تفسير سورة ( القلم ) الدرس ( 255 )

تفسير سورة ( القلم ) الدرس ( 255 )

مشاهدات: 438

تفسير سورة ( القلم )

الدرس (255 )

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــ

نشرع بعون من الله في تفسير سورة القلم  وهي من السور المكية

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6)}

{ ن } هذا من الحروف المقطعة، وقد مر معنا توضيحه في أول سورة البقرة، وأما ما يذكره بعض المفسرين من أن ” نون” باعتبار ما ذكروه من أنه حوت تحت الأرض،  وأن الأرض تحمل هذا الحوت إلى غير ذلك من هذه الآثار التي  تشبه هذا الأثر، فإنه لا دليل عليه، وإنما أخذت من بني إسرائيل، ولذا قال شيخ الإسلام: ” إن بعض السلف قد أخذ من بني إسرائيل من باب حسن الظن بهم، وذلك كحال كعب الأحبار، وما شابه هؤلاء، ومن باب حسن الظن بهم أخذوا ذلك استنادا إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: ” حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج” ولكن يجب أن يتأمل فيما ذكره بنو إسرائيل هل يوافق شرعنا أم أنه يخالف؟ وهل دل عليه دليل؟ ولا سيما في مثل هذه المسائل. ومن ثم فإن هناك أثرا من أن ” نون ” أداوة، وهذا الأثر لا يصح عنه عليه الصلاة والسلام.. خلاصة القول أن { ن } من الحروف المقطعة.

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} أقسم بالقلم، وهل هذا القلم هو القلم الذي أمر الله لما قال النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه:” أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، قال فماذا أكتب؟ قال اكتب مقادير كل شيء” قيل بهذا، والصواب أن المقصود من القلم هو جنس القلم، فكل قلم يكتب به سواء كان هذا القلم أو القلم الذي نكتب به، فإنه شامل، {وَمَا يَسْطُرُونَ} يعني وما يكتبون أي ما تكتبه الملائكة، وما يكتبه البشر.

{وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } أقسم بذلك من أن محمدا عليه الصلاة والسلام ليس بمجنون كما ادعته كفار قريش، ولذا قال { مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } يعني لست مجنونا كما قالوا؛ لأن الله أنعم عليك بهذه النعم، فكيف تكون مجنونا، ولذا قال تعالى { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ }

{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا } يعني ثوابا {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ } يعني غير  منقطع، وغير منقوص. 

{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } يعني أن النبي عليه الصلاة والسلام على خلق عظيم، ولذلك ” لما سئلت عائشة رضي الله عنها ـ كما ثبت ـ عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام فقالت أتقرا القرآن؟ قال نعم قالت كان خلقه القرآن”

ولذا قال {وَإِنَّكَ لَعَلى} أتى بكلمة على باعتبار ماذا؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ في كل خصلة من خصال الأخلاق أعظمها صلوات ربي وسلامه عليه، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } فكيف تكون مجنونا كما زعم هؤلاء؟!

{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } يعني فستنتظر وينتظرون عاقبتك وعاقبتهم، فقال الله بعد ذلك {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ } أي من هو أحد الفريقين الذي هو مفتون يعني أنه فتن فأصيب بالجنون.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) }

{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } وهذا فيه ماذا؟ بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الهدى، وهم على الضلال، فالله عالم بحاله، وعالم بحالهم وعالم بكل أحوال الخلق من اهتدى، ممن ضل.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } ثم قال عز وجل {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } يعني هؤلاء كذبة {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} هم يتمنون أنك تعبد آلهتهم وأنهم يعبودون إلهك {وَدُّوا } يعني لو أنك تلين لهم فإنهم سيلينون معك {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} وهنا { فَيُدْهِنُونَ } مرفوعة ولم تنصب قبل التمني باعتبار ماذا؟ أن الفاء هنا ليست للسببية، وإنما هي  عاطفة يعني فهم يدهنون كما مر معنا توضيح ذلك في سورة النساء { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً }

{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ } هنا ذكر صنفا من هؤلاء المكذبين، وقد ذكر من أنه هو الوليد بن المغيرة، وسواء قيل به أو بغيره فالآية عامة، فقال الله {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } بمعنى أنه كثير الحلف { مَهِينٍ } يعني أنه محتقر وذليل.

{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ } يعني أنه يعيب الناس، ويطعن فيهم { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } يعني أنه يمشي بالنميمة ولاسيما فيما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه كان يعيبه ويطعن فيه، وكان يفرق بينه وبين من أراد الإيمان به، فقال تعالى {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ } يعني أنه يمنع الخير{ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ } يعني أنه تجاوز الحد على الغير {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } يعني أنه صاحب إثم عظيم يعمل الآثام، {عُتُلٍّ } يعني أنه غليظ وجاف، {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } {بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } يعني مع تلك الصفات فهو زنيم يعني أنه دعي انتسب والتصق بغير قبيلته مما يدل على عدم شرفه، وكذلك قال بعض المفسرين، ويدخل في ذلك من أن كلمة {زَنِيمٍ } مثل ما يكون من الزنمة في الشاة إذ إنها تخرج في الجلد، فهي  مميزة يعني أنها ظاهرة باعتبار أن هذا الرجل ظاهر في ماذا؟ في الكفر وفي العناد {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } يعني لا تطعه لأنه كان ذا مال وبنين، أو يحتمل وهو الاحتمال الآخر، وهو الأقرب عندي {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} يعني من أجل أن الله أعطاه المال والبنين ماذا صنع؟ كذب بآيات الله ، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا } يعني آيات القرآن، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } يعني أكاذيب وقصص الأولين، فدل هذا على ماذا؟ على أنه لما أنعم الله عليه كفر كما قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } إلى غير ذلك من الآيات، {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} سنجعل له علامة على أنفه، ولذلك وصف الأنف بأنه خرطوم من باب التشنيع به كخرطوم الفيل، وأيضا لأن الإنسان إذا وضعت عليه علامة في وجهه فإنها تكون عيبا، فكيف إذا كانت على أنفه، ولذلك قال المفسرون جعل الله له علامة في إحدى الغزوات ضرب على أنفه، فأصبحت علامة له {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} لأن كلمة {سَنَسِمُه} يعني من أننا نضع عليه علامة.

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) }

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ } يعني كفار قريش يعني اختبرناهم بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم فهل يشكرون أم يكفرون؟

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } {كَمَا بَلَوْنَا } يعني اختبرنا أصحاب الجنة، وهذه الجنة ذكر بعض المفسرين من أنهم أهل ضروان قريبة من صنعاء، وعلى كل حال هذا ما ذكروه، ولم أر دليل صحيحا على ذلك، وإنما هذه القرية معروفة عند كفار قريش، فقال الله {كَمَا بَلَوْنَا } يعني اختبرنا {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا } يعني حلفوا {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } يعني أنهم يأتون في الصباح، ويأخذون الصارم بمعنى أنهم يقطعون ثمارها، {وَلَا يَسْتَثْنُونَ } يعني ولا يستثنون نصيب الفقراء، وقيل {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} يعني في حلفهم، {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ } {طَائِفٌ } هنا نكرة باعتبار أنه عذاب عظيم نزل من الله على جنتهم {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) } يعني  كالشيء المصروم الذي اسود كسواد الليل، {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ } نادى بعضهم بعضا لما استيقظوا من النوم، {أَنِ اغْدُوا } يعني يقول بعضهم لبعض وهنا { أَنِ } تفسيرية لأن المناداة تتضمن معنى القول، ولا تتضمن حروفه، فقال الله عن هؤلاء { أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ } يعني على زرعكم {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ } صارمين لتلك الثمار.

{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } يعني أن بعضهم يسر الكلام للآخر، {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} يتخافتون ويسرون بماذا؟ {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} يعني من أن المسكين سيمنع وقالوا {مِسْكِينٌ } باعتبار ماذا؟ أنهم سيمنعون من هو أكثر من المسكين، وإذا منعوهم في هذا اليوم فإنهم سيمنعونهم في مستقبل الأيام

{وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ } {وَغَدَوْا } يعني في أول الصباح { عَلَى حَرْدٍ} يعني على منعة وعلى غضب من الفقراء، {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ } يعني على منعة وعلى قوة وعلى غضب {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ } يعني قادرين على أن يصرموا جنتهم، {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ } يعني قد أضللنا الطريق، فهذه الجنة ليست جنتنا فقال الله عن هؤلاء {إِنَّا لَضَالُّونَ } ثم تبين لهم من أنها جنتهم، ولذلك قالوا {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } حرمنا من خير هذه الجنة، {قَالَ أَوْسَطُهُمْ } يعني من هو خيرهم، وليس المقصود السن {قَالَ أَوْسَطُهُمْ } وهذا يدل على ماذا؟ على أن الكل لم يكونوا متفقين على ذلك، بل إن واحدا منهم كان يمانع ذلك {قَالَ أَوْسَطُهُمْ } يعني أخيرهم { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } يعني لولا تسبحون الله وتنزهون الله، ويتضمن ذلك التوبة كما قال المفسرون، ويتمضن التوبة مما عزمتم عليه من منع الفقراء، وقال بعض المفسرين من أنه قال {لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } يعني لولا تستثنون، وهذا وإن كان لا بأس بدخوله لكن ما ذكرناه في القول الأول  هو أظهر، فقال الله عن هذا الرجل { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) } سبحوا الله { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } ووصفوا أنفسهم بالظلم.

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} يعني يلوم بعضهم بعضا لماذا قلت لنا كذا وكذا، يقول الآخر له كذلك {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ}.

{قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} نادوا بالويل يعني بالهلاك {إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } تجاوزنا الحد، فمنعنا الفقراء  { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) } سألوا الله أن يبدلهم خيرا من جنتهم، ولذلك ختموا الآية بقولهم {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } يعني نحن راغبون وراجعون إلى ما عند الله، ولا نرغب إلا إلى الله، فدل هذا على أن الرغبة لا تكون إلا لله، ولذلك ماذا قال الله { سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } وكما قال تعالى {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } وهل أبدلهم الله شيئا من ذلك؟ بعض المفسرين توقف في ذلك، وبعضهم قال لعل كلامهم هذا قد أبدلهم الله بجنة غير هذه الجنة، والصحيح أننا نقف عند ما وقف عنده القرآن، ولا ندخل في ذلك إلا بدليل صحيح صريح.

{كَذَلِكَ الْعَذَابُ } يعني مثل هذا العذاب الذي نزل بتلك الجنة لهؤلاء  ننزله على كفار قريش ممن كذب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك لو رجعنا إلى أول السورة {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } وقال {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } فقال الله {كَذَلِكَ الْعَذَابُ } هذا عذاب في الدينا، {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ } أكبر من عذاب الدنيا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } لو كانوا يعلمون ما كذبوا رسول الله، وكذلك أولئك لو كانوا يعلمون خطورة منع الفقراء ما منعوا الفقراء.

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) }

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } هذا هو ثواب المتقين إذا رجعوا إلى الله {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } يتنعمون فيها {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} لأن كفار قريش يقولون لو بعثنا على افتراض أننا نبعث فإننا إن لم نكن أفضل فإننا وأنتم سواء فقال الله {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} أي ما هذا الحكم؟ وهذا استفهام إنكاري ما هذا الحكم الذي لا حجة لكم به. ما لكم كيف  تحكمون {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ } هل لكم كتاب درستم فيه، وقرأتم فيه أن لكم مثل ما للمتقين {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) } يعني تختارون ما تشاؤونه، ومن ذلك ما قلتم في هذا الكلام {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } هل لكم أيمان يعني هل أعطيناكم عهودا موثقة تلك العهود الموثقة بلغت أعلى توثيقها من أنها ممتدة إلى يوم القيامة من حيث التوثيق {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } من أن لكم ما تحكمون؟ الجواب لا، {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ } الذي يكون أحدهم من هو كفيل لهم بهذا الحكم يوم القيامة {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } هل لهم شركاء يعبدونهم من دون الله فحكموا لهم بهذا الحكم {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ }

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } ومن ثم فإن الله نفى  أن يكون لهم ماذا؟ أن يكون لهم كتابا يشهد لهم بهذا، وأيضا نفى أن يكون لهم شركاء يحكمون بذلك إنما هي عادة آبائهم، وكذلك نفى أن يكون لهم أيمان وعهود موثقة لهم، وكذلك نفى أن يكون لهم من يتزعم لهم ذلك، ويكون كفيلا لهم بذلك.

{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)}

{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} وذلك في يوم القيامة {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} وهنا قال {عَنْ سَاقٍ} ولذا في صحيح البخاري قال النبي عليه الصلاة والسلام:” يوم يكشف الله عن ساقه فيسجد له المؤمنون، أما من كان يسجد رياء وسمعة فإن ظهره يكون صلبا فلا يستطيع أن يسجد” ، ومن ثم فإن هذه الآية تدل بدلالة الحديث  الذي في صحيح البخاري من أن لله ساقا يليق بجلاله وبعظمته، لكن لو قال قائل جاء عن بعض السلف من أنهم قالوا {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} يعني عن شدة وعن كرب؛ لأن يوم القيامة به الكرب والشدة، فنقول القول في هذا كالقول في قوله تعالى {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } فإن الله لم يضف ذلك إلى نفسه، ولذلك لما قال {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} لم يضف ذلك إليه، فدل هذا على أنه لا تعارض في ذلك يعني يوم القيامة به شدة، به كرب {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أيضا لا ينفي ذلك أن لله ساقا يليق بجلاله وبعظمته كما جاء بذلك الحديث الذي ذكرناه آنفا في صحيح البخاري، فلا حجة لأهل التعطيل على أهل السنة والجماعة، فأصول أهل السنة والجماعة ثابتة وراسخة؛ لأنها مبنية على نصوص الكتاب والسنة.

{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} يدعون إلى أن يسجدوا لله فلا يستطيعون، {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } يعني أن أبصارهم خاشعة، وهذا يدل على ماذا؟ على ذلها، بل  على ذل أصحابها كما قال تعالى { خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } يعني تصيبهم ماذا؟ تصيبهم ذلة وهوان {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود ابتغاء ثواب الله، {وَهُمْ سَالِمُونَ } من حيث ماذا؟ من حيث الأعضاء، ومن حيث الأجسام لكنهم أعرضوا، فهنا في هذا اليوم لا يستطيعون السجود.

{وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } فلا تهتم يا محمد بهؤلاء

{فَذَرْنِي } وهذا للتهديد {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ } يعني من يكذب بهذا القرآن {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ } سنستدرجهم  بمعنى أننا نمهلهم درجة درجة {مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ } بمعنى أننا نمهلهم من حيث الوقت، نطيل لهم الأعمار، {وَأُمْلِي لَهُمْ } يعني أعطيهم من النعم {وَأُمْلِي لَهُمْ } حتى يظنوا أن هذه النعم ستكون باقية كما قال تعالى { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } شديد كيد الله شديد، وكيد الله كما مر معنا فيما يتعلق بالمكر إنما يوصف الله به على وجه التقييد كما قال تعالى {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) } وقد بينا ذلك مفصلا في أول سورة البقرة عند قوله تعالى {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}, أيضا في سورة آل عمران {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ } فقال الله {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }.

{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}

{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ }هل سألتهم يا محمد ثوابا على تبليغ الرسالة حتى إنهم أصبحوا من شدة ما زادت عليهم الديون أنهم غرمون، الجواب: لا، {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} هل عندهم غيب الله فيكتبونه؟ الجواب: لا، ومر مثل ذلك معنا مفصلا في أواخر سورة الطور{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ }

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } اصبر يا محمد لحكم ربك الكوني والقدري والجزائي {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } وهو يونس عليه السلام {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } إذ نادى وهو في بطن الحوت {وَهُوَ مَكْظُومٌ } من أسباب الغم كما قال تعالى {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ }

{لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ } يعني لطرح {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ } يعني في الصحراء، وهو مذموم يعني أنه آت بما يلام عليه، لكن نعمة الله تداركته فلم ينبذ مذموما فإن الله رفع منزلته كما ذكر الله في سورة الصافات، وأيضا في سورة الأنبياء فقال الله {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } ولذا ماذا قال بعدها مبينا فضله قال {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } ولذلك اختاره الله، فجعله من الصالحين وقال تعالى {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } فقال تعالى {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: ” لا ينبغي ـ كما ثبت بذلك الحديث ـ لا ينبغي لعبد ـ وفي حديث آخر ـ لا يقولن أحدكم إني أنا أخير من يونس بن متى” فقال الله {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }.

{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } يعني أن كفار قريش يزلقون ويحدقون النظر بالنبي عليه الصلاة والسلام من أجل ماذا؟ من أجل أن يصرعوه، ومن أجل أن يقتلوه هذا قول، والقول الآخر ولا تنافي بينهما من أن هذا فيه دليل على العين من أنهم يحدقون النظر بالنبي عليه الصلاة والسلام بل استأجروا من استأجروا من أجل أن يصيبه بعين، فقال تعالى {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ } يعني لما سمعوا القرآن، فلم يتحملوه، فأرادوا أن يصيبوك بالعين فقال تعالى { لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ } يعني النبي عليه الصلاة والسلام {لَمَجْنُونٌ } كما مر في أول السورة { مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }.

{ وَمَا هُوَ } يعني القرآن { إِلَّا ذِكْرٌ } تذكرة { لِلْعَالَمِينَ } لجميع العالمين لكن الموفق من وفقه الله، فهؤلاء من جملة العالمين، لكنهم لم يوفقوا، ولذلك ماذا قال تعالى { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } ومن تذكر بهذا القرآن الذي هو ذكر فإن الشرف يكون له في الدنيا وفي الآخرة، وبهذا ينتهي تفسير سورة القلم….