والسلام: ” إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك”.

فقال تعالى {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيما يتعلق بهذه المصبة وفي غيرها.

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أمرهم بطاعته وبطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا}  {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} يعني أعرضتم {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}  إنما عليه البلاغ الذي هو واضح وبين، وأما ما يكون من صدود فإنما يترتب عليه من عقاب فإنه يكون عليكم {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ثم قال الله {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} بعد تلك الدلائل التي وضحها عز وجل فالله هو المعبود الذي لا مبعود بحق إلا هو، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} هم الذين يتوكلون على الله فيما يتعلق بمصالحهم الدينية وبمصالحهم الدنيوية.

 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}

 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قال {مِنْ} للتبعيض، وليس الكل {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} يعني فاجتنبوا ما يدعونكم إليه من الصدود عن دين الله أو من إلهائكم عن ذكر الله.

فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ولذلك ذكر بعض المفسرين من أن هذا فيما يتعلق بأناس مؤمنين لم يهاجروا إذ منعهم أولادهم من الهجرة، فلما فتح الله على النبي صلى الله عليه وسلم  ورأوا أن الناس قد سبقوهم بالعلم وبالتعلم منه عليه الصلاة والسلام هموا أن يعاقبوهم فقال تعالى {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا} وهذا ليس خاصا بهذه القصة، وإنما هو شامل في كل من أخطأ عليك من قريب أو بعيد، ولذا قال {وَإِنْ تَعْفُوا} بمعنى أنكم تتجاوزون عن الذنب {وَتَصْفَحُوا} يعني أنكم تعرضون عن هذا الذنب {وَتَغْفِرُوا} بمعنى أنكم تسترون هذا الذنب فلا تذكرونه لأحد، وهذه الأشياء إنما أتي بها على وجه التفصيل من باب التأكيد على أهمية العفو، وقد مر معنا شيء من ذلك في سورة البقرة {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}

{وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ثم قال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} فهم فتنة واختبار، فالإنسان قد يشغله ماله، وقد يشغله أولاده {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فتذكروا ماذا؟ فتذكروا الأجر العظيم الذي يكون عند الله.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وهذه الآية ليست منسوخة، بل الإنسان مأمور بأن يبذل حسب وسعه أن يبذل في طاعة الله، وفي تقوى الله، أما لا يستطيع فقد رفع الله عنه الحرج ولذا قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ومن ثم فإن هذه الآية محكمة كقوله تعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} فقال تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا} يعني سماع تفهم وتعقل {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ}  و {خَيْرًا} هنا منصوبة باعتبار أنها خبر كان يعني وأنفقوا يكن خيرا لكم، وهذه الخيرية تكون لكم في الدنيا وفي الآخرة، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} من يوق شح وبخل نفسه فهو من المفلحين، ومر توضيح أكثر لهذه الآية في سورة الحشر.

{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}  بمعنى أنكم تنفقون نفقة حسنة من طيب نفس ومن غير من ولا أذى {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}  وقد مر معنا ما يتعلق بالقرض الحسن أعظم وأشمل من هذا في سورة البقرة {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}

{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} يعني مع المضاعفة يغفر لكم {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} فهو شكور لم؟ لأن عبده يعمل العمل القليل فيثيبه على ذلك الأجر العظيم وقال {حَلِيمٌ} لأنه عز وجل لا يعاجل بعقوبته على من أذنب فإنه يمهله {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}.

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} فهو عز وجل عالم بما غاب عنكم وبما تشاهدونه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} وذلك لأن له العزة والقوة والحكمة {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

وبهذا ينتهي تفسير سورة التغابن…