تفسير سورة ( الملك ) ( الدرس 254 )

تفسير سورة ( الملك ) ( الدرس 254 )

مشاهدات: 466

تفسير سورة ( الملك )

الدرس (254 )

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــ

تفسير سورة الملك….. وهي من السور المكية…

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)}

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } { تَبَارَكَ } يعني كثر خير الله، وثبت ودام، ولا يفنى

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } واليد صفة من صفاته تليق بجلاله وبعظمته {بِيَدِهِ الْمُلْكُ } وهذا فيه رد على من قال إن كلمة اليد كناية عن التصرف وسهولة التصرف، ومعتقد أهل السنة والجماعة من انه يثبت لله ما أثبته لنفسه بما يليق بجلاله وبعظمته..

{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو عز وجل على كل شيء قدير، ومن ثم فإن الملك إذا كان بيده فإن العبد لا يسأله إلا من؟ الله، فهو على كل شيء قدير.

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } وقدم الموت على الحياة باعتبار ماذا؟ باعتبار أن الموت أسبق من الحياة، وأيضا لأن ذكر الموت يدل على ماذا؟

يدل على الخوف {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } من أجل ماذا؟ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } ليختبركم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} لم يقل أكثر عملا، وإنما {أَحْسَنُ عَمَلًا } الذي  كان خالصا لله، وعلى وفق سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وبينَّا ذلك أكثر في سورة الكهف.

{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } فهو القوي الغالب، وهو الذي يغفر الذنوب.

{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} كل ذلك دلائل على عظمة الله، وأن الذي يجب أن يفرد، وأن يوحد هو الله، فقال {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} يعني سماء فوق سماء، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } كل خلق الله ليس فيه تفاوت، ولا تناقض، ولا اختلاف، ومن ذلك هذه السنوات {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } ولذا قال تعالى { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ }

فقال الله {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } { فَارْجِعِ الْبَصَرَ } يعني أعد البصر مرة أخرى { هَلْ تَرَى } فيما خلق الله في هذه السماء { مِنْ فُطُورٍ } يعني من تشقق، {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } يعني كرر البصر كرتين، ليس المقصود اثنتين، بل كرة بعد كرة بعد كرة بعد كرة، وهكذا {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ }  يعني يرجع إليك بصرك { خَاسِئًا } يعني ذليلا {وَهُوَ حَسِيرٌ } يعني أنه متعب ومنهك، فإنه حسير منقطع عن أن يجد عيبا في هذه السموات، ولو تكرر النظر مرات ومرات { يَنْقَلِبْ } يرجع { إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ }

{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } يعني بالنجوم لأنها مصابيح {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } وذلك لمن أراد أن يسترق السمع كما بين الله في سور سابقة، ووضحنا ذلك أكثر { وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } يعني هيأنا لهم عذاب السعير.

{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) }

{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } بئست النار المرجع. {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا } كما قال تعالى { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } يعني يدفعون فيها {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا } سمعوا لهذه النار {شَهِيقًا } وهو تردد النفس الذي يدل على الصوت الكريه {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} وهي تغلي، {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} تكاد تتقطع { مِنَ الْغَيْظِ } على أهلها وعلى أصحابها {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } يعني جماعة من أهل النار {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا } يعني ملائكة النار {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } ينذركم هذه النار، {قَالُوا بَلَى } أقروا لكن من أجل أن ينتفعوا بهذا الإقرار لكن لا يفيد بعد أن عاينوا عذاب الله {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ } ولذلك كرروا وصرحوا بالنذير مرة أخرى، لم يقولوا بلى قد جاءنا، بل إنهم {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} اعترفوا حيث لا ينفع الاعتراف، {وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } يعني ما أنزل الله من قرآن، ومن كتاب على أي بشر {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } أي ما أنتم إلا في ضلال كبير، هل هذا القول من الملائكة لهؤلاء؟ محتمل كما قال بعض المفسرين، ويحتمل أنه من قول هؤلاء الكفار من أنهم قالوا للرسل وهم في الدينا إن أنتم أيها الرسل إلا في ضلال كبير.

{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} يعني قالوا وهم في النار {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ } {نَسْمَعُ } يعني أن نسمع النصوص الشرعية، {أَوْ نَعْقِلُ } يعني لو كانت لدينا عقول  واعية وفاهمة لانتفعنا، ومن ثم فإن قوله فيما يتعلق بهؤلاء {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} هذا يدل على ماذا؟ يدل على أن العقل الصحيح السالم من الشبهات والشهوات لا يمكن أن يخالف شرع الله، ولما قدم السمع المتعلق بشرع الله، ثم ذكر العقل دل هذا على ماذا؟ على أن الذي يقدم ما هو الشرع والعقل يكون تابعا، لكن إذا رأيت أن عقلك أو أن أي عقل إنسان قال هذا الذي في الشرع يخالف النصوص الشرعية فاعلم بأن عقله به خلل إما شبهة، وإما شهوة، وإلا فالعقل السليم الصحيح لا يمكن أن يعارض الأدلة الشرعية بدلالة ما ذكر هنا لأنهم اعترفوا أن العقل السليم لا يمكن أن يناقض الشرع {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } يعني في هذه النار {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ } لكن لا ينفع هذا الاعتراف، {فَسُحْقًا } يعني هلاكا وبعدا {فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ } فسحقا لمن دخل في هذه النار.

{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } لما ذكر أولئك الذين انصرفوا عن دين الله ذكر من يخشى الله {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } يعني هم لم يروا الله عز وجل، ولكن لقوة إيمانهم فإنهم يخشون الله، وأيضا كما هم على هذه الحالة يخشون الله في غيبهم عن الناس كما يكون حالهم حال العلانية، فهم في السر أيضا حالهم كحال العلانية {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وكما مر معنا كثيرا قلت لكم إذا ذكرت المغفرة وذكر الأجر أو الثواب دلَّ هذا على أن المغفرة تزال بها المكروهات، وأن الأجر والثواب يكون به حصول المرغوب، ولذلك قال تعالى { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } فقال الله {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }  وأعظم هذا الأجر الجنة.

{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)}

{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ } لأن بعضا من هؤلاء الكفار يقولون لا تظهروا كلامكم فإن الله يعلم ما ظهر، أما السر فإنه لا يعلم به فقال الله {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ } يعني أخفيتموه أو جهرتم به {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } يعلم ما هو أعظم مما تسرونه، وهو الذي يكون في صدوركم، ثم أتى بالاستفهام الذي ينكر على هؤلاء {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } بلى والله هو الذي خلق، ويعلم حال خلقه وما يكون من خلقه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } الذي لطف بعباده عز وجل، فأوصل إليهم الخير من حيث لا يشعرون، وصرف عنهم الشر من حيث لا يحتسبون، ولذلك قد يصرف عن أنفسنا ما هو؟ شيء عظيم يقول سبحان الله كيف صرف عني أو يأتي إليه شيء يقول كيف أتاني هذا؟ من لطف الله اللطيف قال { اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } الخبير الذي هو عالم بخبايا وخفايا الأمور.

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا } آية وعبرة لكم تدل على ماذا؟ على عظمة الله، وأن الذي يجب أن يعبد هو الله، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا } مذللة كفراش كمهاد، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا } مع ذلك ماذا قال لكم؟ {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } في جوانبها في طلب الرزق في أقطارها {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } ولكن لتعلموا {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } يعني المرجع والمرد إلى الله، فلا بقاء لكم في هذه الدنيا، وإنما هو وقت محدد فقال الله {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }

{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } الذي هو الله، ومن ثم فإن بعض الطوائف الفاسدة تقول إن الله ليس في العلو، كيف يكون في السماء، والسماء تحيط به؟! فنقول لهم هذا من سوء فهمكم، لم؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ” لما أتت تلك الجارية ـ كما في صحيح مسلم ـ قال لها أين الله؟ قالت في السماء قال أعتقها فإنها مؤمنة”

وليعلم: أن قوله تعالى {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } { فِي } بمعنى على يعني على السماء، فالله استوى على العرش، وهو في العلو، لا يحيط به شيء، ولا تقله السموات ولا الأرض، بل السموات والأرض محتاجة إليه {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا } { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ } أو تكون {فِي السَّمَاءِ } على حالها، ويكون معنى السماء مطلق العلو، فكل ما علاك فهو سماء، فهذا دليل على ماذا؟ على معتقد أهل السنة والجماعة من أن الله في العلو، من أن الله في العلو، ومن ثم فإن هناك عشرين طريقا من الطرق التي تدل حسب الأدلة الشرعية على علو الله، هذه الطرق التي هي عشرون تتضمن ألف دليل، وقال بعض السلف تتضمن ثلاثة آلاف دليل من القرآن ومن السنة على أن الله في العلو، وليس حالا في كل مكان كما يقول الجهمية والمعتزلة وأشباه هؤلاء، فقال الله {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } أي يا كفار قريش {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } الذي هو في العلو {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } بمعنى أنه يدخلكم في الأرض فتنقلب بكم الأرض، وإذا بالأرض تكون أعلى منكم

{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } يعني تتحرك بكم وبها كما حصل لقارون { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ }

{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } يعني ريحا بها حصباء كما حصل لعاد {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } لو حصل {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } وهذا تهديد من أنه سيقع بهم ما أنذر به الرسول عليه الصلاة والسلام وحينها إذا وقع دل هذا على عظم ماذا؟ على عظم العذاب {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ }.

{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)}

{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } كذب قبل كفار قريش { الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } الين هم أشد منهم قوة { وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} كيف كان إنكاري على الأمم السابقة لما أنزل الله بهم العذاب كان إنكارا عظيما شديدا.

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ } دلائل على ماذا؟ على أن الذي  جعل هذه الطيور في السماءعلى هذه الصفة على أن هناك من أوجدها من خلقها الذي يستحق العبودية، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ } يعني في جو السماء كما قال تعالى { أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ }

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } {صَافَّاتٍ } بمعنى أنهن يبسطن أجنحتهن للطيران، تختلف أحوالهن وأشكالهن، قال {وَيَقْبِضْنَ } مع ذلك يقبضن ماذا؟ يقبضن أجنحتهن، ومع ذلك لا يسقطن، ولذلك لم يقل قابضات كما قال فيما يتعلق بالبسط { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} يعني باسطات، لم؟ لأن صف الطيور لأجنحتها أكثر وأغلب من القبض أغلب من قبض أجنحتها، ولذلك ماذا قال؟ {وَيَقْبِضْنَ }

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} ولذلك قال { الرَّحْمَنُ } لأن هذا من رحمته عز وجل، { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } فهو عز وجل بصير بكل شيء.

{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ } أنتم يا كفار قريش أين أولئك الجن الذين ترون أنهم ينصرونكم إذا أراد الله بكم شيئا؟ لا أحد ولا يوجد {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ}  ولذلك قال {إِنِ الْكَافِرُونَ } يعني ما الكافرون {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ } غرتهم الدنيا، وغرهم الشيطان.

{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } لتأتوا بهذا الذي سيرزقكم إن أمسك الله رزقكم عنكم لن تجدوا أحدا { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } { بَلْ لَجُّوا } يعني تمادوا { فِي عُتُوٍّ } يعني في كبر واستكبار وطغيان {وَنُفُورٍ } يعني بعد عن الحق  

{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى } هذا مثل للمؤمن {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى } هل هو أهدى من الذي يمشي سويا على صراط مستقيم يعني إنسان يمشي مكبا على وجهه هل هو أهدى؟ من يمشي مكبا على وجهه هذا قد يقع في حفر قد تصيبه مصيبة { أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا } يعني مستقيما حال مشيه {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } هذا يدل على أن من اهتدى فإنه على صراط مستقيم، والسبيل له إلى النجاة، أما من يمشي مكبا على وجهه، وهذا يدل على مثل الكافر فإن عاقبته إلى هلاك؛ لأنه سيقع في مصائب

{ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } هل يستويان؟ لا والله، لا يستويان، فالمؤمن على صراط مستقيم لا اعوجاج فيه.

{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}

{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ } يعني قل يا محمد لهؤلاء {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ } يعني خلقكم، {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} يعني القلوب {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } يعني أن شكركم قليل بل هو معدوم؛ لأنه يدل لو شكرتك شكرتم لمصلحة أو لحاجة لكم أحوالكم تعود إلى عدم الشرك، ولذلك أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة من أجل أن تنتفعوا بهذا القرآن.

{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ } فقامت عليكم الحجة أعطاكم الله الحواس.

{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}

{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ } يعني خلقكم في الأرض، وبثكم فيها، {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } المرجع إلى الله لو تفرقتم في الدنيا. {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ }

{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } مع تلكم الدلائل {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يقولون هذا الوعد الذي  وعدتمونا من أن هناك عذابا سينزل بنا متى يكون؟ وهذا يدل على أنهم لجوا في عتو ونفور

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ} قل يا محمد لهؤلاء {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ } علم العذاب عند الله ليس عندي شأنه كشأن الأنبياء السابقين، هود لما قال له قومه ذلك القول ماذا قال؟ { قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} فقال الله {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أنا مجرد نذير مبين يبلغكم رسالة ربي وينذركم.

{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً } يعني لما رأوا العذاب زلفة يعني قريبا منهم { سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } السوء ظهر على وجوههم من السواد والقترة والغبرة، {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} يعني تطلبون أو على القول الآخر يعني من أن ما تدعونه من أنه لا بعث، ولا نشور، ولاعذاب، { وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ }

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا } لأنهم يتمنون وينتظرون الموت به عليه الصلاة والسلام، ولذلك ماذا قال تعالى { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } نتربص حوادث الدهر والموت.

{قُلْ } لهؤلاء {أَرَأَيْتُمْ } يعني أخبروني { إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا } لكن حالكم أنتم كفار{فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}  من يجيركم من عذاب أليم، دعوا حالنا لكن انظروا إلى حالكم {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

{ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ } ولذلك انظر إلى اسم الله الرحمن الذي تكرر في هذه السورة مما يدل على أن نزول هذا القرآن رحمة من الله بهؤلاء، وإرسال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم رحمة بالبشر، لكن بعض البشر لا يريد الهدى، ولا يريد الخير، فقال الله للنبي صلى الله عليه وسلم { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } فيما يتعلق بأمورنا الدينية والدنيوية، {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} يعني ستعلمون عاقبتكم من أنكم في ضلال مبين، ولسنا نحن على الضلال.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا } يعني غائرا في الأرض { فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } من يظهر لكم هذا الماء المعين على وجه الأرض، لن يستطيع أحد، ولذلك سبحان الله! والعلم عند الله ذكر الماء هنا في ختام السورة الذي يظهر لي من أنه لما ذكر الماء لأن الماء به حياة للأبدان؛ لأنه لو غار الماء لهلكوا، إذن لا حياة للقلوب ولا للأرواح إلا باتباع شرع الله عز وجل.