التفسير الشامل ـ تفسير سورة ( الدخان ) ( الدرس 231 )

التفسير الشامل ـ تفسير سورة ( الدخان ) ( الدرس 231 )

مشاهدات: 463

بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير الشامل ـ تفسير سورة الدخان 

الدرس(231)

فضيلة الشيخ / زيد بن مسفر البحري

___________________________

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد:

فنستعين الله عزوجل ونفسر سورةَ الدخان وهي سورة مكية.

﴿ حمٓ ﴾ من الحروف المقطعة ومرّ تفسيرها معنا في سورة البقرة.

﴿وَالْكِتَاب الْمُبِين﴾ أقسم الله عزوجل في القرآن ومرت هذه الآية موضحة في السورة السابقة

﴿إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة﴾ هذا هو جواب القسم

 ﴿إنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ يعني القرآن ﴿فِي لَيْلَة مُبَارَكَة﴾ وهي ليلة القدر، كما قال تعالى ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾   ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾

 ﴿إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة﴾ وهذه الليلة هي ليلة القدر ولا يصح قول من يقول من أنها ليلة النصف من شعبان! وذلك لأن ليلة القدر في رمضان والقرآن منزّل في رمضان ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ فالقرآن نُزّل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ ثم بعد ذلك نزل مفرّقاً على النبي ﷺ على حسب الأحداث.

 ﴿إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة﴾ ومن ثم فإن تلك الأحاديث التي وردت فيما يتعلق بليلة النصف من شعبان فإنها أحاديث لا تصح، وإنما المقصود هنا من هذه الآية هي ليلة القدر ﴿إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة﴾ وذلك لكثرة ما أودع الله عزوجل فيها من البركة ولذلك تتنزّل فيها الملائكة ولذلك النبي ﷺ قال كما ثبت عنه: ” مَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ “.

 

 ﴿إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾ يعني مُرسلين من ينذر الناس ويخوفهم من عقاب الله.

﴿فِيهَا يُفْرَق﴾ يعني في ليلة القدر ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلّ أَمْر حَكِيم﴾ وذلك بأن الله عزوجل يقدّر في ليلة القدر ما يكون في تلك السنة.

 ولْتعلم: أن تقدير الله عزوجل هناك التقدير الذي هو في اللوح المحفوظ:

 ذلكم لا يتبدل ولا يتغير قال الله عزوجل ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ و ﴿أُمُّ الْكِتَابِ﴾ هو أصل الكتاب وقال النبي ﷺ كما عند مسلم: ” كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قالَ: وَعَرْشُهُ علَى المَاءِ “.

وهناك تقديرٌ عمري: وذلك يكون فيما يكون من الملك بما يتعلق بالجنين، فيُكتب له رزقه وأجله وعمله وشقيٌ أو سعيد هذا تقدير عمري.

 الثالث: تقدير سنوي يكون في ليلة القدر، ويقدّر الله عزوجل في ليلة القدر ما يكون في تلك السنة مما يتعلق بأحوال الناس.

 وهناك تقديرٌ يومي ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن﴾ كما قال عزوجل. هذه هي المقادير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿فيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ يعني مما قدّره الله عزوجل {أَمْرٍ حَكِيمٍ} يعني مُحكَم من الله عزوجل

﴿أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا﴾ وهنا عظّم هذا الأمر فقال ﴿أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ يعني إنّا كنّا مرسلينك يا محمد إلى قومك ﴿ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ .

﴿رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ يعني أرسلناك رحمك الله بهذا الإرسال، وأيضاً هذا الإرسال رحمةٌ من الله لقومك ﴿رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ فهو السميع لكل قول؛ والعليم بكل حال؛ ومِن ثَم:

 فإنه عزوجل يعلمُ حالَك وحالهم ويسمع قولك وقولهم.

ولذلك بيّن هنا من باب الرد على هؤلاء لأنهم يُقرّون بتوحيد الربوبية فلماذا لا يُقرّون بتوحيد الألوهية!؟ ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ فدل هذا على أن التأمل في السموات وفي الأرض يدعو الإنسان إلى اليقين ولذلك في قصة موسى عليه السلام قال:

 ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ فدل هذا على أن توحيد الربوبية الذي كانت عليه كفارُ قريش لم يدخلهم في الإسلام بل قاتلهم النبي ﷺ، فدل هذا على أن الله عز وجل ما أنزل الكتب ولا أرسل الرسل إلا من أجل توحيد الألوهية، فقال الله عزوجل:

 ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ ثم قال مبيناً أنه لا معبود بحق إلا هو

﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أي: لا معبود بحق إلا هو ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ فهو عزوجل هو الذي أحياكم وهو الذي يميتكم وهو الذي يبعثكم ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ فلماذا لا تعبدون الله عزوجل!؟

﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ مع ذلك كلّه مع تنزيل القرآن ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ يعني في اضطراب وفي ريبٍ يلعبون

﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ﴾ يعني انتظر يا محمد ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ بدخان واضح بيّن، وذلك لأن النبي ﷺ دعا عليهم، فلما دعا عليهم أصابهم الجوع، حتى إنهم أكلوا الجيَفَ والجلود، حتى إن الواحد منهم إذا رفع بصرَه إلى السماء فإنه من شدة الجوع كأن هناك دخانا ينظر اليه لأن بصره يضعف ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ ﴾ يعني يغطي الناس ﴿هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يقول بعضهم لبعض هذا عذاب أليم

﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ﴾ يدعون الله عزوجل ﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾ يعني أننا آمنا ﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ﴾ يعني ارفع عنا هذا العذاب ﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾

﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى﴾ كيف لهم التذكّر ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ﴾ وهو محمد ﷺ أتاهم من جميع جوانبهم ومن جميع أحوالهم فدعاهم فأين التذكر من هؤلاء!

 ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ﴾

﴿ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ﴾ يعني أعرضوا عنه ﴿وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ﴾ يعني أن هناك من يُعلّمُه ثم حكموا عليه بأنه مجنون ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾

﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ﴾ يعني أن النبي ﷺ دعا اللهَ أن يرفع عنهم ما أصابهم ﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا﴾ فكشف الله عزوجل عنهم هذا العذاب بسبب دعوة النبي ﷺ ﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ﴾ عائدون إلى ماذا؟ عائدون إلى الكفر، فهم في الأصل هم كفّار لم يدخلوا في الدين لكنهم قالوا ﴿إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾ فدل هذا على ماذا؟

 دل هذا على أنهم لما قالوا إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾ هم عازمون من حيث الأصل على أنهم يكفرون، فقال الله عزوجل ﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ﴾

﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى﴾ البطشة يعني الانتقام العظيم من هؤلاء، والكبرى يعني في غزوة بدر إذ قُتل صناديد كفّار قريش ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ﴾ إنّا منتقمون من هؤلاء هذا هو التفسير الذي ارتضه بن مسعود رضي الله عنه ولم يرتضِ غيرَه

 ولذلك بعضُ المفسرين قال: إن هذا الدخان المقصود منه هو الدخان الذي يكون من العلامات الكبرى للساعة، والذي أخبر النبي ﷺ من أنه يصيب الكافر من باب أنه عذابٌ للكافر.

 وعلى كل حال دخولُ هذا لا بأس به؛ ومِن ثَم: فإن الآية لا مانع أن يدخل فيها هذان الرأيان، مع أن سياق الآية يدل على قول بن مسعود رضي الله عنه.

﴿۞وَلَقَدۡ فَتَنَّا قَبۡلَهُمۡ﴾ يعني كفارَ قريش ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا قَبۡلَهُمۡ﴾ يعني اختبرنا قبلهم كما اختبرنا كفّار قريش بمجيء النبي ﷺ اختبرنا الذين قبلَهم ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا قَبۡلَهُمۡ قَوۡمَ فِرۡعَوۡنَ وَجَآءَهُمۡ رَسُولٞ كَرِيمٌ﴾ وهو موسى عليه السلام {كَرِيمٌ﴾  أكرمه الله عزوجل بما أعطاه من الصفات؛ وبما منحه الله عزوجل.

﴿أَنۡ أَدُّوٓاْ إِلَيَّ عِبَادَ ٱللَّهِۖ ﴾ يعني أن موسى عليه السلام ماذا قال لهم؟ ﴿أَنۡ أَدُّوٓاْ إِلَيَّ عِبَادَ ٱللَّهِۖ ﴾ يعني ادفعوا إليّ عباد الله وهم بنو إسرائيل كما قال تعالى ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ يعني دع عنك عذاب بني إسرائيل واتركهم ليكونوا معي

 ويمكن أن يكون أيضاً كما قال بعض المفسرين: ﴿أَنۡ أَدُّوٓاْ إِلَيَّ عِبَادَ ٱللَّهِۖ ﴾ يعني أن موسى قال يا عباد الله أدّوا إليّ طاعة الله عزوجل ﴿إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ فأنا رسولٌ وأمينٌ على رسالة ربي.

﴿وَأَن لَّا تَعۡلُواْ عَلَى ٱللَّهِۖ إِنِّيٓ ءَاتِيكُم بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ﴾

﴿وَأَن لَّا تَعۡلُواْ عَلَى ٱللَّهِ﴾ يعني لا تتكبروا على الله ﴿إِنِّيٓ ءَاتِيكُم بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ﴾ أي بحجة بيّنة وواضحة كما ذكر الله عزوجل قصتَه في سورة الأعراف وفي غيرها من السور.

﴿وَإِنِّي عُذۡتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمۡ أَن تَرۡجُمُونِ﴾ وهذا يدل على أنهم أرادوا أن يقتلوه رجماً بالحجارة! فاستعاذ بالله عزوجل الذي هو ربه وربهم، ولذلك ماذا قال الله عزوجل عنه في سورة غافر:

 ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ فقال هنا ﴿وَإِنِّي عُذۡتُ﴾ يعني: استجرتُ بالله ﴿وَإِنِّي عُذۡتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمۡ أَن تَرۡجُمُونِ﴾

﴿وَإِن لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ لِي فَٱعۡتَزِلُونِ ﴾ يعني دعوني لأبلّغَ رسالةَ ربي ولا تتعرضوا إليّ بالأذى.

 وهذا يدل على أن موسى عليه السلام لمّا دعىٰ فرعون بقيَ في مصرَ مدةً من الزمن؛ ثم بعد ذلك خرج منها كما بيّنا ذلك في سورة الأعراف وفي غيرها.

﴿فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنَّ هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمٞ مُّجۡرِمُونَ﴾ دلّ هذا على أنهم لم يستجيبوا له، فدعا ربه من أن هؤلاء قومٌ مجرمون.

﴿فَأَسۡرِ بِعِبَادِي لَيۡلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾

﴿فَأَسۡرِ بِعِبَادِي﴾ أمره الله عزوجل أن يسريَ بعباده.

 والإسراء: هو السيرُ في الليل، لكنه أتى بكلمة الليل {لَيۡلًا} من باب التأكيد على أن الإسراء وقع في الليل حقيقةً، ﴿فَأَسۡرِ بِعِبَادِي لَيۡلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ يعني سيتبعكم فرعون، ولذلك كما ذكر الله عزوجل عن فرعون من أنه اتبعهم ولذلك قال ﴿إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ ﴿وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُون﴾ الآيات، فقال الله عزوجل ﴿فَأَسۡرِ بِعِبَادِي لَيۡلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾

﴿وَٱتۡرُكِ ٱلۡبَحۡرَ رَهۡوًاۖ﴾ يعني: اترك البحر على حالته

 فإنه لمّا ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق فسار فخرج ونجّاه الله عزوجل ومن معه من فرعون أراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر حتى يعود إلى حالته ليحول بينه وبين فرعون، لكن الله عزوجل قال ﴿وَٱتۡرُكِ ٱلۡبَحۡرَ رَهۡوًاۖ﴾ دعه على حاله، ولذلك لمّا رأى فرعون ومن معه أن البحر قد بقي على حاله ظنّ أن الطريق سيبقى على ما هو عليه! فلما انتصف في البحر أمرَ الله عزوجل البحر فأغرقه ﴿وَٱتۡرُكِ ٱلۡبَحۡرَ رَهۡوًاۖ إِنَّهُمۡ جُندٞ مُّغۡرَقُونَ ﴾ يعني أنهم سيصيبهم الهلاك بالغرق.

﴿كَمۡ تَرَكُواْ﴾ وهنا كم للتكثير، لماذا خرج هؤلاء من مصر واتبعوا موسى عليه السلام؟!

 ﴿كَمۡ تَرَكُواْ مِن جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ﴾ من جنّات يعني بساتين ﴿كَمۡ تَرَكُواْ مِن جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ﴾ وهي المياه المتصببة، ولذلك ماذا قال فرعون ﴿وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾.

 فقال الله عزوجل ﴿كَمۡ تَرَكُواْ مِن جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ﴾ ﴿وَزُرُوعٖ وَمَقَامٖ كَرِيمٖ﴾

﴿َزُرُوعٖ} وهو ما يخرج الحبوب التي هي القوت.

 ﴿وَمَقَامٖ كَرِيمٖ﴾ يعني امكنه كريمة ذات جمال وحُسن.

﴿وَنَعۡمَةٖ﴾ يدل هذا على أن كلمة (نَعمة) تدل على الترف، من أنهم كانوا في نِعمٍ عظيمة يترفهون بها ﴿وَنَعۡمَةٖ كَانُواْ فِيهَا فَٰكِهِينَ﴾ يعني أنهم يتلذذون بهذه النعم، وقد مر توضح لذلك في سورة الشعراء ﴿وَنَعۡمَةٖ كَانُواْ فِيهَا فَٰكِهِينَ﴾.

{كَذَٰلِكَۖ وَأَوۡرَثۡنَٰهَا قَوۡمًا ءَاخَرِينَ﴾

﴿كَذَٰلِكَۖ﴾ أي: كما اخرجناهم ﴿وَأَوۡرَثۡنَٰهَا قَوۡمًا ءَاخَرِينَ﴾ وهم بنو إسرائيل على الصحيح؛ لقوله تعالى ﴿كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ فدل هذا على أن الذي ورِثَها هم بنو إسرائيل.

 وقد بينا الخلاف أيضا في سورة الشعراء ما يتعلق:

 هل عاد بنو إسرائيل إلى مصر أم أنهم لم يعودوا؟

ــــــــــــــــــــــــــــ

﴿فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ﴾ لأنه لا خيرَ فيهم، فإنه لا يوجد في الأرض أيُّ مكانٍ يشهدُ لهم بأنهم يعبدون اللهَ عزوجل، ولا تشهد لهم السماء من أن لهم أعمالا صالحة تصعدُ إلى السماء.

 ﴿فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ﴾ وهذا يدل على أن السماوات والأرض تبكي على حال المؤمن بدلالة المفهوم.

 وبعض المفسرين قال: إن بكاء السماوات يكونُ بشدة احمرارها،

 قال ابن كثير رحمه الله: وأما ما يُذكَر من أن الحسين لمّا قُتِل إذا بالسماء قد احمرّت احمراراً شديداً، وإذا بالدم أصبح في الأرض كأنه دمٌ عبيط! إلى غير ذلك مما ذكروه، فقال رحمه الله:

 هذا من كذب الرافضة.

وعلى كل حال: ظاهر الآية من أن المفهوم من ذلك: أن السماوات والأرض تبكي على أهل الإيمان، ولذلك ماذا قال تعالى؟ ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا- بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ﴾

 فقال الله عزوجل ﴿فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ﴾ ما كانوا ممهلين حتى يتوبوا أو حتى يرضوا الله عزوجل.

ـــــــــــــــــــــــــ

﴿وَلَقَدۡ نَجَّيۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ مِنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ مِن فِرۡعَوۡنَۚ﴾

﴿وَلَقَدۡ نَجَّيۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ} هذه نعمة من الله عزوجل على بني إسرائيل كما ذكر عزوجل في آيات كثيرة منها ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ الآية، فقال الله عزوجل ﴿وَلَقَدۡ نَجَّيۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ مِنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ﴾ الذي يُهينهم؛ وذلك بتذبيح الأبناء واستحياء النساء للخدمة.  ﴿مِنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ﴾ توضيحه {مِن فِرۡعَوۡنَۚ﴾ قيل: إن المقصود من ذلك يعني من عذاب فرعون. وقال بعض المفسرين: {مِن فِرۡعَوۡنَۚ﴾ يعني أن العذابَ فرعون كأن العذاب هو فرعون لشدة ما كان يقومُ به مِن تعذيبِ هؤلاء.

﴿إِنَّهُۥ كَانَ عَالِيٗا مِّنَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ﴾ كان عالياً يعني مستكبراً، مِّنَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ: الذين تجاوزوا الحد، ولذلك قال الله عزوجل ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾.

﴿وَلَقَدِ ٱخۡتَرۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ عِلۡمٍ﴾ يعني اصطفيناهم، يعني بني إسرائيل {عَلَىٰ عِلۡمٍ﴾ يعني على علم من الله عزوجل ﴿وَلَقَدِ ٱخۡتَرۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ عِلۡمٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ يعني على عالَمي زمانِهم، ولا يدخل في ذلك أمة محمد ﷺ لأنها لم تكن موجودةً آن ذاك، لأن أمة محمد ﷺ هي خيرُ الأمم كما ثبت في ذلك الحديث الصحيح، ولقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ ولذا فصلنا ذلك في سورة المائدة: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾

 وكذلك فصلناه في سورة البقرة عند قوله تعالى ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾

ــــــــــــــــــــــــ

﴿وَءَاتَيۡنَٰهُم مِّنَ ٱلۡأٓيَٰتِ مَا فِيهِ بَلَٰٓؤٌاْ مُّبِينٌ﴾ أعطاهم الله عزوجل من الآيات التي يُستدل بها على توحيد الله وعلى صِدق موسى.

 ﴿وَءَاتَيۡنَٰهُم مِّنَ ٱلۡأٓيَٰتِ مَا فِيهِ بَلَٰٓؤٌاْ مُّبِينٌ﴾ وأعظم الآيات التي أتت بني إسرائيل هي التوراة.

﴿وَءَاتَيۡنَٰهُم مِّنَ ٱلۡأٓيَٰتِ مَا فِيهِ بَلَٰٓؤٌاْ مُّبِينٌ﴾ فيه اختبارٌ واضح ومبين لهؤلاء هل يصبرون أم أنهم يكفرون؟! ولذا عانى منهم موسى عليه السلام كما بين الله عزوجل ذلك في سورة الأعراف وفي غيرها؛ بعد إذ نجاهم الله عزوجل من الغرق.

ــــــــــــــــــ

﴿إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ لَيَقُولُونَ﴾

وهم كفارُ قريش ﴿لَيَقُولُونَ﴾ ﴿إِنۡ هِيَ إِلَّا مَوۡتَتُنَا ٱلۡأُولَىٰ وَمَا نَحۡنُ بِمُنشَرِينَ﴾ يعني أن هذه هي الموتة الأولى باعتبار أنهم لا يُثبتون البعثَ والنشور من أنه لا حياة بعدها.

 ﴿وَمَا نَحۡنُ بِمُنشَرِينَ﴾ يعني لسنا بمُبعَثين يومَ القيامة

﴿فَأۡتُواْ بِـَٔابَآئِنَآ﴾ يعني يقولون إن كنتم صادقين من أننا سنُبعث فلتأتوا بآبائِنا الذين ماتوا من قبلنا

﴿إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ فيما تزعمون من البعث والنشور! فقال الله عزوجل رداً عليهم:

﴿أَهُمۡ خَيۡرٌ أَمۡ قَوۡمُ تُبَّعٖ﴾ وقوم تُبّع في اليمن، أهؤلاء خير أم قوم تُبّع؟! مع أنهم أعظم منهم أهلكم الله عزوجل، وتُبّع يُطلق على من مَلَكَ اليمن كحال مَن يملك الفُرس فيقال (كسرى) فهذا لقبٌ له، ولم يقل تُبّع؛ لأن تُبّعاً كما ثبت في ذلك الحديث الصحيح لما سُئِلَ النبي ﷺ عن تُبّع:

 هل أسلم أم لا؟ قال: لا أدري ” هذا في أول أمره ثم أخبره الله عزوجل كما ثبت في ذلك الحديث الصحيح فقال ﷺ “لا تَسبُّوا تُبَّعًا؛ فإنَّه قدْ أسلَمَ”

 ﴿أَهُمۡ خَيۡرٌ أَمۡ قَوۡمُ تُبَّعٖ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ﴾ يعني: والذين من قبل تُبّع، أو الذين من قبل كفّار قريش. وعلى كل حال: فالعبَرُ تُؤخذ مما اجراه الله عزوجل على تلك الأمم من عقابه عزوجل.

 ﴿وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡۚ ﴾ السبب؟ {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} وذلك بسبب إجرامهم.

ــــــــــــــــــــ

﴿وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا لَٰعِبِينَ ﴾ وهذه الآية تكررت معنا كما قال عزوجل ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ بمعنى أن الله عز وجل ما خلق السماوات والأرض إلا بالحق، من أجل أن يتأمل الإنسان إلى عِظَم ما خلق الله فيها فيعلم أن الذي خلقها هو الذي يجب أن يُفرد بالعُبودية عزوجل.

 ﴿مَا خَلَقۡنَٰهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ﴾ ليس بالباطل كما يظن الكفار كما قال عزوجل ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾

 ﴿مَا خَلَقۡنَٰهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ فهم لا يعلمون عِظَم ما خلق الله عزوجل، وأنّى لهم العلم وقد صرفوا أذهانكم وحواسهم كُلّها عن تدبر هذا القرآن!

ـــــــــــــــــــــــ

﴿ إِنَّ يَوۡمَ ٱلۡفَصۡلِ مِيقَٰتُهُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾

﴿ إِنَّ يَوۡمَ ٱلۡفَصۡلِ﴾ دلّ هذا على أنهم سيبعثون في يوم الفصل الذي يفصل الله عزوجل فيه بين الخلائق ﴿ مِيقَٰتُهُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ يعني وقت جمْعِهم أجمعين.

﴿يَوۡمَ لَا يُغۡنِي مَوۡلًى عَن مَّوۡلٗى شَيۡـٔٗا ﴾

﴿يَوۡمَ لَا يُغۡنِي﴾ يعني في ذلك اليوم لا يًفيد ولا يُغني شخصٌ يحب شخصاً من قريبٍ أو صديقٍ أو ما شابه ذلك فلا يغني احدٌ عن أحد، {شَيۡـٔٗا﴾ ولو قَل.

﴿وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ﴾ يعني لا يُدفع عنهم هذا العذاب، لا أحد يستطيع أن ينصرهم

{إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

إلا من رحمه الله عزوجل في ذلك اليوم، وأيضاً من رحمه الله عزوجل فأذِنَ لمن أذِنَ له بالشفاعة وذلك بشرطيها: إذن الله للشافع، ورضاه عن المشفوع له.

﴿إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ﴾ فهو القوي الغالب الذي سيبعث الناس في هذا اليوم، وهو الرحيم لأنه في مثل هذا اليوم تظهر رحمة الله عزوجل، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح قوله ﷺ:

” إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي “

ولذلك يذكر اسمُ الرحمن كثيراً في الآيات التي تذكر يومَ القيامة.

ــــــــــــــــــــــــــ

﴿إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ﴾ هذا عذابُ الكفره ﴿طَعَامُ ٱلۡأَثِيمِ﴾ قال الله عزوجل عنها ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ وجاء في حديث حسّنه بعض العلماء من أن الزقوم لو قطّرت قطرة في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشها، فكيف بمن تكون هذه الشجرة طعامَه!

 ﴿إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ﴾ الزّقوم وهذا يدل على خبثها

﴿طَعَامُ ٱلۡأَثِيمِ﴾ الذي بالغ وزاد في الإثم؛ وأعظم الإثم هو الشرك بالله.

﴿كَٱلۡمُهۡلِ﴾ يعني كرديء الزيت، أو كالنحاس المذاب ﴿يَغۡلِي فِي ٱلۡبُطُونِ﴾ يعني إذا أكلوا هذه الشجرة حالُها في بطونهم كأنها تغلي كما يغلي الزيت ﴿يَغۡلِي فِي ٱلۡبُطُونِ﴾ كغلي ماذا؟

﴿كَغَلۡيِ ٱلۡحَمِيمِ﴾ وهو الماء الشديد الحرارة، يعني غليُها في البطون كغلي وشدّة وتقلّب الماء الحار.

ـــــــــــــــــــــــ

﴿خُذُوهُ فَٱعۡتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلۡجَحِيمِ﴾

﴿خُذُوهُ﴾ يأمر الله عزوجل الملائكة ﴿فَٱعۡتِلُوهُ﴾ يعني سوقوه بعنف ﴿إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلۡجَحِيمِ﴾ يعني إلى وسط الجحيم. ﴿ثُمَّ صُبُّواْ فَوۡقَ رَأۡسِهِۦ مِنۡ عَذَابِ ٱلۡحَمِيمِ ﴾ مع أكلِه للزّقوم التي تغلي بالبطن كغلي الحميم يُصب من فوق رأسه الحميم، قال الله عزوجل: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ -يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾ [الحج: 19-20]

قال الله عز وجل: ﴿ذُقۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡكَرِيمُ﴾

﴿ذُقۡ﴾ هذا أمر للتهكم وللتحقير ﴿ذُقۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡكَرِيمُ﴾ لأنك كنت تقول في الدنيا لا أحد أعز منّي، ولا أكرم منّي في هذه الدنيا لكثرة مالي وعشيرتي!

  ﴿إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡكَرِيمُ﴾ فهل تنفعك هذه الصفات العزّة والكرم!

﴿ إِنَّ هَٰذَا مَا كُنتُم بِهِۦ تَمۡتَرُونَ﴾ يعني إن هذا العذاب ﴿مَا كُنتُم بِهِۦ تَمۡتَرُونَ﴾ يعني تشكّون.

 ومِن ثَم: فإن بعض العلماء يقول: إن هؤلاء كفّار قريش من أن طائفةً منهم كانت تشكُّ في البعث، ولكن الجمهور الأعظم منهم يدل على أنه كان يجحدُ يومَ البعث، أمّا هؤلاء في شك، ولذلك ماذا قال عزوجل ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية: 32]

 ومن ثم فإن الجمهور الأعظم ينكرونها إنكاراً، أمّا هؤلاء فيشكّون.

وبعض العلماء يقول: بل إن الجميع يكفر ويجحد بذلك، وإنما قولُه ﴿إِنَّ هَٰذَا مَا كُنتُم بِهِۦ تَمۡتَرُونَ ﴾ مع قوله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ﴾ قالوا {إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} من باب التهكم، لأنهم أصلاً كانوا يجحدونها، ولذلك لمّا قالوا{إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا}  ماذا قالوا بعدها؟ ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية: 32]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٖ﴾

﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ﴾ لمّا ذكر حالَ أولئك الكفرة في يوم القيامة ذكر حال المتقين ﴿فِي مَقَامٍ أَمِينٖ﴾ يعني في مكان أمين، يعني أنهم آمنون في هذا المكان لا تأتيهم المخاوف ولا الهموم.

﴿فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ﴾ بيّن ذلك {جَنَّٰت} في بساتين ﴿وَعُيُونٖ﴾

﴿يَلۡبَسُونَ مِن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ﴾ السندس هو ما رقَّ من الحرير، الإستبرق ماغَلُظَ منه.

 ﴿مُّتَقَٰبِلِينَ﴾ يقابل بعضهم بعضاً لصفاء ما في نفوسهم ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47].

﴿كَذَٰلِكَ وَزَوَّجۡنَٰهُم بِحُورٍ عِينٖ﴾

﴿كَذَٰلِكَ﴾ يعني ما مضى من ما ذُكر من الأمر السابق من نعيمهم ﴿كَذَٰلِكَ وَزَوَّجۡنَٰهُم بِحُورٍ عِينٖ﴾ الحور العين سميت الحور بهذا الاسم لفرط جمالها لأن الطرف يَحارُ فيها لشدة جمالها {عِينٖ﴾ ِيعني أنها واسعة العيون تدل على جمالها.

﴿يَدۡعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَٰكِهَةٍ ءَامِنِينَ﴾ ﴿يَدۡعُونَ} يعني يطلبون في الجنة

{ءَامِنِينَ﴾ يعني من أنهم آمنون في هذه الجنة، وآمنون أيضاً مما يترتب على هذه الفاكهة مما تؤكل في الدنيا مما تُحدث مما تحدثه، فهم آمنون مما يترتب على أكلها لأنها ثمارٌ طيبة.

ــــــــــــــــ

﴿ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ﴾ يعني الموت في الدنيا

ولذلك وصفها بأنها هي الموتة الأولى لأنه يستحيل أن يكون في الجنة موت، لأن الموتة الأولى انتهت فكيف تحصل لهم في الجنة، ولذلك ينادي منادٍ كما ثبت في ذلك الحديث الصحيح:

” إنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فلا تَمُوتُوا أبَدًا “

ولذلك ماذا قال الله عزوجل عن الكفار فيما مضى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَىٰ﴾

فقال الله عزوجل هنا -عن المتقين- ﴿ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ﴾ كما قال عزوجل:

 ﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: 102]

ــــــــــــــــــ

﴿وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ﴾

﴿فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكَۚ﴾ ذلك الذي تقدم من النعيم هو فضلٌ من الله فضل من الله عزوجل، أمر العباد بالعمل، العمل سبب لكن العمل لا يُدخل الإنسان الجنة، ولذلك النبي ﷺ كما في الصحيحين قال:

” ما مِن أحَدٍ يُدْخِلُهُ عَمَلُهُ الجَنَّةَ فقِيلَ: ولا أنْتَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ برَحْمَةٍ منه وفَضْلٍ “.

﴿فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكَ ۚذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ﴾ لا فوزَ أعظم من هذا الفوز

ـــــــــــــــــــ

{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]

﴿فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ﴾ يعني هذا القرآن سهلناه عليك يا محمد بلغتك لكي تفهمَه ويفهمَه قومُك؛ ولذلك قال تعالى ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا﴾ [مريم: 97]

{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لعلهم يتذكرون إذا سمعوا هذا القرآن فيعودوا إلى الله عزوجل ويوحدوه، لكن حالهم حال صدود واعراض ﴿فَٱرۡتَقِبۡ إِنَّهُم مُّرۡتَقِبُونَ﴾ [الدخان: 59] فانتظر يا محمد ما يَحِلُّ بهم؛ فإنهم ينتظرون ويرتقبون ما سَيَحِلُّ بك.

ــــــــــــــــــــــــــــ

 وبهذا ينتهي تفسير سورة الدخان.