تفسير سورة الفاتحة ـ الدرس التاسع
تفسير قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ( 1 )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مازلنا بصدد تفسير سورة الفاتحة :
وأول آية في هذه السورة المباركة هي قوله تعالى :{ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ }
هذه هي أول آية في هذه السورة ، وإذا كانت هي الآية الأولى في السورة فإن في هذا دلالة على ترتيب آيات القرآن
ومن الضروري : أن يأتي به المسلم أثناء قراءة كلام الله عز وجل : فلا يجوز له أن يقدم آية على أخرى .
وذلك لأن ترتيب الآيات على هذا النحو توقيفي
صادر من الشرع ، ولا يجوز العدول عنه ، وكذلك ترتيب الكلمات فهي من باب أولى صادرة من الشرع
أما ترتيب السور :
بمعنى أن تكون سورة البقرة هي الأولى ، ثم سورة آل عمران ثم سورة النساء
هذا الترتيب أهو توقيفي أم غير توقيفي ؟
بمعنى :
هل وضع هذا الترتيبَ النبيُ صلى الله عليه وسلم أم أنه قد وضع من قبل غيره من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ؟ اختلف العلماء في ذلك :
فمنهم من يرى : أن ترتيب السور توقيفي .
ولا يجوز أن تُقدم سورة على أخرى ، على نمط هذا الترتيب في هذا المصحف ، فلا يجوز أن تقدم سورة آل عمران على سورة البقرة أثناء القراءة .
وبعض العلماء : يقول من باب التيسير هذا من باب الاجتهاد:
ولا يصل بالإنسان إلى درجة التحريم ، صحيح أنه لا ينبغي له
لم ؟
لأن الصحابة رضوان الله عليهم لما جمعوا المصحف في عهد عثمان رضي الله عنه جمعوه على هذا النحو ، واستقروا عليه ، ولا شك ولا ريب أن هناك سورا رُتبت من النبي صلى الله عليه وسلم من خلال ما علم من سنته عليه الصلاة والسلام ، مثل ( سَبِّح والغاشية ) فإن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ بهاتين السورتين في صلاة الجمعة.
ومع ذلك لم يُقدم الغاشية على سَبِّح فدل على أن هناك ترتيبا بين هاتين السورتين .
كذلك الشأن : في سورة الجمعة وسورة المنافقون
أما السور الأخرى فقد جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه :
أنه قال :
(( أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل ، فدخلت معه فافتتح سورة البقرة ، فقلت يختم عند المائة فمضى ، فقلت يختم بها الركعة ، فمضى ثم افتتح سورة النساء ، ثم افتتح سورة آل عمران ))
هنا حصل :
فيه تقديم فإن سورة آل عمران أسبق من سورة النساء ، ومع ذلك قدّم صلى الله عليه وسلم سورةَ النساء على سورة آل عمران
فأجاز بعض العلماء تقديم بعض السور على الأخرى
فلو قدم الإنسان بعض السور على الأخرى ، فلا جناح ولا حرج عليه
والعلماء الآخرون لهم من هذا الترجيح نصيب من الحق
هو أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة البقرة ثم سورة النساء ، ثم سورة آل عمران أن ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام كان في العرضات الأولى قبل العرضة الأخيرة .
لأن جبريل عليه السلام كان يعارض النبيَ صلى الله عليه وسلم القرآنَ
أي :
يدارسه القرآن الكريم في شهر رمضان مرة فلما كان العام الذي توفي فيه النبي عليه الصلاة والسلام عارضه القرآن مرتين ، فيكون هذا التقديم منه عليه الصلاة والسلام لسورة النساء على آل عمران في العرضات الأولى ، ينما في العرضات الأخيرة استقر تقديم سورة آل عمران على سورة النساء
ولذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله :
(( إن هذا الترتيب أجمعت عليه الأمة من عصر عثمان رضي الله عنه ، فلا يُعدل عنه لكن لو أن إنسانا قدم سورة على أخرى فلا يُعظم الأمر ، بينما لو قدم آية على أخرى فإنه يُثرب عليه
لِمَ ؟
لما جاء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام كما في السنن :
( كان إذا نزلت آية قال : اجعلوها في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا .. )
فدل على أن ترتيب الآيات توقيفي منه عليه الصلاة والسلام .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد كنت قد قلت لكم في درس سابق :
بأن سورة الفاتحة اشتملت على كل مقاصد القرآن ومعانيه
ولذا نقل شيخ الإسلام رحمه الله كما في الفتاوى أنه قال :
” قد أنزل الله عز وجل كتبا ، منها التوراة والإنجيل والزبور ، فجعل معاني هذه الكتب في القرآن وجعل معاني القرآن في سورة الفاتحة ، وجعل معاني سورة الفاتحة في قوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أي أن الكتب ، وما تشتمل عليه من معاني جمعت في هذا القرآن العظيم ، ومعاني القرآن الكريم جمعت ووجدت في سورة الفاتحة ، ومعاني سورة الفاتحة موجودة في قوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } “
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لو أتينا إلى الآية الأولى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
افتتح الله هذه السورة بالحمد :
وافتتح سورا أخرى بالحمد هذه السور من غير سورة الفاتحة منها سورة الأنعام ، والافتتاح هنا له مغزى سيأتي معنا في التفسير
في سورة الأنعام قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }
{ وَجَعَلَ } هنا يعني خلق ، و { يَعْدِلُونَ } : يساوون معه غيره في العبادة
والسورة الأخرى سورة الكهف قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا }
سورة أخرى هي سورة سبأ قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }
و هنا كرر الحمد
وسورة أخرى سورة فاطر قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
لماذا حمد الله عز وجل نفسه ؟
حمد الله نفسه لأسباب من بينها أنه عز وجل يحب المدح والثناء
ولذا في الصحيح : قوله عليه الصلاة والسلام 🙁 ليس أحد أحب إليه من المدح من الله )
ولذا مدح نفسه عز وجل
فإذا كان يحب الثناء والمدح فما على عباده إلا أن يحمدوه جل وعلا
ومن الأسباب التي مدح الله نفسه : من أجل أن يعلّم خلقه كيف يحمدوه
مَنْ هؤلاء الخلق ؟
أولئك البشر والجماد – وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى مبينا بالأدلة – إذًا حمد الله عز وجل نفسه من أجل أن يعلم خلقه أن يحمدوه
من الأسباب أيضا :
أنه لا يستطيع أحدُ أن يبلغ حمده والثناء عليه فإن الخلقَ كلهم قاصرون عن أن يوفوه عز وجل حقه و حمده
ولذا جاء عند أهل السنن: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول في آخر وتره :
( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك )
سبحان الله !!
( أنت كما أثنيت على نفسك )
لِمَ ؟
لأنه لا طاقة للبشر أن يبلغوا حدا في الثناء عليه ، فلو اجتمعت الإنس كلُها على أن يوفوه جل وعلا حقه من المدح والثناء ، لما استطاعوا – لِمَ ؟
يقول ابن القيم رحمة الله عليه – ولله المثل الأعلى – لأن الشخص إذا كثرت صفاته وأفعاله الحميدة زاد الثناء عليه :
” كلما رأيت شخصا أفعاله وصفاته طيبة ، فكلما زدته مدحا فيقول لأن الله عز وجل قد كثرت صفاته وأفعاله الحميدة فلا يستطيع أحد أن يحصرها ، فكان البشر غير قادرين على أن يحمدوه حق حمده “
لم ؟
” لأنهم لا يستطيعون إحصاء محامده ، وصفاته عز وجل والحمد يكون مقابل الصفات ، والصفات لله كثيرة فلا يستطيع أحدٌ أن يحصرها ، فإذا كان لا يستطيع أحدُ حصرها فلا يستطيع أن يوفيه أحد حقه من الحمد والثناء ))
وللحديث تتمة إن شاء الله
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم