التفسير الشامل ـ تفسير سورة الزخرف من الآية ( 40 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (230 )

التفسير الشامل ـ تفسير سورة الزخرف من الآية ( 40 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (230 )

مشاهدات: 498

بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير الشامل ـ تفسير سورة الزخرف من الآية (40) إلى آخر السورة

 الدرس (230)

لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ أَوۡ تَهۡدِي ٱلۡعُمۡيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ (40) فَإِمَّا نَذۡهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنۡهُم مُّنتَقِمُونَ (41) أَوۡ نُرِيَنَّكَ ٱلَّذِي وَعَدۡنَٰهُمۡ فَإِنَّا عَلَيۡهِم مُّقۡتَدِرُونَ (42) فَٱسۡتَمۡسِكۡ بِٱلَّذِيٓ أُوحِيَ إِلَيۡكَۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (43) وَإِنَّهُۥ لَذِكۡرٞ لَّكَ وَلِقَوۡمِكَۖ وَسَوۡفَ تُسۡـَٔلُونَ (44) وَسۡـَٔلۡ مَنۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلۡنَا مِن دُونِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ءَالِهَةٗ يُعۡبَدُونَ (45)﴾

﴿أَفَأَنْتَ﴾ يعني يا محمد ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ مَن كان بمثابة الأصم؛ لأن لهم أسماع لكن لم ينتفعوا بها، ومن هو أعمى هل يمكن أن تهديه؟ ومن هو في ضلال مبين استغرق في الضلال أيمكن تهديه؟ الجواب: لا، الهداية بيد الله، لأن هؤلاء أعرضوا، ولذلك قال تعالى ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ -وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ﴾ [يونس:42-43].

﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ﴾ أي أننا نُميتك ﴿فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ﴾ سننتقم منهم جرَّاء أفعالهم ﴿أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ﴾ فهم لا يُعجزوننا إن أبقيناك سترى ما يحل بهم، ولذلك كان يقول النبي ﷺ كما ذكر عنه في أواخر سورة المؤمنون ﴿رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [المؤمنون:94] كما فسرنا ذلك في سورة المؤمنون.

فقال الله عز وجل هنا ﴿فَاسْتَمْسِكْ﴾ يعني مع ذلك الصدود من هؤلاء، فلا تهتم لهم ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ وهو القرآن ﴿إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ومن ثَم: فإن على المسلم في مثل هذا الزمن، وفي أي زمن تكثر فيه الفتن فلا يهولنّه ذلك، وما يُقال ولو كثر الباطل، بل يستمسك ويستعين بالله عز وجل.

﴿وَإِنَّهُ﴾ القرآن ﴿لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ لشرف لك ولقومك، لو أن قومك أخذوا به ﴿وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ سوف تسألون عن هذا القرآن، هل قمتم بواجبه أم لم تقوموا؟

﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾

هذا من باب التسلية للنبي ﷺ، وهل سألهم أو أنه لم يسألهم؟

قيل: إنه التقى بهم في ليلة الإسراء والمعراج، ومع ذلك لم يسأل أحد منهم، فالنبيُّ ﷺ كان على عقيدة قوية، ولكن هنا من باب التقبيح والتنكيل لهؤلاء، وأسال كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [يونس:94].

فقال الله عز وجل: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾

سبحان الله كرر اسم الرحمن هنا ﴿أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ الجواب: لم يجعل الله عز وجل ذلك لأن كل رسول يأتي يقول ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [هود: 50]

 ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء:25].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (46) فَلَمَّا جَآءَهُم بِـَٔايَٰتِنَآ إِذَا هُم مِّنۡهَا يَضۡحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِم مِّنۡ ءَايَةٍ إِلَّا هِيَ أَكۡبَرُ مِنۡ أُخۡتِهَاۖ وَأَخَذۡنَٰهُم بِٱلۡعَذَابِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ (48) وَقَالُواْ يَٰٓأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهۡتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِذَا هُمۡ يَنكُثُونَ (50) وَنَادَىٰ فِرۡعَوۡنُ فِي قَوۡمِهِۦ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَلَيۡسَ لِي مُلۡكُ مِصۡرَ وَهَٰذِهِ ٱلۡأَنۡهَٰرُ تَجۡرِي مِن تَحۡتِيٓۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ (51) أَمۡ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٞ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوۡلَآ أُلۡقِيَ عَلَيۡهِ أَسۡوِرَةٞ مِّن ذَهَبٍ أَوۡ جَآءَ مَعَهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ مُقۡتَرِنِينَ (53) فَٱسۡتَخَفَّ قَوۡمَهُۥ فَأَطَاعُوهُۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ (54) فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا ٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَٰهُمۡ أَجۡمَعِينَ (55) فَجَعَلۡنَٰهُمۡ سَلَفٗا وَمَثَلٗا لِّلۡأٓخِرِينَ (56)﴾

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى﴾ لما ذكر جميع الرسل، ذكر هنا حالَ موسى عليه الصلاة والسلام؛ لأن موسى تنوع الأذى بالنسبة إليه من قومه، فيقول تسلَّ بموسى، ولذلك كان يقول ﷺ:

“رحم الله أخي مُوسَى لقد أوذي بِأَكْثَرَ من هَذَا فَصَبر ” أخرجه البخاري.

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا﴾ وهي الآيات التسع التي مر ذِكرها في سورة الأعراف، ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ولذلك في سورة الأعراف قال:

 ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ [الأعراف:105].

﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ يعني جعلوا تلك الآيات مَحَلًّا للضحك والسخرية، كان من الواجب عليهم أن يُذعنوا وأن يطيعوا الله عز وجل.

 ﴿وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ يعني ما من آية آتيتهم فإنها أكبر من التي سبقتها،

وبعض المفسرين يقول: كلها كانت في الكِبَر عظيمة، وإنما قال هنا ﴿وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ أي أن كلَّ الآيات استوت في العظمة، والأشهر هو القول الأول.

 ﴿وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أخذهم الله بالعذاب لعلهم يرجعون كما قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا﴾ [الأعراف:133] وقالوا بعدها ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الأعراف:134]  فقال الله عز وجل هنا ﴿وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لكنهم ما استفادوا، لأن المصيبة إذا حلت بالإنسان تجعلُه يخضع ويخشع لله عز وجل.

لما أتاهم العذاب ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ﴾ الأكثر من العلماء يقولون: لم يقولوا هذا على سبيل السخرية، وإنما على سبيل التعظيم لأن السحر كان عندهم بالمنزلة الرفيعة، فيقولون هذا القول ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ﴾ بما أنه عهد إليك بهذه الرسالة وبالنبوة ﴿إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾

يعني أنه إن كشَفَ الله عنا العذاب، فإننا سنهتدي، لأن المعهود إليك في الرسالة أن من رجع وتاب تاب الله عليه.

﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾ ينقضون هذا العهد، وقال ينكثون لأنه بمثابة العهد، ولذلك قال ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الأعراف:134] حلَفوا بذلك، فهو عَهْدٌ مُوَثَّق.

﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ﴾ بمعنى أنه نادى في قومه في ملئه، أو بمعنى أنه أرسل إلى قومه كلِّهم ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ﴾ دل هذا على أن المناداة وصلت كل شخص من قومه

﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ من تحتي ومن تحت قصوري

﴿أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ أفلا يكونُ ذلك مدعاة لكم إلى أن تبصروا فتعلموا أنني أنا ربكم؛ وليس كما يقول موسى، هذا من باب التبجح من هذا الرجل.

 أراد أن يحقر موسى عليه السلام ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ﴾ ضعيف وفقير ﴿وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ أي ولا يكاد يوضح الكلام، وكذَب، لأن الله عز وجل أحَلَّ له عقدَتَه ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [طه:27-28] لكنه أراد بذلك أن يُمَوِّه على قومه.

﴿فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ﴾ إن كان كما يزعم أنه عظيم ورئيس، وأنه نبي، فحال العظماء أنهم يُحلون بالأساور لبيان عظمتهم.

 ﴿أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ هل أتت معه الملائكةُ من أجل أن تعينه وأن تشهد له بأنه نبي؟

 لكن قومه أصحاب عقول ضعيفة ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ لأنه وجدهم أصحاب خِفة في العقل ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ﴾ فهذا الكلام انطلى عليهم ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ لم؟

﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ فِسق أكبر وهو الشرك.

﴿فَلَمَّا آسَفُونَا﴾ أغضبونا ﴿انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ وهذا يدل على إثبات صفة الغضب لله عز وجل بما يليق بجلاله وبعظمته، أما مَن يقول إن الغضب المقصود منه: إرادة الانتقام أو الانتقام! فهذه الآية ترد عليه، بل خلاف مذهب أهل السنة والجماعة، لأنه قال: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ فرَّقَ بين الغضب والانتقام، فجعل الانتقام أثرًا من آثار غضبه عز وجل.

 ﴿فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ لم يبق منهم أحد إلا فرعون كما قال الله عز وجل أنه أغرقه لكنه أخرج جسَدَه كما قال تعالى ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ [يونس:92].

 ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا﴾ أي أنهم يتقدمون على غيرهم لأخْذِ العبرة ﴿وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ﴾ يعني أن من يأتي بعدهم يصبحون بمثابة المَثَل الذي يذكر في بيان عقوبة الله عز وجل لهؤلاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿۞وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوۡمُكَ مِنۡهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوٓاْ ءَأَٰلِهَتُنَا خَيۡرٌ أَمۡ هُوَۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَۢاۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٌ خَصِمُونَ (58) إِنۡ هُوَ إِلَّا عَبۡدٌ أَنۡعَمۡنَا عَلَيۡهِ وَجَعَلۡنَٰهُ مَثَلٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ (59) وَلَوۡ نَشَآءُ لَجَعَلۡنَا مِنكُم مَّلَٰٓئِكَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَخۡلُفُونَ (60) وَإِنَّهُۥ لَعِلۡمٞ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمۡتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ (62) وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ قَالَ قَدۡ جِئۡتُكُم بِٱلۡحِكۡمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي تَخۡتَلِفُونَ فِيهِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ (64) فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمٍ أَلِيمٍ (65)﴾

﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ ابن مريم يعتبر بمثابة المثل، مَثَل: بمعنى أنه يُتعظ به؛ لأن الله خلقه من غير أب، فيقول الله عز وجل: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ أي أنهم يصيحون بأعلى أصواتهم لأن الله عز وجل لما قال: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء:98] قالوا إذاً نرضى أن تكون آلهتنا ونحن معها مع عيسى، فعيسى عُبد من دون الله!

 وهم يقولون هذا الكلام من باب العناد والطغيان، لأنهم يعرفون أن قوله ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ﴾ أن {مَا} لغير العاقل، بخلاف (من) التي للعاقل، ولذلك قال بعدها:

 ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾[الأنبياء:101] كعيسى.

 ﴿وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ﴾ أنه خيرٌ من آلهتنا، فبما أن آلهتنا معنا في النار، إذًا نرضى أن نُصاحب عيسى.

 ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا﴾ ما ضربوا هذا المثل إلا من أجل الجدال والخصومة، وإلا فإنهم يعرفون أن (ما) المراد منها لغير العاقل، فلا يدخل فيها عيسى عليه السلام ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ أنهم قوم يحبون الخصام والجدال، والخصام والجدال مغلوبون به لأن حجتهم داحضة.

 ﴿إِنْ هُوَ﴾ عيسى ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ﴾ هنا بين مَقام عيسى ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ بالنبوة وما أعطاه الله عز وجل كما مر معنا في السور المتقدمة ﴿وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ حتى يتعظوا ويعتبروا أن الذي أوجده من غير أب هو الإله الحق، وهو قادر على أن يبعث الناس في يوم القيامة من قبورهم.

 ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ يقول الله عز وجل لو نشاء لجعلنا منكم من أصلابكم مَن يُولد وهو من الملائكة يخلفون في الأرض، وقال بعض المفسرين:

 ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ﴾ يعني من هنا للبدلية، لو نشاء لجعلنا بدلاً منكم ملائكة في الأرض يخلفون، ولعل هذا الرأي يقويه قوله عز وجل:

 ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الإسراء:94-95].

 فقال الله عز وجل ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ وهم أحسن منكم عبادة لله عز وجل ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء:20].

﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾ أي أن عيسى علامة، ولذلك نزوله في آخِر الدنيا من العلامات الكبرى للساعة

 ﴿فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾ لا تشكوا في الساعة ﴿وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ وهذا القول ﴿وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ من النبي ﷺ.

 ﴿وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ لا يصدنكم الشيطان عن طريق الحق، وعن الإيمان بيوم القيامة، ولذلك قال الله عز وجل لموسى ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى – فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾ [طه:15-16].

 فقال الله عز وجل ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أتى عيسى بالبينات ﴿قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ﴾ والحكمةُ هي الإصابة في القول والفعل، ويتضمن ذلك النبوة.

 ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ يقول عيسى لليهود جئتكم ِمن أجل أن أوضح البعض، وأما ما لم يأمرني الله بتوضيحه مما له الحكمة في عدم ذلك لن أوضحه، هذا كما قال الله عز وجل عن النبي محمد ﷺ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾ [المائدة:15].

وهنا عيسى عليه السلام في هذه السورة يبين لهم بعض ما كانوا يختلفون فيه، ولذلك قال تعالى عن القرآن ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النمل:76] وفي سورة آل عمران قال: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران:50] وهذا يختلف هناك تحليلٌ لبعض المحرمات ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ في هذه السورة تبيين، قال عز وجل ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ يعني أطيعوني فأنا رسولٌ من رب العالمين ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ من باب التأكيد، ولذلك في سورة آل عمران:

﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [آل عمران:51]

 ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} العبادة والتوحيد {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمٍ أَلِيمٍ (65) هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ أَن تَأۡتِيَهُم بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ (66) ٱلۡأَخِلَّآءُ يَوۡمَئِذِۭ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلۡمُتَّقِينَ (67) يَٰعِبَادِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَ وَلَآ أَنتُمۡ تَحۡزَنُونَ (68) ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ مُسۡلِمِينَ (69) ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ أَنتُمۡ وَأَزۡوَٰجُكُمۡ تُحۡبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيۡهِم بِصِحَافٖ مِّن ذَهَبٖ وَأَكۡوَابٖۖ وَفِيهَا مَا تَشۡتَهِيهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡيُنُۖ وَأَنتُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ (71) وَتِلۡكَ ٱلۡجَنَّةُ ٱلَّتِيٓ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (72) لَكُمۡ فِيهَا فَٰكِهَةٞ كَثِيرَةٞ مِّنۡهَا تَأۡكُلُونَ (73) فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمٍ أَلِيمٍ (65) هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ أَن تَأۡتِيَهُم بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ (66) ٱلۡأَخِلَّآءُ يَوۡمَئِذِۭ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلۡمُتَّقِينَ (67) يَٰعِبَادِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَ وَلَآ أَنتُمۡ تَحۡزَنُونَ (68) ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ مُسۡلِمِينَ (69) ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ أَنتُمۡ وَأَزۡوَٰجُكُمۡ تُحۡبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيۡهِم بِصِحَافٖ مِّن ذَهَبٖ وَأَكۡوَابٖۖ وَفِيهَا مَا تَشۡتَهِيهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡيُنُۖ وَأَنتُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ (71) وَتِلۡكَ ٱلۡجَنَّةُ ٱلَّتِيٓ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (72) لَكُمۡ فِيهَا فَٰكِهَةٞ كَثِيرَةٞ مِّنۡهَا تَأۡكُلُونَ (73)﴾

 ﴿فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ﴾ كما قال تعالى ﴿فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [مريم:37]،  فقال هنا ﴿فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ﴾ كلمة وعيد وتهديد ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ يوم القيامة ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ أن تأتيهم فجأة وهم لا يشعرون، من حيث لا شعور لهم ولا علمَ عندهم.

  ﴿الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ الخليل الذي بلغ محبته في قلب الإنسان اعظم ما يكون لأنها تخللت في القلب يكونون أعداء إلا مَن كان متقيًا، ولذلك قال الله عز وجل عن ذلك الرجل ﴿يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا – لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا﴾ [الفرقان:28-29].

 ﴿يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ الله عز وجل يكرم عباده يوم القيامة، لا خوف عليكم مما ستقدمون عليه، ولا أنتم تحزنون على ما فاتكم من الدنيا.

 ﴿يَا عِبَادِ﴾ من هم؟ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ آمنوا بآيات الله عز وجل الشرعية والكونية، وكانوا مسلمين يعني خاضعين ومنقادين لله.

 ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ﴾ يعني من زوجاتكم، وأيضًا يصدق عليه أيضًا من هو من أشباهكم ممن يشاهبكم في أعمالكم الطيبة. ﴿تُحْبَرُونَ﴾ والحبور هو السرور والفرح، مَسَرة وفرح.

 ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ﴾ دل على أن هناك مَن يطوف عليهم بما يريدونه من مأكل ومشرب ﴿بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ﴾ بأواني من ذهب وأكواب، الأواني الصحاف والأكواب، لأن تدل على الأكل بالنسبة للصحاف؛ والأكواب عن الشرب.

 ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ﴾ أيُّ شيءٍ تشتهيه النفس ﴿وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾ دل على أن ما يرونه يتلذذون به ﴿وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ يعني باقون.

 ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ﴾ وقال تلك من باب التعظيم لها ﴿الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بسبب أعمالكم، وكلُّ ذلك فضل منه عز وجل كما فصلنا ذلك في قوله تعالى:

 ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الأعراف:43].

 فقال الله عز وجل ﴿لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ لكم فيها فواكه متعددة {مِنْهَا تَأْكُلُونَ}.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿إِنَّ ٱلۡمُجۡرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَٰلِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنۡهُمۡ وَهُمۡ فِيهِ مُبۡلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّٰلِمِينَ (76) وَنَادَوۡاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقۡضِ عَلَيۡنَا رَبُّكَۖ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ (77) لَقَدۡ جِئۡنَٰكُم بِٱلۡحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَكُمۡ لِلۡحَقِّ كَٰرِهُونَ (78) أَمۡ أَبۡرَمُوٓاْ أَمۡرٗا فَإِنَّا مُبۡرِمُونَ (79) أَمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّا لَا نَسۡمَعُ سِرَّهُمۡ وَنَجۡوَىٰهُمۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيۡهِمۡ يَكۡتُبُونَ (80) قُلۡ إِن كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٞ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡعَٰبِدِينَ (81) سُبۡحَٰنَ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرۡهُمۡ يَخُوضُواْ وَيَلۡعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوۡمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ (83)﴾

 ثم لما ذكر حال أهل الإيمان، ذكر حال أهل النار ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾

﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} مَن بلغ في الإجرام غايته وهو الكفر بالله. ﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ﴾ لا يُخفف عنهم ولا يُنقص عنهم العذاب ﴿وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ أي أنهم آيسون من رحمة الله عز وجل ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ ظلموا أنفسَهم فالله عز وجل لا يظلم أحداً لكمال عدله.

 ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ﴾ يستغيثون بمالك وهو خازن جهنم ﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ ليُهلِكَنا وليميتنا ﴿قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ أي أنكم باقون فيها، ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عنه لما رآه:

” فقال رسولُ اللهِ ﷺ لجبريل: مالي لم آتِ على سماءٍ إلا رحبوا بِي وضحِكوا إليَّ غيرَ رجلٍ واحدٍ، فسلمتُ عليهِ فردّ علي السلام؛ فرحبَ بي ولم يضحكْ إليّ، قال: يا محمدُ، ذاكَ مالكٌ خازنُ جهنمَ لم يضحكْ منذُ خُلِقَ، ولو ضحكَ إلى أحدٍ لضحكَ إليكَ “

أما قول بعض المفسرين: {وَنَادَوۡاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقۡضِ عَلَيۡنَا رَبُّكَۖ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ}

{قَالَ} يعني: مالك بعد ألف سنة {إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ} فلا أعلم دليلاً صحيحًا من السنة على تحديد الزمن.

 

 ﴿ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ﴾ من عند الله ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ لا تريدون الحق فأنتم تكرهونه ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الحج:72]، ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ [الزمر:45] إلى غير ذلك من الآيات.

 ﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا﴾ دبروا أمراً للكيد بالنبي ﷺ ﴿فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ فاللهُ عز وجل يحيطُ بهم ويهلكهم.

 ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ﴾ مما يكون في قلوبهم ﴿وَنَجْوَاهُمْ﴾ فيما يتناجون فيما بينهم علانية!

 ﴿بَلَى وَرُسُلُنَا﴾ نسمع ذلك، وأيضًا ورسلنا ﴿لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ يكتبون كلَّ شيء، ولذلك قال عز وجل:

 ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18] وقال تعالى ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ- يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار:11-12]، ومن ثَم: فهل يكتبون كلَّ شيء من الطاعة، ومن المحرم، ومن الأقوال الأخرى حتى لو لم يترتب عليها ثواب وعقاب؟

ج/ خلافٌ بين المفسرين، ولكن الذي تدل عليه الآيات أنهم يكتبون كلَّ شيء ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18] وهل يعلم هؤلاء الذين وُكلوا بكتابة ما يفعله العبد، هل يعلمون كل شيء يقوم به العبد من أقوال وأعمال؟ نعم ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار:11-12].

 لكن لو قال قائل: أيعملون ما يكون في سر الإنسان؟

 فالجواب: نعم، ولذلك قال شيخُ الإسلام رحمه الله كما في مجموع الفتاوى:

قال سفيان: إن الملك ليعرف ما يكونُ في صدر الإنسان من طاعة برائحةٍ طَيّبة، وإذا كانت ريحةً خبيثة فإنها تدل على أنه يريد سيئة سيفعلها، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وعلى كل حال فإن الله عز وجل يُطلعهم على ما في صدر وقلبِ الإنسان، لأن النبي ﷺ كما ثبت عنه قال:

” ما مِنكُم مِن أحَدٍ، إلَّا وقدْ وُكِّلَ به قَرِينُهُ مِنَ الجِنِّ وقَرِينُهُ مِنَ المَلائِكَةِ ” أخرجه مسلم

 

 فيقول: إذا كان القرين من الملائكة يعلم ذلك، فالملائكة الذين يكتبون كذلك، والآيات واضحة وتدل على ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ هذا شرط؛ ولا يلزم من الشرط أن يقع، لكن هذا من باب التبكيت لهؤلاء ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ يعني: على افتراض مع أن هذا مستحيل،

 لو كان له ولد فأنا مع ذلك أول العابدين لله عز وجل، لكن ليس له ولد؛ لأنه بين ذلك في آيات كثيرة، ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾

وقال بعض المفسرين: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ أول الآنفين الذين ينفرون من هذا الشيء، ولا يقرون به لأن الله عز وجل منزه عن ذلك، وقيل بأقوال أخرى.

ولذلك قال ﴿سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ نزّه نفسَه عما لا يليق به مما يقولونه ﴿سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ وذكر العرش لأنه أعظم المخلوقات، نزه نفسه عما يصفونه من هذا الكذب والافتراء،

{رَبِّ الْعَرْشِ} لأنه أكبر من السماوات والأرض، بل أكبر المخلوقات.

 ﴿فَذَرْهُمْ﴾ اتركهم يا محمد وهذا من باب التهديد لهؤلاء ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا﴾ يخضعوا في القول الباطل، ويلعبوا في دنياهم تاركين طاعةَ الله، إلى؟ ﴿ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ مما يوعدونه من العذاب، وسيعملون مَغبةَ ذلك الخوض واللعب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَآءِ إِلَٰهٞ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَٰهٞۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَعِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ (85) وَلَا يَمۡلِكُ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ (86) وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَهُمۡ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ (87) وَقِيلِهِۦ يَٰرَبِّ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمٞ لَّا يُؤۡمِنُونَ (88) فَٱصۡفَحۡ عَنۡهُمۡ وَقُلۡ سَلَٰمٞۚ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ(89)﴾

 ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ﴾ يعني هو المعبود، كما أنه المعبود في السماء، هو المعبود في الأرض، وليس معنى ذلك: أن الله حَلَّ في كلِّ مكان! كمن ينكر صفة العلو، وبينا ذلك عند قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام:3] وبينا هناك تبينًا واضحًا شاملًا ولله الحمد.

 ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ هو الحكيم عز وجل، ومِن حكمته عز وجل أنه أنزل الكتب وأرسل الرسل،

 وعليمٌ بأحوال خلقه وما يحتاجونه وما يُصلحهم ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك:14].

 ﴿وَتَبَارَكَ الَّذِي﴾ كَثُرَ خيرُ الله، وثبت خيرُ الله وعَظُمَ خيرُ الله.

 ﴿وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾

الساعة لا يعلم بها إلا الله عز وجل ولكن المرجع إليه، وسيُجازي كلَّ إنسانٍ بما عَمِل.

 ﴿وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ﴾ يعني الذين تدعونهم من دون الله لا يملكون الشفاعة إلا من شهِد بالحق كعيسى عليه السلام، فإنه شهد لله عز وجل بالحق بالتوحيد، وكذلك تكون الشفاعة لكل من شهد لله بالتوحيد.

 ولذلك من شروط الشفاعة: إذن الله للشافع، ورضاه عن المشفوع له.

 قال ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ تلك الشهادةُ الصادرة منهم صادرة عن علم، وهذا يدل على:

أن من شروط لا إله إلا الله العلم -وشروطها ثمانية-،

وهذا يدل على أن الشهادة لا تكون مقبولة إلا عن علم؛ حتى فيما يتعلق بالشهادة فيما يكون للمخلوقين.

 ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ انظر في أول السورة ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف:9] قال هنا ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ كيف يُصرفون عن توحيد الألوهية؛ وعن عبادة الله عز وجل؟!

 ﴿وَقِيلِهِ يَا رَبِّ﴾ جُرَّت ﴿وَقِيلِهِ} فهي معطوفة على قوله {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، أيضًا وعنده علم ما يقولُه النبي ﷺ،

﴿وَقِيلِهِ} يعني قول النبي ﷺ ﴿وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ﴾ النبي ﷺ يقول هؤلاء لا يؤمنون.

﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ﴾ هو يعلم قولَك يا محمد لكن ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ﴾

﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} يعني تجاوز عنهم، وهذا يدل على أن الصفح هنا لمناسبة الحال، ولا يتعارض مع الأدلة التي جاءت بمقاتلتهم، وقد بينا ذلك في سورة البقرة ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [البقرة: 109] ﴿

وَقُلْ سَلامٌ﴾ سلام مُتارَكَة كما قال عز وجل ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان:63]

 ﴿وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ تهديد فسوف يعلمون مَغَبّةَ كفرهم.

 وبهذا ينتهي تفسير سورة الزخرف.