بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الفرقان من الآية 1 إلى الآية 20
لفضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الفرقان من السور المكية
قال تعالى :
{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (1(
{ تَبَارَكَ } مر معنا كثيرا، و تبارك بمعنى: كَثُرَ خيرهُ و كثرت بركاتهُ و استقرت و ثبتت.
وتبارك ما سلف لا يطلق إلا على الله عز وجل ما يطلق على المخلوق
{ تَبَارَكَ الَّذِي} وأتى باسم الموصول { الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ } من باب تعظيم الله عز وجل
{ نَزَّلَ} من باب أن القرآن منزل على حسب الوقائع و الأحداث
{الفرقان} وهو القرآن لأنه فارِق بين الحق وبين الباطل
{ عَلَى عَبْدِهِ } محمد ﷺ وَوُصِفَ بالعبودية هنا في مقام تنزيل القرآن.
ولذلك في سورة الكهف: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا } (1الكهف(
هنا قال: { تَبَارَكَ } هناك في سورة الكهف حَمِدَ نفسَهُ، فهناك ذكر الكتاب وهنا ذكر الفرقان؛ على عبده، لماذا؟ { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } أي: لينذر العالمين،
والعالمون في قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الفاتحة 2( كل ما سوى الله فهو عالم،
لكن المقصود هنا: يعني الإنس والجن
دل هذا على أن العالمين قد تطلق ويراد بها جنس مخصوص، هنا للعالمين يعني الإنس والجن.
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } (2)
{ الَّذِي لَهُ } من صفاته عز وجل { له مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وهذا يدل على أنه يستحق العبودية وحده عز وجل { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } كما يقول أولئك الكفار ولذلك قال تعالى:
{ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا } (الأنبياء – 17 ).
وفيه رد على النصارى واليهود وكفار قريش
{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } لم يشاركه أحد في مُلكهِ عز وجل فلهُ المُلك كُله، و لذلك قال تعالى في أواخر سورة الإسراء:
{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } فقال عز وجل هنا:
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } فكيف يكون لهُ ولد وقد خلق كل شيء!؟
{ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } خلق كل مخلوق وقدَّر لهُ ما يشاء وهداهُ إليه ممن يناسبُهُ كما مرّ معنا تفسير ذلك في قولهِ تعالى: { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ (49(قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} [طه:50]
{ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرً} على أحسن التقادير { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (سورة القمر – 49(.
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا } (3(
مع ذلك كله انظر إلى هؤلاء و تعجب من حالهم: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا } هذا هو الأمر الأول: { لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا } كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} ( سورة الحج – 73 )
{وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ } فكيف يملكون لغيرهم؟!
{ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا } لا يملكون إماتة أحد، ولا إحياء أحد ولا على البعث و النشور، فدل هذا على أن الذي خلق كل شيء و الذي يملك الضُر والنفع والذي يُحيي و يُميت ويبعث الخلق هو الله الذي يستحق العبودية، لا هذه الآلهة التي عبدوها من دون الله عز وجل.
{ وَقَال الَّذِينَ كفرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا } (4(
لما جعلوا مع الله شريكًا في حقهِ ذكر حالهم فيما يتعلق بالقرآن الذي هو كلام الله:
{ وَقَال الَّذِينَ كفرُوا} وصرح بأنهم كفروا { إِنْ هَذَا } يعني: القرآن أي ما هذا
{ إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ } يعني: أشد الكذب، {افتراه} اختلقه محمد ﷺ
{ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } أعانوه، كما قال الله عز وجل كما مرّ معنا تفسيرهُ في قوله عز وجل:
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [النحل:103] قالوا إنه يتعلم من رجل أعجمي كان يقرأ الكتب السابقة فقال عز وجل هنا عن هؤلاء:
{وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ } يعني: ساندهُ وعاونهُ وظاهرَهُ على القرآن {قَوْمٌ آخَرُونَ } فحكم الله عليهم بقوله:
{ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} كلامُهم هذا ظلم و زور وهو الميل عن الحق الذي يتضمن الكذب والافتراء، بل ما قالوه هو الكذب والافتراء وليس هذا القرآن مفترًى من قِبَل محمد، و لذلك قال عز وجل:
{ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس:15] انظر إلى تشتت هؤلاء وإلى عدم ثباتهم، يقولون هو إفكٌ افتراهُ محمد و مع ذلك يقولون لمحمد لتفتري لنا قرآن غير هذا القرآن:
{ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ } [يونس:15]، فقال عز وجل هنا: { فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا}.
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } (5(
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} يعني: أكاذيب وقَصَص وخرافات الأولين، حَكموا على القرآن بهذا الأمر نعوذ بالله من حالهم، { اكْتَتَبَهَا} مَن؟ محمد، هو لا يكتب لكن مقصودهم يعني: أمر أحدًا بكتابتها
{فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} يعني: أمر بكتابتها وأمر بأن يقرأها عليه غيرهُ
{ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} يعني في أول النهار وفي آخر النهار، ولذلك محمد يأتي إليكم بالقرآن في أول النهار وفي آخره بسبب ماذا كما زعموا؟! من أنه كما ذكر عز وجل عن هؤلاء:
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}
{ وَأَصِيلًا } والأصيل من العصر كما مرّ معنا.
{ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } (6(
قل يا محمد لهؤلاء { قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ } أي: ما خفي، وهو يعلم ما ظهر، و السر هنا: الغيب
{فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} سبحان الله! مع ذلك كله أمرهم بأن يتوبوا إليه فإن تابوا إليه غفر لهم ورحمهم، ولذلك قال عز وجل لما قالوا في عيسى من أنه هو الله وقالوا ثالث ثلاثة:
{ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة:74]
و كذلك في سورة البروج عرض عليهم التوبة، يعني فعلوا بعباده ما فعلوا ومع ذلك قال:
{وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7 ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}
{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } (7(
{ وَقَالُوا} متعجبين { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} لماذا لم يكن مَلكَاً؟ كيف يمشي في الأسواق ويأكل الطعام؟! ولذلك قال تعالى كما مرّ معنا تفسيرُهُ:
{ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } [الأنبياء:8]، وهذه حجتهم و لذلك في قصة هود عليه السلام: { مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } [المؤمنون:33] فقال هنا: { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} يمشي في الأسواق للبحث عن الرزق { لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } ليساعده على الرسالة و ليشهد بصدقه.
{ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا } (8(
{ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ } الكنز هو المال المدفون الذي لا تعب ولا مشقة في جمعه يكون بعضه على بعض
{أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ } يعني بستان { يَأْكُلُ مِنْهَا } بدل أن يذهب إلى الأسواق
{ وَقَالَ الظَّالِمُونَ } ولم يقل (وقالوا)، صرَّح بظلمهم لأن هؤلاء ظلمة {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} (4(
{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} أي ما تتبعون إلا رجلًا قد سُحِرَ وخُدِعَ فهو مسحور.
{ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا } (9(
{ انْظُر} يا محمد وتأمل وتعجب لحال هؤلاء { كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ } مرة يقولون سحر! ومرة يقولون جن! ومرة يقولون شعر! وما شابه ذلك
{فَضَلُّوا} ضلوا عن الطريق الصحيح المستقيم
{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} لا يتوصلون إلى الطريق الصحيح للدين، لأنهم قالوا في النبي ﷺ ما قالوه،
وقالوا في هذا القرآن الذي أنزله ما قالوه فأين الطريق لهم إلى الحق؟!
{ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} ومن ضل عن طريق الحق ضل عن مصالحهِ الدنيوية.
{ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } (10(
{ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ} تبارك كما في أول السورة { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}
يعني” كما تبارك عز وجل ونزّل القرآن عليك هو قادرٌ وتبارك خيرهُ على أن يجعل لك خيرًا من ما اقترحهُ هؤلاء من البساتين وما شابه ذلك
{ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ } يعني هو عز وجل إن شاء أعطاك من هذه الدنيا وإن شاء لم يعطكَ، ولذلك خُيِّرَ النبي ﷺ ومع ذلك هو ﷺ أراد أن يكون طعامهُ على كَفاف،
أما في الآخرة فاليقين من أنه ﷺ أعطي خير الآخرة.
فقال هنا: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ } يعني مما يقولونهُ { جَنَّاتٍ } يعني بساتين ما هو جنة واحدة، وصفتها: { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } يعني منازل عالية و فخمة.
{ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا(11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا(12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا(13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا(14) }
حال هؤلاء هم يعرفون صدقك لكن هؤلاء طُغاة و أصحابُ عناد { بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ } فلم يؤمنوا بها {وَأَعْتَدْنَا } هيئنا { لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} أي أعد لهم نارًا مستعرة.
{ إِذَا رَأَتْهُمْ } يعني النار دل هذ ا -وهذا هو القول الصحيح- أن النار تراهم، فالله يجعل لها إدراكًا و لذلك قال ﷺ كما ثبت: ” اشتكت النارُ إلى ربها قالت رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فنفسني فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَس فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَس فِي الصَّيْفِ ” الحديث، دل على أن لها إدراكًا
{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} التغيظ يعني شدة الغضب من الغيظ الذي فيها، {وَزَفِيرًا} يعني: الصوت الذي يمتلئ به الصدر فيُحدث صوتاً، وهذا يدل على شدة العذاب الذي سيحل بهم هذا بمجرد رؤيتها لهم.
{وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا} يعني من جهنم { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ } دل هذا على أنهم يقرنون بالأغلال في أيديهم مع أعناقهم، يقيدون أيضًا بأجناسهم من شياطين الإنس و الجن.
{ وَإِذَا أُلْقُوا} يعني أنهم يُدفعون و لذلك ماذا قال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [طه:13]
ويلقون فيها، دل على أن في النار أماكن ضيقة { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} الثبور: الهلاك، يدعون بالهلاك لأن الهلاك أرحم لهم من هذا العذاب {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [الزخرف:77]
{لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} لأن هذا العذاب عذاب عظيم قال تعالى:
{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ } ([الأعلى:13]
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا}[فاطر:36]
{ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا(15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16(}
{ قُلْ} يا محمد لهؤلاء { أَذَلِكَ خَيْرٌ } أي هذا الذي أنتم فيه وما ستلاقونهُ يوم القيامة من هذا العذاب
{أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ } كلمة خير هنا لا يدل على أن ما مضى فيه خير لأن (أفعل) هنا التفضيل ليست على بابها، وإنما هذا من باب التبكيت والتحقير لهؤلاء، لأنه لا خير فيما مضى وهم يدعون بالويل والثبور فقال هنا { قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} هذا جزاء أهل التقى و هذا هو المصير لهم.
{لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16(}
{ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ}، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] {خَالِدِينَ} يعني أنهم دائمون فيها {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا} وعد الله وأوجبهُ على نفسه تفضلًا منه عز وجل
{مَسْئُولًا} يعني أن أهل التقى في هذه الدنيا يسألون الله هذا الوعد:
{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [آل عمران:194]
وأيضًا من مزاياهم أن الملائكة تدعو لهم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ} [غافر:8]
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ(17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا(18) }
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} يعني: واذكر حال هؤلاء يوم يحشرهم الله عز وجل في يوم القيامة
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } المقصود هنا الأولياء الصالحين من الأنبياء وشَبَهِ هؤلاء الذين عُبِدوا من دون الله كما عُبد عيسى عليه السلام
{فَيَقُولُ} يعني: يقول اللهُ عز وجل لهؤلاء الصالحين { أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} إذ أمرتموهم بعبادتكم من دوني { أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ } أم هم ضلوا السبيل والطريق طريق الحق!؟
{قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا(18) }
{قالوا سبحانك} نزَّهُوا الله عز وجل عما لا يليق به
ولذلك الملائكة { قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم ۖ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } [سبأ:41]
فقال هنا عن هؤلاء: { قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} فنحن نعبدك يا الله {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ } فتحتَ عليهم من النعم هم وآباؤهم
{حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} نسوا ما فيه ذكرُهم وشرفُهم وهدايتهم وهو القرآن
{ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } يعني هلكى، ولذلك قال عز وجل في سورة الأنبياء:
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا ۚ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ} { بَلْ مَتَّعْنَا هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء:43]
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا } (19(
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} يقول الله عز وجل لهؤلاء المشركين لقد كذبكم هؤلاء الأولياء
{فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا} يعني أن تصرِفوا عذاب الله عنكم { وَلَا نَصْرًا } ولا أحد ينصركم
{وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا } ومن يظلم منكم بأن يشرك بالله عز وجل { نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}
ولذلك قال عز وجل: { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف:102]
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } (20(
تسلية للنبي ﷺ لأنهم قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} (7) فقال عز وجل:
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} كما قال تعالى:
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء:8]
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ} يا محمد { لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا } فحالكُ كحالهم { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } يعني اختبار وابتلاء، من ذلك:
أنَّ وجودك يا محمد ابتلاء لهؤلاء إذ قالوا كيف يوحى إليه من غيرنا لمَ لم يوحَ إلينا؟
أيضًا جعل الله عز وجل الغني فتنة للفقير والعكس، لأن الغني يُفتن بالفقير لأن الله أعطاه المال فهل يعطي هذا الفقير أم لا، حتى يشكر الله.
والفقير كذلك العكس، يعني معنى أن الفقير إذا رأى ما في يدِ الغني من أموال هل يصبر أو لا؟
{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} وهذا شامل يعني من أُعطِيَ الأولاد من لم يُعطَ الأولاد، من كان عقيمًا من ليس بعقيم
{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}
{أتصبرون} الاستفهام هنا للأمر، يعني اصبروا كما قال تعالى: { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة:91] يعني: انتهوا؛ { فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80 ] يعني: اشكروا.
{وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} مطلعٌ على كل شيء، يعلم من هو الصابر مِن غير الصابر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ