سورة النحل سورة مكية قال تعالى:
﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (1)
قال تعالى: {أتَى أَمْرُ اللَّهِ} أتى: فعل ماض دل على أنه وقع؛ لمَ؟ لأن ما وعد الله به فسيقع لا محالة، فكأنه وقع.
{ َأتى أَمْرُ اللَّهِ } أي بما يستعجلُهُ هؤلاء الكفار من عذاب الله ولذا كما قال تعالى عنهم : { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } وقال عز وجل :{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}.
{أتَى أَمْرُ اللَّهِ} ولذا قال بعدها: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} مما يدل على أنه لم يقع لكن قال أتى أمر الله لأن ما وعد الله به فهو واقع لا محالة.
﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} فكيف تستعجلون عذاب الله عز وجل؟ ولذا قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ }.
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى} سبحانه نزهَ نفسه عما لا يليق به ما يقوله هؤلاء الكفار،
{وَتَعَالَى}: له علو الذات وعلو الصفة وعلو القهر، ومر معنا ما يتعلق بالعلو فيما تقدم من سور.
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: عن شركهم.
﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ (2)
{ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} الملائكة على الأَشْهَر هو: جبريل ، ولذلك يأتي المفرد في صيغة الجمع كما مر معنا في سورة آل عمران { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ } وكما قال تعالى: { فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ } أو يُقالُ كما قيل في سورة آل عمران من أنه ينزل جبريل ومن معه ممن شاء من الملائكة، فالمهم أنه عز وجل ينزل الملائكة بالروح وهو: القرآن، سمي روحا لأنه حياةٌ للقلب فلا روحَ ولا حياةَ للإنسان إلا بالقرآن، ولذلك قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا}
{ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ } يعني: بالقرآن { يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } قال: {مِنْ أَمْرِهِ} دل هذا على ماذا؟ دل هذا على أن القرآن من أمره عز وجل، ولذا هنا فيه رد على من يقول إنَّ القرآنَ مخلوق فإن الله عز وجل قال كما مر معنا ذلك في تفسير سورة الأعراف : { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } فرَّقَ بين الخلق وبين الأمر، فدل هذا على أن القرآنَ غيرُ مخلوق لأنه قال هنا :
{ مِنْ أَمْرِهِ } وقال تعالى :{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } ،{ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } لا على ما تختارون إنما على من يشاء من عباده ولذلك قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ،{ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} لمَ ؟
{ أَنْ أَنذِرُوا } أي بأن أنذروا { أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ }
فأمر هنا بماذا؟ بالتوحيد فقال هنا: { عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ }
ولذلك الرسل كلهم كما مر معنا بيانُ ذلك في سورة الأعراف وفي غيرها دعَوا إلى التوحيد.
إذا: أُنزِلَ القرآن وأُنزِلَت الكتب السماوية من أجل ماذا؟ من أجل أن يُوَحَّدَ الله وأن يُعبدَ الله عز وجل وحده.
{ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} والإنذار إذا بلغ الإنسان فأثر فيه اتقى الله {فَاتَّقُونِ } وهذا يدل على أنه كلما عظم التوحيد في القلب كلما حصلت التقوى وقد مر معنا تفصيلٌ لذلك في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ}
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(3)
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} هذه دلائل، فالأول دليلٌ على ماذا؟ دليلٌ على أن محمدا صادق فنزول القرآن هذا القرآن المعجِز فإنهُ فيه دلالة على صدقِ محمد – صلى الله عليه وسلم- وعلى أن هذا القرآن أمر بتوحيد الله عز وجل.
وهنا ذكَر ما يتعلق بالآيات الكونية لما ذكر الآيات الشرعية السابقة في الآية السابقة ذكر الآيات الكونية من باب ماذا؟ أن يقول لهؤلاء: من خلق السماوات والأرض؟ الذي خلقهم وهو الذي يستحق العبادة.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ } ومر معنا توضيحٌ لذلك في أكثر من موطن.
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(3)
﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾(4)
﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ} أصلُ الإنسان الذي هو من نوعِنا {مِن نُّطْفَةٍ} وهنا ذكر ماذا ؟ دليلاً آخر على أنه هو الذي يستحق العبودية لأنه هو الذي خلقك أيها الإنسان .
{ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } تلك النطفة المَهينة تطورت بأمر الله عز وجل حتى أصبح الإنسان يَنطق ويتكلم بلسانٍ فصيح لكن لم يشكر هذه النعمة .
{ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} خصيم يُجادلُ ربَّه ويُجادلُ رسلَ ربِّه.
{خَصِيمٌ مُّبِينٌ} واضح الخصومة كما حصل من هؤلاء من إنكار البعث قال عز وجل عن مثل هؤلاء: {مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ }، فقال هنا: { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}
﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ(6)﴾
والأنعام من الإبل والبقر والغنم {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} هذه آيةٌ و دلائل على عظم الله عز وجل في خلقه لهذه الأنعام في أشكالها وفي أنواعها وفي ما يتعلقُ بمنافعها وبأحوالها {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}
ولذلك قال عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} فقال عز وجل هنا : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا}
ثم ذكر شيئًا من منافعها { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } مما يكون من جلودها وأشعارها وأوبارها، كما قال تعالى { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} ، { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } تنتفعون من هذه الأنعام {وَمَنَافِعُ} ومنافعها متعددة {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } تأكلون من هذه الأنعام مما استلذ وطاب
{ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } مع تلك المنافع ومع ذلك الأكل مع الدفء { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } يعني هي زينةٌ حينما تملكونها
{ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}
{حِينَ تُرِيحُونَ} يعني: حينما ترجع إلى المَراح إلى مأواها وذلك في آخِرِ النهار.
{وَحِينَ تَسْرَحُونَ}: حينما تُسَرِّحُونَها أولَ النهار، فالجمالُ كمال الجمال من أنها إذا رجَعت بعد رعيِها تكون أعظم جَمالا وأحسن جمالا عند أهلها ، لمَ؟
لأنهم يرون أن شكلها قد تغير وقد امتلأت بالطعام وسيستفيدون من حليبها فقدم المَراح على السراح، قال: {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}
﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾(7)
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} هذا نوعٌ من أنواع الأنعام وهو الإبل {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } يعني ما شقَّ عليكم من الأثقال العظيمة.
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ } ونَكَّرَ البلد مما يدل على أن ذلك البلد بعيد.
{إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ} أي واصليه {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ} أي إلا بمشقة من غيرِ هذه الأنعام ما كنتم تصلون إليها إلا بمشقة وبتعبٍ وجهدٍ جهيد {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ}.
وقال عن المشقة هنا: {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ} يعني أن نفوسَكم يُصيبها من المشقة ما يصيبها، فسخر الله عز وجل لكم ذلك.
{إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} سبحان الله رأف بكم والرأفة هي أَخَصُّ من الرحمة كما مر معنا في سورة البقرة { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرؤوفٌ رَّحِيمٌ }
{إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤوفٌ رَّحِيمٌ} وقال هنا {إِنَّ رَبَّكُمْ} الذي تقرون بأنه هو الرب هو الذي جعل تلك الأشياء التي مر ذكرُها عن الأنعام وهذا من رأفته ومن رحمته بكم، إذا: واجب عليكم أن تعبدوه وحده وأن تخلصوا العبادة له.
﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (8)
{وَالْخَيْلَ} نصبت هنا لأنها معطوفة على الأنعام.
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} أي هي للركوب، وزينة تتزينون بها وتتجملون بها، ولذلك قال ﷺ عن الخيل كما في الصحيح :(الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخير إلى يومِ القيامةِ).
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } ومن ثَمَّ فإن بعض العلماء أخذ من هذه الآية من أن الخيل لا يجوزُ أكلُها لأنه عز وجل ما ذكر إلا الركوب و الزينة، لكنَّ الجواب يقال:
من أنه عز وجل ذكر ذلك من باب تِعداد النعم لا من أجل ما يتعلقُ بالأحكام، ومن أعظمِ ما يكون من النعم في هذه المذكورة من الخيل والبغال والحمير الركوب والزينة.
أما بالنسبةِ إلى الحمير فقد نهى النبي ﷺ عن أكلِها.
{وَالْبِغَالَ}: متولدةٌ من الخيل والحمار وما تولد من مباح الأكل ومن محرم الأكل فإنه لا يجوزُ أكلُه تغليبٌ لجانب الحظر يعني: التحريم.
وأما الخيل فقد وردت السنةُ بجوازِ ذلك قالت أسماءُ كما ثبت، قالت: ” نَحَرنا على عهدِ رسول الله ﷺ فرسا فأكلناه “.
ثم قال لما ذكر أنواعا من خلقه، قال: { وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} قال (ويخلق) بصيغة الفعل المضارع مما يدل على أنه يخلق عز وجل ما لا يعلمُه البشر، ولذا فإن الله عز وجل لو تأمل العبدُ كيف ألهم ووفق هؤلاء البشر في مثل هذا الزمن وكيف صنعوا ما صنعوا من هذه الأجهزة ومن هذه السيارات والطائرات وما شابه ذلك فإن النبي ﷺ كما ثبت عنه قال: ( إن اللهَ خالقُ كل صانعٍ و صنعته ) فهذا من خلقه عز وجل ، وأيضاً { وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} حتى من في هذا الزمن فإنه يخفى عليهم من خلقه عز وجل الشيء الكثير ولذلك { وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} مما يكونُ من حشراتٍ ودوابٍ ونحوِ ذلك { وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ولذا قال عز وجل : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ} بصيغة المبالغة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}
﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ (10)
{وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} أي مُذللات، ومر معنا تفصيل ذلك في سورة الأعراف
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: علامات، لقوم يعقلون: يعقلون هذه الأشياء، ويفهمونَها من أن الذي سخرها هو اللهُ عز وجل الذي يستحق العبودية.
ولعل جمْع الآيات هنا وإفراد الآية في الآية السابقة والآية في الآية التي بعدها، إنما الجَمعُ هنا باعتبار ماذا؟ باعتبار أنه ذكر أكثر من شيء وهو ماذا؟ الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، بينما ذكر في الآيةِ السابقة ما يتعلق بالماء الذي هو المطر، قال هنا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ (13)
{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: وما خلق لكم في الأرض.
{مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} ألوانُه مختلفة، ما ذرأ لكم وبثَّ في الأرض من دواب ومنافع وما شابه ذلك فإنها مختلفةُ الأنواع ومختلفةُ الأشكال ومختلفة الطعوم ومختلفة اللذة ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ}
كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}.
﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ (13)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ فأنتم تبصرون هذه الأشياء فهي داعيةٌ إلى أن تتذكروا فتعبدوا الله عز وجل وحدَه.
﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (14)
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} مر معنا في سورة إبراهيم: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} هنا قال سخر البحر يعني أنه ذلل البحر { لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} فذلكم البحرُ العظيم الذي لا يستطيع أحد أن يقاومَه ذللـه الله عز وجل فَصِدتُم منه وغِصتُم في أعماقه حتى تأتوا بما يكون لكم من متاعٍ و حلي ومنافع.
فقال عز وجل {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} أي من هذا البحر، واللحم الطري هو: اللحم الرطب الذي تكونُ اللذة به أكمل لما يكون طريا، ولا يعني أن القليلَ اليابس لا يعني أنه يكون محرما إلا إذا أنتنَ فإنه إذا أنتن وكان به ضرر فإنه لا يجوزُ أكله، أما إذا أنتن ولم يكن به ضرر على الإنسان فإنه لا بأس بذلك مع أن التورع عنه أفضل.
{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} وإنما ذكر اللحم الطري لأن المنة به أعظم.
{وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً} وتستخرجوا من هذا البحر حلية تغوصون في أعماقه ما كان لكم أن تفعلوا ذلك إلا بتسخير الله عز وجل لهذا البحر لكم وإلا فهو عظيم.
{وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} من الحلي الذي يُتَحلى به وقال هنا: {تَلْبَسُونَهَا} والرجال لا يلبسون من الحلي إلا ما قَلّ كالخواتمِ من الفضة وما شابه ذلك فلماذا نسَبَ ذلك إليهم؟
{تَلْبَسُونَهَا} لأن الذي يلبسُ ذلك أكثر هم النساء، والنساءُ وإنما يتجملن ويتزين لأزواجهن فإذا تزينت المرأةُ للرجل فكأنه لَبِسَ الحُلي.
{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} وَتَرَى الْفُلْكَ: أي السفن مَوَاخِرَ فِيهِ: تمخر وتشق هذا البحر تشق هذا البحر بمقدمتها ومع ذلك تسير، فسهَّل الله عز وجل لها الأمر وإذا بالرياح تساعدها، وإلا لو وُكِّلَ الناسُ لو اجتمعوا على أن يُسيروا هذه السفن ما استطاعوا لكنَّ الله عز وجل ذللها في هذا البحر.
قال: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ}
{وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} أي: لتطلبوا من الله عز وجل من فضله شتى أنواع الفضل، بمعنى أنكم تذهبون وتسافرون عن طريق هذه السفن، وتركبون البحر من أجل أن تتحصلوا على ما تفضل به عز وجل عليكم إذ تتبادلون المنافع.
ولذا لو قال قائل -وهي قاعدة- لو قيل مثلا: ما هو الدليلُ على أن الخبز يكون حلالا أو أن التوابل تكون حلالا أو ما شابه ذلك؟ فاذكر له هذه الآية {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} وهذا شامل فكل شيء من فضل الله عز وجل.
لو قال قائل: أين القرآن من ذكر التوابل وما شابهها مما لم تُذكر في السنة؟ فالجواب هنا.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لعل ذلك التذليل والتسخير البحر والفلك والجريان هنا لتشكروا الله عز وجل على ما أنعم به عليكم فتُخلصوا له العبادة وحده.
﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون (16)﴾
لما ذكر ما يتعلق بالبحر ذكر ما يتعلق بالأرض {﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ }: يعني جبالا رواسيَ
ومر معنا هذا في سورة الحجر وفي سور أخرى سابقة
{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} من أجل ماذا؟
{أَن تَمِيدَ بِكُمْ } حتى لا تضطرب بكم فهذه الجبال كما قال تعالى : { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } فثبت اللهُ عز وجل هذه الأرض بهذه الجبال فقال: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا}:
تنتفعون بها أشد أنواع المنافع من الشرب من مائها ومن سقي بهائمكم ومن السيرِعليها في السفن والقوارب وما شابه ذلك .
{وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا} أي: طرقا، جعل في هذه الأرض طرقا وسبلا {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لعلكم تهتدون إلى مصالحكم حيثُ تسيرون في الطريق من بلدة إلى أخرى تعرفون عن طريق هذه السبل تعرفون ذهابكم إلى أين وتعرفون مجيئكم إلى أين.
قال: {وَعَلَامَاتٍ} علامات شاملة من جبال ومن أودية ومن صخور وما شابه ذلك وهم أهلُ مكة هم أهلُ بر وأهلُ صحراء، فهم يستدلون في أسفارهم على طرقهم بالجبال وبالصخور وبالأودية وبالسهول فقال عز وجل هنا: {وَعَلَامَاتٍ} ثم قال {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}
قال: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} يدل على ماذا؟ على أن الإنسان يعرف طُرُقه ويهتدي في أسفاره عن طريق العلامات الأرضية، وهنا ذكر العلامة السماوية التي بها يهتدي الناس قال: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} وذكر هنا النجم مُستقلاً وقدم النجم لمَ؟ لأن معظم ما تهتدي به كفار قريش في أسفارهم إنما هو في النظر إلى النجوم قال: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ولما ذكر تلك العلامات بين هنا من أنه هو الذي يستحق العبودية فقال على وجه الإجمال:
﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ (17)
{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ} أفيستوي من يخلق كمن لا يخلق ولذا مر في أول السورة {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} وذكر ما يتعلق بالشمس والقمر وما يتعلق بالأرض فقال عز وجل:
{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ} ثم قال: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} استفهام إنكاري أين تذكركم فهل تستطيعُ هذه الآلة التي صرفتم إليها شيئا من العبادة أن تخلق شيئا من ذلك؟
لن تستطيع، حتى الذبابة لن يستطيع ولو اجتمعوا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}
﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رحيمٌ﴾ (18)
لما ذكر ما يتعلق بالنعم السابقة بين أن نِعمه عظيمة لا تحصى
{وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رحيمٌ} وختم الآية هنا {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رحيمٌ} بينما في سورة إبراهيم لما ذكرها ختم الآية بقوله: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
وذلك لأن ما قبلها في سورة إبراهيم كان فيه إنكارٌ من هؤلاء { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} فكان المناسب أن يأتيَ بقوله { إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} أما هنا ففي سياق تِعداد نِعم الله عز وجل عليهم فقال : { إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رحيمٌ} وأيضا يُحتمل وهو احتمالٌ قوي من أن قوله تعالى: { إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} يعني عند نعم الله عز وجل فهو ظلوم كفار، ثم هو لو شكر الله عز وجل ممن وفقه الله -عز وجل- فإنه لن يوفِّيَ الله عز وجل حق الشكر، لكنه عز وجل يغفر ويرحم ويتجاوز عما يحصل من تقصيرٍ من الإنسان في ما يتعلق بنعم الله.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ (19)
فاللهُ عزوجل ذكر هنا ما يتعلقُ من أن ما أسروه وما أخفوه في أنفسهم وما جَهروا به من القول الباطل ومما يحصل مما حصل منهم تجاه النبي ﷺ وأيضا هو عامٌ للناس بحيث أن الإنسان إذا قرأ هذه الآية يخاف من الله عزوجل والله يعلم سره ونجواه وظاهرَه.
﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ (20)
هذه دلائل على بُطلان من يتخذ مع الله إلها، هذه الآية فيما يتعلق بالأصنام لأن السياقَ عن كفار قريش.
تلك الأصنام {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وهنا ليس هناك تكرار لأنه قال قبلها: { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ } هنا قال مبينا من أنهم يُخلَقون فقال عز وجل: { لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يعني أنتم تخلقونهم وتصنعونهم من حيث الحجارة وما شابه ذلك فتجعلونها آلهةً تُعبد من دون الله عز وجل، وكل ذلك الصنيع منكم لما تصنعونه لهذه الأصنام هو من فعل الله عز وجل لأن اللهَ خالق كل صانع وصنعتَه كما ثبت في ذلك الحديث الصحيح، ولذلك قال إبراهيم عليه السلام { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}فقال عز وجل هنا { لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} كيف تعبدون من تصنعونهم ؟!
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ (21)
{أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} يعني تلك الأصنام أموات جمادات وأكد ذلك {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} لم؟ لأن الشيء قد يكون جمادا ثم تحصل له الحياة مرة أخرى كالنطفة مثلا {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ} كما في أول السورة {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}
فقال هنا: {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} يعني لا حياةَ لهم سابقة ولا حياةَ لهم في المستقبل.
{أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ} ليس لهم شعور {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي: متى يبعثون، هذه الأصنام لا تشعر متى تُبعث حتى تكون خصماً لهؤلاء، وأيضا يدخل فيه قول من يقول: من أن الأصنام لا تشعر بوقتِ بعث هؤلاء المشركين.
﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ (22)
لما ذكر تلك الدلائل على بطلان عبادة تلك الأصنام قال { إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الذي هو يعبد وحده عز وجل { إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ}
{مُّنكِرَةٌ} تنكر هذا الوحي، قلوبهم منكرة {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} يعني ينكرونها مع الاستكبار في قلوبهم، جمعوا بين ذلك لأن الإنسان قد ينكر ثم لا يكونُ في حالة استكبار فهذا يُرجى منه أن يعود لكن هؤلاء {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ}
منكرة يعني تنكر هذه النبوة وتكره هذا القرآن كما قال عز وجل: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} وكما قال عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ}
فقال عز وجل هنا: {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ لَا جَرَمَ} يعني حقاً.
﴿لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾ (23)
{لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} يعني حقٌ وثابتٌ من أن الله عز وجل يعلم ما يسرونه في قلوبهم وما يظهرونه ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}
قال: { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} بمعنى أنَّ من استكبر فالله عز وجل لا يحبه.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ (24)
إذا قيل لهؤلاء الكفار، لو قال لهم قائل: ماذا أنزل ربكم؟ ممن يأتي فيسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أن أيَّ قائل قال لهم {مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ}؟
{قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ يعني: هي مما يتناقله الأولون مما يقولونه من أوهام وتخيلات وقَصص وما شابه ذلك.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن من أتى إلى مكة من أجل أن يسأل عن النبي ﷺ فسأل هؤلاء الكفار فإنه يقول هذا القول من أجل أن يصرفه عن الدين ولذا قال:
﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ (25)
{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني ليحملوا ذنوبهم قال {أَوْزَارَهُمْ} لأن بها ثِقلا.
كما قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}
{ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} دل هذا على أن كلَّ وِزرٍ من أوزار هؤلاء يحملونها كاملة لا ينقص منها شيء.
{ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} أيضا: ويحملون من أوزار ومن آثام الذين أضلوهم .
{وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ } دل هذا على أن من ضل عن طريقِ هؤلاء بأنه جاهل ،وهذا يدل على ماذا ؟ على خطورة الجهل وهذا يدل على الحث على العلم النافع فإن بالعلم النافع بإذن الله عز وجل يستبين للإنسان الحق من الباطل.
{وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ }
لذا قال صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم : (ومن دعا إلى ضلاله كان عليه من الإثم مثلُ آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا).
و قال صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم : (من سنَّ في الإسلام سُنَّةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).
{ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ } ساء: مثلُ بئس وهي تدل على الذم {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } ألا ساء وبئس ما يزورون أي: ما يحملونه من هذه الذنوب والأوزار.
﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (26)
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} بمعنى أن كفار قريش قد مكر ودبَّرَ من قبلهم من الأمم السابقة في ما يتعلق بالأنبياء من إبطالِ دعوة الأنبياء.
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } لكن ما العاقبة لأولئك الكفار؟
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} يعني من الأساس.
{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} وقال هنا {مِن فَوْقِهِمْ } مع أن السقفَ إنما يخر من فوق وإنما ذكر من فوقِهم لأن الإنسان قد يخر السقف من فوق ولا يكونُ تحتَه .
لما قال{ مِن فَوْقِهِمْ} دل على أن العذاب شمل الجميع ولم ينجُ منهم أحد .
فقال عز وجل: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ} لما قال { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} يعني من الأساس و الأصول { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}
أتاهم عذابُ الله عز وجل من حيثُ لا يشعرون.
وقوله عز وجل: { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} مر معنا تفصيل فيما يتعلق بإتيان الله عز وجل في سورة البقرة { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} وبيَّنا ما يتعلق بذلك .
{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} كما حلَّ بالأممِ السابقة سَيَحِلُّ بهؤلاء إن مكروا.
ولذلك قال عز وجل: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} وقال عز وجل: {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا}
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}
وبعضُ المفسرين يقول: إنَّ الآيةَ المقصودُ منها تمثيلٌ لصدودِ هؤلاء عن طريقِ الحق، لكن الذي يظهر: من أنه عذاب حسي وقع لهؤلاء فقال عز وجل:
﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (27)
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} لما ذكر العذاب الذي حلَّ بالأمم السابقة مما يكون في الدنيا ذكر ما يتعلق بعذابهم في الآخرة {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} يهينهم ويُذلهم {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ }
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال هنا (ثم) دل هذا على ماذا؟ على أن هؤلاء لو طال بقاؤهم في الدينا فإن مصيرَهم إلى الآخرة.
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} يعني يذلهم ويهينهم.
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ} قال هنا: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} أضاف ذلك إلى نفسه من باب ماذا؟
من باب التوبيخ لهؤلاء والإنكار عليهم لمَ؟ لأنهم جعلوا هؤلاء شركاء مع الله، فكيف يجعلون هؤلاء شركاء مع الله عز وجل وقد حذَّرهم في قوله تعالى :{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ }
{ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } أي تُعادون فيهم و تجعلونهم مخاصمين للمؤمنين فيما يتعلق بتوحيد الله – عزوجل –
ويدخل فيه أيضا قول من يقول:
{ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } أي: تشاقون الله عز وجل وتعادونه فيهم أي: من أجلهم
{ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ } انظر { قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} يدل هذا على شرف العلم وأن أهل العلم يتكلمون يوم القيامة على الملأ في عرصات القيامة بخلاف أولئك الذين ضلوا كما قال تعالى :{ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ } بيَّن هنا أن أصحابَ العلم يقولون هذا القولَ في يوم القيامة.
{ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } قال: (أوتوا العلم) دل هذا على أن العلمَ ما يُعطاه الإنسان من جهده أو من حوله أو من قوته إنما هو بفضل منه عز وجل إذ وفقه وأعانه وسدده.
{ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ }
{إِنَّ الْخِزْيَ} يعني المَهانةَ والذِّلة { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ} وهي الحالةُ السيئة التي تسوءُ هؤلاء { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ } اليوم: يعني في يوم القيامة فقد تحقق ما وعد الله عز وجل به {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
ثم وصفهم: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} ومر معنا توضيحُ ذلك فيما يتعلقُ بهؤلاء الملائكة والجَمْعُ بين قوله تعالى { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ} وكذلك قولًه عز وجل { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ} كما في سورة الأنعام كما مر معنا { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} قال هنا:
﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (28)
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} لأن الملائكة أعوانٌ لمَلَك الموت، وملَك الموت لا يمكن هو ولا الملائكة أن يقبضوا روحَ أحد إلا بأمره عز وجل.
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ } أي حالةَ كونهم قد ظلموا أنفسه،{ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ }
{ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} :{ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} يعني الاستسلام والانقياد فإنهم خضعوا وانقادوا لكن هيهات هيهات عند مجيء الموت فإنه لا ينفع الندم.
{ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} فيتبرؤون ويقولون لم نعمل سوءا في الدنيا .
{ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} وهنا يدل على أنهم يتبرؤون ويقولون لم نعمل سوءا وذلك عند قبض أرواحهم وكذلك في يومِ القيامة.
{ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} فيُرَدُّ عليهم: { بَلَى} إبطال لما قالوه { بَلَى } يعني عملتم السوء {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى} ولذلك قال: { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
{ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ }
{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } {فَادْخُلُوا} وهنا أمر للتبكيت والتحقير والإهانة .
﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ (29)
قال هنا {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} في بعض الآيات فبئس بدون اللام، واللام هنا للقسَم، أي: والله لبئس وثُم مثوى المتكبرين لأنه كما قال عز وجل في الآيات السابقة {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} فكان هذا العذابُ عذابا لهم.
﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ (30)
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} لما ذكر ما يتعلق بأولئك الكفار، لما يقال لهم ماذا أنزل ربكم؟
يجيبون فيقولون: أساطير الأولين، لكن أهل التقى والخير إذا سُئلوا {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} أي قال قائلٌ للذين اتقوا {مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ }؟ يعني ما شأن محمد مع هذا القرآن {قَالُوا خَيْرًا} دل على أن الخير كله في هذا القرآن، فمن أراد الخير في دنياه وفي قبره وفي آخرته فهو في هذا القرآن لمن عمِلَ به واتبعه.
{ قَالُوا خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} من أحسن في هذه الدنيا فله حسنة، والحسنةُ تشمل كل شيء مما يستحسنه الإنسان مما يكون من قناعةٍ ومن زوجة صالحةٍ ومن مالٍ وما شابه ذلك، وأيضا تكون لهم الحسنة في الآخرة:{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ } ولدار الآخرة وهي: الجنة { وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} قال ولدار الآخرة مع أن هناك دارا أخرى في الآخرة وهي النار لكن { وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} التي هي الدارُ التي ينتفع بها أهلُها وهي الدار التي يستفيد منها الإنسان وهي الدارُ الحقيقية وهي الجنة {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} ثم أثنى عليها قال: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} بخلاف تلك التي ذكر عز وجل عن هؤلاء: { فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } قال هنا { وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} يعني الجنة، وقال الحسن البصري {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} إنما هي هذه الدنيا، فالدنيا نِعمَ دارُ المتقينَ إذا عَمِلوا فيها الأعمال الصالحة وهذا يدخُلُ تَبَعا، وذلك الدنيا إذا مُدِحَت حتى لا يتعارضَ هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم عند الترمذي في الحديث الحسن: ( الدنيا ملعونة ملعونٌ من فيها إلا ذكرَ الله وما والاه وعالماً أو متعلما ) فبين هنا من أن الدنيا لا تُمدح إلا إذا كانت مَطيَّةً للآخرة، وإن كان الذي يدل عليه السياق من أنها الجنة ولا مانَع من دخول قول الحسن لأنه قال بعد ذلك لما قال: { وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}.
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ۚ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ﴾ (31)
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} يعني: إقامة، بمعنى أنهم مقيمون فيها لا يخرجون منها ولا يريدون غيرها كما قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} لا يريدون تحولا إلى غيرها.
فقال عز وجل هنا {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } إذا: تتنعمُ تلك الأعين بجري الأنهار تحتَ الأشجار وتحت اَلقصور فقال عز وجل {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَار لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } لهم فيها من كلِّ ما يشاءون كما قال تعالى{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
{لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ} مثل هذا الجزاء: {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} يعني لم يقل كذلك يجزيهم الله وإنما قال {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} دل هذا على أن أصحاب الصفات السابقة هم متقون وكل من اتقى الله عز وجل فله هذا النعيم العظيم.