التفسير الشامل ـ تفسير سورة ( الفتح )
الدرس (235 )
فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة الفتح، وهي من السور المدنية، وهذه السورة نزلت بعد صلح الحديبية، فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم لما صالح كفار قريش على أن الحرب تقف عشر سنوات، وما شابه ذلك من تلك الشروط، فبعض الصحابة رأى أن هذا الصلح يعد غضاضة على أهل الإسلام، فأنزل الله هذه السورة بعد صلح الحديبية، فقال تعالى:
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)}
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} يعني يا محمد، وكلمة {لَكَ} يعني لأجلك مما يدل على أنه فتح له هذا الفتح باعتبار أنه يستعين به على طاعة الله، ولنصرة دين الله. {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} يعني فتحا واضحا، هل هذا الفتح هو صلح الحديبية أو هو فتح مكة؟ قال به بعض العلماء، وقال بالآخر بعض العلماء، والذي يظهر أن المقصود هنا صلح الحديبية؛ لأن صلح الحديبية يعتبر فتحا، لم؟ لأنه في تلك الفترة إذا بأهل الإسلام يختلطون بالكفار، فتأثر كثير من الكفار فأسلم، ومن ثم فإن أهل الإسلام استفادوا من صلح الحديبية، مع أنهم ما كان بعضهم يرضى بهذا الصلح، ولا يرتضيه؛ لأن به شروطا عليهم، وذلك من أن الحرب تبقى عشر سنوات، وأيضا أن مَن أتى إلى الكفار فلا يرد، وأن من أتى من الكفار إلى المسلمين مسلما فإنه يرد يرد إلى الكفار، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ” ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أنرضى الدنية في ديننا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن الله ناصري ” ومن ثم فإن الله قال {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} يعني هو فتح ظاهر بين.
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} فتح لك هذا الفتح من أجل ماذا؟ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ومر معنا ما يتعلق بهذه المسألة، وهل الذنوب تقع من النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح قالت: ” يا رسول الله ـ كانت تتفطر قدماه من طول القيام فكيف تفعل في نفسك هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول:” أفلا أكون عبدا شكورا”
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ومن فوائد هذا الصلح، {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} النعم الدينية والدنيوية، {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} ليهديك الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.
{وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} يعني نصرا قويا منيعا لا يضعف فيه الإسلام.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)}
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} لما جرى ما جرى من شروط، وإذا ببعض المؤمنين يرى في نفسه كيف نرضى بهذا الصلح أنزل الله على قلوبهم السكينة، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} وهذا يدل على زيادة الإيمان، ومرت معنا هذه المسألة مفصلة في أول سورة الأنفال، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فهو ليس بحاجة إليكم فله جنود السموات والأرض، ولو شاء لقضى على هؤلاء في لمح البصر،{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} فهو عليم بحالكم، وحكيم لما شرع هذا الصلح.
{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ} لما ذكر ما يتعلق بالفضائل للنبي عليه الصلاة والسلام والثمرات من هذا الفتح {لِيُدْخِلَ} يعني {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ما هو حال أهل الإيمان {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال هنا {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بمعنى التأكيد مع أن المؤمنات يدخلن في المؤمنين، لكن من باب ماذا؟ من باب أن الإنسان يكافئ على عمله سواء كان ذكرا أو أنثى، ومن باب التأكيد على هذا الأمر، {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} يعني يكفر عنهم الذنوب، {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} فهو فوز عظيم، وأي فوز أعظم من أن تدخل الجنة، وأن تكفر سيئاتك {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}.
{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} جرى ما جرى من فتح أيضا ليكون حال المنافقين والمشركين إلى حال عذاب، {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} ونص أيضا على المنافقات، ونص على المشركات {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} وهذا الظن السيء من هؤلاء من أنهم يقولون: إن محمدا لن ينصره الله، وإن دينه سينتهي؛ ولذلك في الآيات التي ستأتي {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} فقال تعالى {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} وهذا يدل على أن ظن السوء حصل منهم في صلح الحديبية، وحصل منهم أيضا في ماذا؟ في غزوة أحد كما قال تعالى {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}
{الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} {دَائِرَةُ السَّوْءِ} يعني العذاب والمهانة والخزي {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ} وأيضا يحتمل أن يكون دعاء يعني دعاء عليهم بهذا الأمر، {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وهذا فيه إثبات صفة الغضب لله بما يليق بجلاله وعظمته، {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} يعني طردهم من رحمة الله، {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} هيأ لهم جهنم {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ساءت جهنم المصير والمرجع.
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} كررها مرة أخرى، لكن في أول الأمر قال {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} لما ذكر ما يتعلق بالفتح لأهل الإيمان قال {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} هنا لما كان الحديث عن ماذا؟ عن المشركين والمنافقين قال {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} يعني هو القوي الغالب الذي هو عز وجل قادر على أن ينزل بكم العذاب وإذا أنزله بكم فإن هذا من حكمته ومن عدله.
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)}
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} يعني يا محمد لا تحزن على هؤلاء {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} لتشهد على أمتك وتشهد على الأمم السابقة بأن أنبياءها قد بلغوا أقوامهم {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا} لمن أطاع الله {وَنَذِيرًا} يعني مخوفا لمن عصى الله، {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} كل ذلك من أجل ماذا؟ أرسلناك {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} {وَرَسُولِهِ} هذه هي العقيدة {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} {وَتُعَزِّرُوهُ} يعني تنصرونه {وَتُوَقِّرُوهُ} يعني أنكم تعظمونه، ومن ثم هذه الضمائر تعود إلى الله أو تعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ خلاف والذي يظهر من مجموع ما ذكر، وهو الأظهر من أن قوله {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} تعزرون الله ورسوله، وتوقرون الله ورسوله، {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} هذا الضمير يعود فقط إلى الله، البكرة أول النهار، والأصيل هو ما بعد صلاة العصر.
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من المدينة علم عليه الصلاة والسلام بأن كفار قريش قد اجتعموا له بالجيوش من أجل أن يصدوه عن البيت الحرام، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم ليبلغهم من أنه ما أتى لحربهم، وإنما أتى للعمرة، حتى إنه عليه الصلاة والسلام أخذ طريقا غير الطريق الذي سيواجه كفار قريش حتى لا يكون حرب، حتى نزل بالحديبية، فنزل عليه الصلاة والسلام بالحديبية، فصار ماذا؟ صارت هناك رسل بين كفار قريش وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عثمان رضي الله عنه لينظر في الأمر من أجل الصلح، ومع ذلك أشيع بأن عثمان رضي الله عنه قد قتل هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” من يبايعني” فبايعه الصحابة على الجهاد، وكان معه ما يقرب من ألف وأربعمائة، أو تزيد قليلا على حسب اختلاف الروايات من أنهم بايعوه تحت الشجرة، وتسمى بيعة الرضوان، فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعض المنافقين الذين انصرفوا عن هذا الأمر، فقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وذلك لأن هذه المبايعة بأمر من الله، ولا يفهم من ظاهرها أن الله هو الذي يبايعهم، وإنما الذي بايعهم من؟ هو النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذا مثل قوله تعالى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ولذلك في الآيات التي بعدها {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} فدل هذا على أن المبايعة حصلت من النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وكل ذلك بأمر الله، وإنما كانت مبايعة من الصحابة لله؛ لأن ذلك بأمر الله.
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وهذا يدل على عظم هذه المبايعة {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ومن ثم ففيه إثبات صفة اليد لله بما يليق بجلاله وبعظمته، وفصلناها وبينا ذلك بوضوح عند قوله تعالى {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}.
{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ومن ثم فإن بعضا من الناس ممن يريد الطعن في معتقد أهل السنة والجماعة فيقول كيف تكون يد الله فوق أيديهم؟ يعني هناك ملاسمة بين يد الله وأيدي الصحابة…
فالجواب عن هذا: من أن المبايعة كما مر حصلت من ماذا؟ حصلت من النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن بعضهم يقول {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} قال إن اليد هنا يد الله يعني يد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا خطأ، لم؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايعهم هل كانت يده فوق أيديهم المصافحة، فدل على أنها يد الله تليق بجلاله وعظمته ولا يلزم من ذلك المماسة، لم؟ لأن الله في العلو، ولذلك نقول السماء فوقنا هل هي ملامسة لنا؟ الجواب: لا، ليست ملامسة لنا، السماء فوقنا تقول السماء فوق رأسي هل السماء فوق رأسك مباشرة؟ الجواب: لا، ومن ثم فهنا ما يتعلق بإثبات صفة اليد لله بما يليق بجلاله وبعظمته، ومن هنا هناك بعض الأمور التي تحدث في مثل هذا الزمن، وذلك مثل الأشاعرة هم لا يثبوت من صفات الله إلا سبع في قوله:
حي عليم قدير والكلام له إرادة كذاك السمع والبصر
يعني أنهم لا يثبتون إلا هذه الصفات، أما ما عداها فينفونها حتى إن هذه السبع فيحرفونها في بعض تحريفاتهم، ومن ثم فإنه في مثل هذا الزمن يقولون نحن الأشاعرة يقولون أهل السنة والجماعة، ونحن عندنا السواد الأعظم، ونحن الأكثر بين علماء المسلمين…
فالجواب عن هؤلاء:
أولا: من حيث الأكثرية تلك النسبة التي يقال من أنها هي السواد الأعظم تحتاج إلى إثبات من حيث الواقع.
ثانيا: لو هؤلاء هم الأكثر فإن الحق ليس مع الأكثر، الحق مع الدليل، فهؤلاء ولو كانوا أكثر فإن الحق ليس معهم، وإنما الحق مع الدليل.
ثالثا: أن الصحابة والذي أثنى الله عليهم في كتابه وأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سنته مع ذلك كله قال:” خير الناس قرني” ومع ذلك أجمع الصحابة على إثبات أسماء الله، وصفات الله بما يليق بجلاله وبعظمته من غير تحريف ولا تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل..
فأينا على الحق أهم أم نحن؟ من؟ من كان متبعا للصحابة رضي الله عنهم {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} أيضا أم سلمة رضي الله عنها كما أثر عنها، وتناقل ذلك السلف، لما سئلت عن الاستواء قالت: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة” أيضا ابن عباس رضي الله عنهما لما ذكرت صفة من صفات الله، فخاف بعضهم فقال ابن عباس رضي الله عنهما:” ما فرق هؤلاء؟! يعني ما خوف هؤلاء ـ يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه” يعني إذا جاءت صفة لله إذا بهم يخافون.
أثبت كما أثبت الله لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل.
إذن أريد هنا أن أبين أن قولهم نحن السواد الأعظم هذا لا يلتفت إليه، ومن ثم فإن الحق مع من كان معه الدليل، وأيضا فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته لننظر حال الصحابة أجمعوا على ذلك.
ومن ثم فإن الأشاعرة يقولون نحن إمامنا هو أبو الحسن الأشعري، وأبو الحسن الأشعري كان معتزليا، والمعتزلة أعظم من الأشاعرة، ولذلك ظل أربعين في المذهب المعتزلي، ثم بعد ذلك تركه ورد عليهم لما رأى ما فيه من الأباطيل، ثم لما تركهم ذهب إلى مذهب الكرامية، وهو أخف من هؤلاء مع أن عندهم أباطيل، ثم انتهى به الأمر كما في كتابه الإبانة إلى معتقد أهل السنة والجماعة، فدل هذا على أن كل قول يقوله الأشاعرة في مثل هذا الزمن يكون باطلا بهذه الحجج التي ذكرناها.
الشاهد من هذا: أن الله قال {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} من نقض هذه المبايعة فإنما ينكث على نفسه، فوبال ذلك على نفسه، {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} يعني من وفى بهذا العهد وبأي عهود من العهود ولاسيما هذا العهد المذكور هنا {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ولذلك قال هنا {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ} ضم الهاء من باب التعظيم لله الذي عظم هذه المبايعة، وهناك قراءة: “ومن أوفى بما عاهد عليه” بدون ضم الهاء.
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)}
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ} يعني يا محمد إذا رجعت من صلح الحديبية انتبه سيقول لك هؤلاء هذا القول والأعراب هم الذين سكنوا البادية، {سَيَقُولُ لَكَ} وهم طائفة من هؤلاء من بعض القبائل، {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} يعني شغلتنا عن الخروج معك؛ لأنه لما خرج قالوا محمد يخرج إلى مقتله عند كفار قريش، لن يرجع من هذه السفرة، {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} وإلا لخرجنا معك، {فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} يعني استغفر لنا ما وقعنا فيه، {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}؛ لأن ما قالوه ليس نابعا عن قلب، {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}.
{قُلْ} لهؤلاء يا محمد {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} هل هناك أحد يستطيع أن يمنع عذاب الله عنكم، {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} مما تخفونه، فالله عالم به، {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
{بَلْ ظَنَنْتُمْ} وهو ظن السوء {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ} أي لن يرجع {الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} قال {أَبَدًا} دل على ماذا؟ على أنهم ظنوا ظنا سيئا فقال الله {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} زينه الشيطان، {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} يعني كنتم قوما هلكى؛ لأنكم طاوعتم الشيطان، وتركتكم الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} من لم يؤمن بالله ورسوله فهناك سعير ونار مسعرة مهيأة له.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فهو ليس بحاجة إليكم هو مالك للسموات والأرض،
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} يغفر لمن يشاء لمن وفقه الله للهداية، ويعذب من يشاء لمن خذله الله، {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} من تاب ورجع إلى الله فإن الله يغفر له ويرحمه.
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)}
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} وهم السابقون {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ}.
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} يعني اتركونا نتبعكم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وعده الله بعد صلح الحديبية أن يفتح له خيبر، فيغنم منها مغانم عظيمة، فلما رجعوا وعلم هؤلاء، وأرادوا أن يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر قالوا لنخرج معك، والله جعل مغانم خيبر فقط لمن حضر صلح الحديبية، {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} سبحان الله! في حال ما يتعلق بالعبادة إذا بهم يتعللون بهذه الأعذار، وبالظن السيء، لكن فيما يتعلق بالدنيا {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ}.
{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} الذي قال إن مغانم خيبر لمن حضر صلح الحديبية، {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} من قبل ما تقولون هذا الكلام من أن غنائم خيبر ليست لكم، وإنما لمن حضر صلح الحديبية.
{كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} انظر إلى ضيق التفكير، {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} يعني ما أردتم إلا أن تستولوا أنتم فقط على مغانم خيبر، {بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} ليس عندهم من الفقه إلا القليل الذي لا ينفع، فلا فقه عندهم، وإلا لو كانوا يفقهون لو كانوا يفقهون لما عارضوا حكم الله.
{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أولو قوة شديدة {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} يعني إما القتال، وإما أن يسلموا يعني لا تنظروا إلى المغانم يعني إن كنتم حقا مؤمنين، فإنكم ستدعون في مستقبل الأيام إلى قتال قوم ذلكم القوم هم أولو بأس أولو قوة شديدة {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} لا تنظروا إلى المغانم، وهؤلاء القوم من هم؟ اختلف المفسرون قالوا: هم هوازن الذين حصل حرب بينهم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم في حنين، وقال بعض المفسرين قال بعض الصحابة ما علمنا من أن أولي بأس شديد هم الذين يعنون في هذه الآية إلا لما أمر أبو بكر رضي الله عنه بقتال مسيلمة الكذاب، وقال بعضهم: ما علمنا من أن هؤلاء أنهم هم المعنيون إلا بعد أن دعا عمر رضي الله عنه إلى قتال فارس والروم، ومن هنا أخذ بعض علماء السنة أخذ منها صحة خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لم؟ لأن الله قال هذا الكلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فكون أبي بكر رضي الله عنه يدعوهم إلى قتال مسيلمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكون عمر رضي الله عنه يدعوهم إلى قتال فارس والروم يدل على صحة خلافة هذين الرجلين،
ولا مانع من دخول هؤلاء ثقيف، وما دعا إليه أبو بكر رضي الله عنه، وما دعا إليه عمر رضي الله عنه.
{أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا} في هذه الدعوة {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} وهو الأجر الأخروي، وأيضا لكم من الأجور الدنيوية ما يكتبه الله لكم، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} كعادتكم من قبل {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} يعني فيما يتعلق بالقتال أسقط الله الإثم عن هؤلاء {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}
وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أنهم لا ينظرون إلى مغانم الدنيا، وإنما إلى الآخرة، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ} يعني يعرض {يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} من أعرض عن دين الله يعذبه عذابا أليما.
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)}
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} رضي الله عنهم {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وهذه الشجرة قطعها عمر رضي الله عنه لما رأى الناس يترددون عليها في خلافته، وخشي أن يتبرك بها، وأن تكون وسيلة للشرك حسما لمادة الشرك.
{إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} الله علم ما في قلوبهم من الإيمان والصدق، فأنزل الله عليهم سكينته إذ اطمأنوا بها، وأيضا يدخل فيها القول الآخر علم الله ما في قلوبهم مما كان من هذا الصلح، ومن شروط لم توافق ما في قلوبهم {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} جازاهم الله فتحا قريبا ما هو هذا الفتح؟هو خيبر أو فتح مكة، لكن الذي يظهر من أنه فتح خيبر؛ لأنه أقرب من فتح مكة؛ لأنه أتى بعد صلح الحديبية.
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} مما قدرها الله لهم، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} فهو القوي عز وجل، والحكيم الذي شرع هذه المغانم.
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} هل هو صلح الحديبية أم خيبر؟ الذي يظهر {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} الذي يظهر هي مغانم خيبر، {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} يعني تلك القبائل التي كانت مؤيدة ليهود خيبر كف الله أيديها من أنها ترجع إلى المدينة، وإذا بها تفعل ما تفعل في المدينة من الفساد في أهليكم وفي أموالكم، {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} تلك التي سبقت آية مغانم خيبر والفتح تكون آية للمؤمنين ليزدادوا إيمانا، {وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} يهديكم بمعنى أنه يثبتكم على الصراط المستقيم، وأيضا تزداد الهداية من الله لكم.
{وَأُخْرَى} يعني من المغانم {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} لصعوبتها ولعظم أهلها وهل هي فارس والروم أو فتح مكة؟ بعض المفسرين قال بهذا وبهذا وبعض المفسرين: كل مغنم إلى يوم القيامة، {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} فهي في ماذا؟ في قبضة الله، وفي تصرف الله، لكنه حفظها لكم {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} لا يستعصي عليه شيء، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} سواء فيما يتعلق بفتح مكة وبما يتعلق بفتح فارس والروم.
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)}
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} يعني لو أن الذين كفروا قاتلوكم لولوا الأدبار بمعنى أنهم ينهزمون، {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} لا يجدون أحدا يتولاهم، فينصرهم، ولا أنه يدفع عنهم ما يضرهم.
{سُنَّةَ اللَّهِ} يعني سن الله سنة من أنه سينصر أولياءه، وأن أعداءه يولون الأدبار، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} يعني مضت من قبل في الأمم السابقة {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} أي لن تبدل.
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية لما كان ماكثا فيها أتى بعض كفار قريش من أجل أن يفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فقبض عليهم عليه الصلاة والسلام، ثم تركهم عليه الصلاة والسلام، فقال الله {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} يعني من بعد ما استوليتم عليهم، {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} فلا يخفى عز وجل عليه شيء من أعمالكم ولا من أعمالهم.
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقدم ما يتعلق بالكفر من باب ماذا؟ من باب تقبيح فعل هؤلاء، ومن باب أن المسلمين يبغضون هؤلاء، {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} صدوا الناس عن دين الله، {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} بمعنى أنهم صدوا الهدي الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من أن يبلغ محله، وهو أن يذبح في الحرم {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا} يعني أنه محبوس {مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ} يعني أن تطؤهم بقتل، {أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ} يعني أن الإثم يصيبكم، أو أن العيب من الكفار يصيبكم، وذلك أن هؤلاء وهم المستضعفون من الرجال والنساء يقول الله: لولا هؤلاء لسلطكم الله على كفار قريش، لكن خيفة من أن تصيبوا هؤلاء الضعفاء من الرجال والنساء بقتل وما شابه ذلك، فتقعوا في الإثم، أو أن كفار قريش يعيبونكم بأنكم قتلتم من هم على دينكم، {أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ} يعني إذا سلطكم الله عليهم، {أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} يعني أنكم لا تعرفون هؤلاء، ولا تميزونهم، {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} مع ذلك لم يسلطكم عليهم، {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} من هؤلاء المستضعفين، وأيضا من كفار قريش، ليؤمن من يؤمن ممن كتب الله له الإيمان، {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا} يعني لو أنهم تميزوا عن هؤلاء المستضعفين {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} هذا حال هؤلاء الكفار {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني من الذي جعل الكفار؟ جعلوا ماذا؟ وهذا نسبة الشيء إليهم من باب التقبيح بهم، وإلا فما يقع شيء في هذا الكون إلا بقدر من الله، {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} يعني التعصب للحمية الجاهلية، لأنهم لما أرادوا أن يكتبوا شروط الصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “اكتب باسم الله الرحمن الرحيم، قالوا ما نعرف الرحمن، اكتب باسمك اللهم، ولما قال محمد رسول الله، قالوا لو أنك رسول ما كذبناك ولا قاتلناك” {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} يعني مع ذلك كله مما كان من شروط {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} وانظر هنا من الذي أنزل السكينة؟ هو الله من باب التمييز بين حال هؤلاء، وحال هؤلاء، {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} يعني أمرهم بأن يلتزموا كلمة التقوى، وأن يعملوا بها، وكلمة التقوى هي كلمة ” لا إله إلا الله” كلمة التوحيد، وأضيفت إلى التقوى باعتبار ماذا؟ باعتبار أنه لا تقوى إلا بالتوحيد، وأيضا التقوى تقوي التوحيد، {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} يعني أجدر بها من هؤلاء، {وَأَهْلَهَا} يعني كانوا هم أهل هذه الكلمة، لأنهم عملوا بها، {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} فلا يخفى عز وجل عليه شيء من أحوال هؤلاء، ولا من أحوال هؤلاء، وعلم الله أن قلوب أهل الإيمان هي القلوب الصادقة، فأنزل الله عليها سكينته.
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا من أنه سيذهب إلى مكة، وأنه سيعتمر، ومن ثم أخبر الصحابة رضي الله عنهم، فخرجوا في السنة السادسة من الهجرة، وهي ما يسمى هنا بعمرة الحديبية، لكنهم صرفوا عن ذلك بما حصل من الصلح، ولذلك تعجب بعضهم أين تلك الرؤيا؟ لم تتحقق مع أننا خرجنا من المدينة إلى مكة!، فقال تعالى {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} يعني ما رأه النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق، والله عز وجل صادق فيما وعد به نبيه صلى الله عليه وسلم، {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} ما هي الرؤيا؟ {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} يعني حالة كونكم آمنين {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} قال {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} نسب الحلق إلى أنفسهم يعني أنهم يوكلون شخصا أن يحلق لهم، فدل هذا على أن أعمال الوكيل هي أعمال للموكل، {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} يعني منكم من يحلق رأسه، ومنكم من يقصر رأسه، ولذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين بالمغفرة ثلاثا، وللمقصرين مرة، ومن ثم فإن هذا الوعد من الله لم يحدد عز وجل هذه السنة وهي السنة السادسة من الهجرة، ومع ذلك فإن الله عز وجل حقق وعده لهؤلاء، ومن بين الشروط في صلح الحديبية أنهم لا يدخلون مكة هذه السنة، وإنما يأتون في العام المقبل، وهو وفي السنة السابعة بالهجرة، وتسمى بعمرة القضاء، ومع ذلك تحقق ما وعد الله به نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام.
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} لماذا قال {إِنْ شَاءَ اللَّهُ}؟ قال {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} من باب التحقيق بمعنى أن هذا شيء محقق واقع بمشيئة الله عز وجل، وليس معنى أنه من باب التعليق لا، وإنما المقصود من باب التحقيق، ولذلك بعض المفسرين قال: إن المشيئة ترجع إلى الأمن، وقال بعضهم ترجع إلى دخول بعضهم، وعلى كل حال لا حاجة لهذا، فإن الآية واضحة، وأفظع من ذلك أن الزمخشري قال إن كلمة {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} ليست من كلام الله، وإنما هي من كلام الملك، أو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بناء على معتقده الفاسد؛ لأن معقتده معتقد المعتزلة؛ لأنهم يقولون إن القرآن مخلوق، ومن ثم فإنه يلزم على كلامه أن في القرآن ما هو زائد أتى به من؟ إما الملك وإما النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه لا يرى أن الله يشاء ما يفعله العبد، بل يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه، وكل هذا الكلام ليس بكلام صحيح، ففرق بين تعليق المشيئة، وبين تحقيق المشيئة هنا قال {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} تحقيقا يعني أنها ستحقق؛ لأن الله شاء ذلك كما في الدعاء دعاء المقابر: ” وإنا إن شاء الله بكم لاحقون” مع أننا سنلحق الموتى؛ لأن الموت لا مفر منه، ومن ثم فإن ما يذكر عن شيخ الإسلام من أنه لما قاتل التتر، واجتمعوا وإذا به يحرض المؤمنين على قتال التتر الذين أفسدوا في تلك العصور، لما قال لهم قال إنكم ستنصرون، فقال بعض من حضر: قل إن شاء الله، فقال رحمه الله: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا، فإنه رحمه الله حسن ظنه بالله، حتى ما يذكر من أنه قال: إن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ كل ذلك من باب حسن الظن بالله، لم؟ لأنه يعلم من أن الله وعد أن ينصر أولياءه في القرآن، وهذا القرآن هو في اللوح المحفوظ، وأيضا هو كان يذهب إلى الناس، ويتفقد أحوالهم، ولما رأى أن الناس قد ازداد الإيمان في قلوبهم، وأنه متى ما ازداد الإيمان في قلوبهم، فإن الله ناصر أولياءه بناء على ما وعد الله به من نصر أوليائه، ومن هزيمة أعدائه، ومن ثم فإنه لا مدخل للصوفية وأشباه هؤلاء ممن يقولون متعللين بكلام شيخ الإسلام فالمقصود من ذلك أن وعد الله واقع ومتحقق وذلك نصرة لأوليائه، فقالها رحمة الله من باب حسن الظن بالله.
{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ثم قال {لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} يعني ذلكم الصلح الذي حصل ولم يرتضيه بعض الصحابة مما فيه من شروط {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} يعني جعل من دون ذلك يعني من دون ذلك من هذا الصلح، وما يترتب عليه من غنائم خيبر فتحا جعل فتحا قريبا، وهذا يدل على أن الإنسان قد يكره الشيء وإذا في مضامينه خيرات عظيمة، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فكره بعض الصحابة هذا الصلح بناء على هذه الشروط الجائرة، وبعد ذلك اطمأنت قلوبهم لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} {بِالْهُدَى} يعني بالعلم النافع {وَدِينِ الْحَقِّ} يعني بالعمل الصالح، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} يظهر الله هذا الدين على الأديان كلها، وقد مر معنا تفصيل لهذه الآية بأوسع من هذا في سورة التوبة، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} فهو الذي يشهد لي بصدقي وصدق ما جئت به، وسيحكم الله بيني وبينكم، ثم قال مبينا صفات النبي صلى الله عليه وسلم ومناقب أصحابه:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} وهنا تقف إذن {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} أخبر بأنه رسول الله، {وَالَّذِينَ مَعَهُ} يعني من كان معه من الصحابة {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} لكن لم يكتف بذلك، وإنما قال {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فدل هذا على أنهم جمعوا بين الشدة والغلظة على أعداء الله، وبين الرحمة للمؤمنين كما قال تعالى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}
{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} يعني أن أحوالهم بين الركوع والسجود مما يدل على ماذا؟ على محافظتهم على الصلاة، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} لا يريدون بذلك حظا من حظوظ الدينا، {يَبْتَغُونَ} يعني يطلبون {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} يطلبون فضل الله وأن يكون في الآخرة من الجنة والرضوان؛ لأن الرضوان أعظم من ذلك، كما قال تعالى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}
{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} يعني العلامات على وجوههم ماذا بينة وواضحة من أثر السجود، ونص على السجود؛ لأنه أعظم أركان الصلاة؛ لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد كما في صحيح مسلم، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} ليس المقصود تلك البقعة التي تكون على الوجه كلا، وإنما المقصود من ذلك {سِيمَاهُمْ} يعني العلامة علامة العبادة من الخشوع ومن السكينة ومن الخضوع لله، ومن نور الوجه في وجوههم {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}.
{ذَلِكَ} يعني ما ذكر من الصفات {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} أما مثلهم في الإنجيل {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} مكتوب في الإنجيل مثل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أخرج فروعه {فَآَزَرَهُ} يعني تلك الفروع قوَّت الأصل{فَاسْتَغْلَظَ} يعني اشتد {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} يعني على أصوله.
{فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} يعني أن هذا الزرع بعد خروج الفروع وتقويته للأصول، وإذا به يقوم ويشتد يعجب الزراع، يعني أن الزراع يعجبون بذلك، {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ليغيظ بهم الكفار، وهذا شأن من؟ شأن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم بدأوا ضعفاء، وإذا ببعضهم يسلم وهكذا وهكذا، فازداد الصحابة، فأصبحوا ماذا؟ كالجسد الواحد، قال عليه الصلاة والسلام: ” مثل المؤمنين في تواده وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الحسد بالحمى والسهر” كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} يعني أن ذلكم الاجتماع، وتلك الوحدة تغيظ من؟ تغيظ الكفار، ومن ثم من هذه الآية أخذ الإمام مالك من أن الرافضة كفار قال: لأنهم يبغضون صحابة النبي صلى الله عليه وسلم والله يقول هنا {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فكل من أغاظه الصحابة، وسب الصحابة، وكره الصحابة فإن الآية تصدق عليه؛ لأن الآية واضحة {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، وهذا هو التوضيح الصحيح لهذه الآية، وبعض المفسرين يقول إن تلك الصفات كلها في ماذا؟ في التوراة والإنجيل يعني ليست صفتهم صفة في التوراة، أو صفة في الإنجيل، بل إنها صفة واحدة في التوراة والإنجيل، لكن ما ذكرناه هو الصحيح.
فقال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} مغفرة الذنوب لزوال المكروه، والأجر العظيم دخول الجنة، وهو حصول المطلوب، لكن قال هنا {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} يعني هل من بعضهم؟ قال بعض المفسرين: نعم من بعضهم حتى يخرج المنافقون الذين أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر، والصحيح أن كلمة {مِنْهُمْ} للبيان يعني {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} يعني كلهم ومن جنسهم حتى إلى قيام الساعة، حتى إلى قيام الساعة فله هذا الأجر كما قال تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} ليس بعض القرآن، بل كل القرآن، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}…
وبهذا ينتهي تفسير سورة الفتح……….