تفسير سورة فاطر من الآية ( 19 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (212 )

تفسير سورة فاطر من الآية ( 19 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (212 )

مشاهدات: 496

بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير المختصر الشامل

تفسير سورة فاطر من الآية (19) إلى (آخر السورة) الدرس (212)

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ (19) وَلَا ٱلظُّلُمَٰتُ وَلَا ٱلنُّورُ (20) وَلَا ٱلظِّلُّ وَلَا ٱلۡحَرُورُ (21)وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ (22) إِنۡ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗاۚ وَإِن مِّنۡ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٞ (24)وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدۡ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَبِٱلزُّبُرِ وَبِٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذۡتُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۖ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ(26)﴾

﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ هل الأعمى والبصير يستويان؟ الجواب لا فكذلك لا يستوي المؤمن الذي هو بمثابة البصير لا يستوي مع الكافر الذي هو أعمى ولذلك قال تعالى ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾[هود:24].

﴿وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ﴾ وهل تستوي الظلمات مع النور؟ لا إذاً الظلمات الكفر هل يستوي مع النور الذي هو الإيمان؟ لا ولذلك جمع الظلمات لأن من ضل عن طريق الله فهو تائه في طرق متشتتة قال تعالى ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾[الأنعام:153].

 ﴿وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ﴾ وتأمل هنا تكرار كلمة لا، وهي زائدة للتأكيد على كل أمر قال هنا ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ﴾ الظل هو الظل المعروف ولا الحرور يعني الريح الحارة هل يستويان؟ الجواب لا، فكذلك الجنة والنار لا تستويان.

 ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ﴾ سبحان الله هنا كرر الفعل ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ﴾ دل هذا على التأكيد على أنه لا يمكن أن يستوي من هو ميت مع الحي كذلك لا يستوي الكافر مع المؤمن ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ﴾ وهم أهل الإيمان ﴿إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ﴾ يُسمع من يشاء ممن يريد أن يهديه إلى الطريق الحق ﴿وَمَا أَنْتَ﴾ يا محمد ﴿بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ يعني هؤلاء بمثابة أهل القبور الذين لا يسمعون فهم موتى القلوب ولذلك قال تعالى ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾[الأنعام:36].

 فقال الله ﷻ ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ أي ما أنت إلا نذير ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ بهذا الحق لأنه نزل وهو متلبس بالحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ تبشر من أطاعك وتنذر وتخوف من عصاك ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ أي ما من أمة مضت إلا وقد بعث الله فيها النذير، ومع ذلك كذب من كذب هؤلاء.

 ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ﴾ يا محمد، كفار قريش ﴿فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ يعني قامت الحجج الواضحات المعجزات ﴿وَبِالزُّبُرِ﴾ وهي الكتب التي بها مواعظ زبور داود ﴿وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا﴾[الإسراء:55]، ﴿وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ يعني بالكتب الواضحة المنيرة كالتوراة والإنجيل، ثم هنا قال ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ كرر الباء، أما في سورة آل عمران ﴿جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾[آل عمران:184]، لم يأتِ بالباء لأنهم والعلم عند الله  طلبوا من النبي ﷺ حتى يأمنوا به أن يأتي بشيء تحرقه النار، بمعنى أن يأتي بقربان فقال هنا مبيناً أن الرسل السابقين أتوا بهذه الأشياء ولم يكن فيها ما ذكرتم، لكن هنا بين لأن هناك في سورة آل عمران كما ذكرنا، لكن هنا يعني أن الرسل السابقين منهم من أتى بالزبر ومنهم من أتى بالمعجزات ومنهم من أتى بالكتاب المنير كل ذلك من باب التسلية الأكيدة العظيمة الكثيرة للنبي ﷺ ما من رسول إلا أتى بكذا أو بكذا أو بكذا ﴿وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ الكتاب هنا يعني الكتب.

 ﴿ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي لما كذبوا أخذ الذين كفروا بمن عاقبهم ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ كيف كان إنكاري عليهم كان إنكارًا عظيمًا شديدًا ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ ولذلك سبحان الله جعل العذاب بمثابة القول الذي ينكر عليهم، لأنهم أتوا بأمر عظيم فكان العقاب في شدته كالقول الذي في شدته ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ يعني كان شديداً عظيماً.

﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ ثَمَرَٰتٖ مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهَاۚ وَمِنَ ٱلۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِيضٞ وَحُمۡرٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٞ (27) وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمۡ أُجُورَهُمۡ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ غَفُورٞ شَكُورٞ(30)﴾

 ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي تأمل وتدبر يا مخلوق يا عاقل ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ سبحان الله أنزل هذا المطر وهو الماء واحد كما قال ﷻ ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ﴾[الرعد:4]، فقال هنا ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا﴾ يعني هذا لونه أحمر وهذا لونه أصفر وهذا لونه أسود، وهكذا ألوان مختلفة والمصدر واحد وهو الماء مما يدل على أن الذي أنشأها هو الله عز وجل.

فقال ﷻ ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ غرابيب يعني شديد السواد يعني الأصل سود غرابيب وغرابيب سود، فقدم الصفة على الموصوف أي انظر وتأمل أيضًا إلى تلك الجبال، جبال كما قال ﷻ ﴿جُدَدٌ بِيضٌ﴾ أي جبال تجد مثلاً في أجزاء منها وفي طرائق منها تجد ﴿جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ جبال سبحان الله في أجزائها ما هو أسود ما هو أحمر ما هو أبيض، والذي خلقها مختلفة الألوان الله ﷻ لكن أين عقلك يا عاقل.

 فقال الله ﷻ ﴿كَذَلِكَ﴾ يعني كذلك كما اختلفت ألوان تلك الثمار وتلك الجبال أيضًا اختلفت ألوان الإنس والدواب فهذا أحمر وهذا أصفر وهذا أسود سبحان الله ولذلك قال ﷻ ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾[الروم:22].

 فقال هنا ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ يعني من يتدبر ويتأمل ويخشى الله هم العلماء، والعلماء ليس المقصود من ذلك الذي يحفظ النصوص ثم لا يعمل، بل المقصود من ذلك لأن العالم إذا علم النصوص وعمل فهذا لا شك أنه في مرتبة عالية، لكن هنا الخشية تدل على أن من علم العلم وأطاع الله ولم يعص الله فهو العالم  ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ هم الذين يخشون الله ﷻ لأنهم علموا عظمة الله فأقبلوا على طاعته واجتنبوا معصيته ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ فهو عزيز قوي عز وجل، ومن ذلك أنشأ تلك الألوان المختلفة والمتباينة وأيضًا هو غفور فهو يغفر الذنب لمن عصى فكان صاحب خشية فعصا الله فذل فإن الله ﷻ يغفر ذنبه كما قال ﷺ عند مسلم “ لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْوفي الحديث الصحيح “ كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ “.

 فقال هنا ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ﴾ فيه شرف لمن تلا كتاب الله ﷻ وأقام الصلاة حق القيام ﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ أي من بعض ما رزقناهم ﴿سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ حال السر وحال العلانية وقد مر معنا ذلك في ذكر السر والعلانية تفسير أوضح وأشمل وفائدة في سورة البقرة.

 فقال ﷻ هنا ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ يؤملون تجارة لن تبور لن تهلك ولن تفسد ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ﴾ أي أنهم يرجون تلك التجارة العظيمة لأنها تجارة مع الله ﷻ من أجل ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يعني مع أنه يوفيهم أجورهم أيضًا يزيدهم ﷻ ﴿إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ فهو غفور ﷻ لأن من عمل الصالحات من تلك الأعمال السابقة فإنه قد يعتريه ما يعتريه من النقص، ومع ذلك فهو غفور وأيضا شكور لأنه يقبل من عباده العمل القليل ويثيب عليه الثواب العظيم.

﴿وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ هُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِۦ لَخَبِيرُۢ بَصِيرٞ (31) ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ (32) جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَلُؤۡلُؤٗاۖ وَلِبَاسُهُمۡ فِيهَا حَرِيرٞ (33) وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ (34) ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ(35)﴾

﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني يا محمد ﴿هُوَ الْحَقُّ﴾ ﴿فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ﴾[السجدة:23]، وأيضاً فيه رد على من أنكر ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ فهو يصدق الكتب السابقة من التوراة والإنجيل وأيضًا تلك الكتب شهدت لهذا القرآن بأنه حق وأن الرسول ﷺ حق ﴿إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ فهو خبير عالم ببواطن الأمور وبصير بكل أعمالهم وسيجازي كل إنسان على عمله.

 ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ سبحان الله لما بين أن هذا وحي من الله وهو وحي حق للنبي ﷺ، بين هنا منزلة أمته عليه الصلاة والسلام فقال هنا ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ قدم الكتاب مع أنه المفعول الثاني أي ثم أورثنا من عبادنا الذين اصطفينا الكتاب من باب التعظيم والتشريف لهذا القرآن وأن هؤلاء سيشرفون باتباعهم لهذا القرآن ﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ اخترناه من عبادنا ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ التفسير الراجح بمعنى أنه ارتكب السيئات مع أنه يعمل الطاعات ﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ أنه مقتصد يأتي بالطاعات ويترك المحرمات دون الإتيان بالمستحبات ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ يسابق الخيرات والواجبات والمستحبات ويترك المحرمات ﴿بِإذن اللَّهِ﴾ كل ذلك وهو ميراث الكتاب لهؤلاء بإذن الله ﷻ وليس لأحد تصرف في ذلك إلا بإذن ﷻ ويمكن يدخل في هذا أن المسابق للخيرات ما ظفر بهذا الأمر إلا بإذن من الله إذ وفقه الله ﷻ.

 ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ بعض المفسرين يقول فمنهم ظالم لنفسه يعني المشرك ومنهم مقتصد يعني المؤمن الذي هو من أصحاب اليمين ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ يعني وهم السابقون السابقون كما قال تعالى في أول سورة الواقعة ﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَة ًفَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾[الواقعة:7-10]، لكن الذي يظهر هو القول الأول.

 ويدخل في ذلك كل ما قاله المفسرون لأنهم قالوا ظالم لنفسه يعني الذي لا يؤدي الزكاة الواجبة، والمقتصد هو الذي يؤدي الزكاة الواجبة دون سابقة تطوع، والسابق بالخيرات هو الذي يؤدي الزكاة الواجبة مع الصدقة المستحبة وقيل غير ذلك كل ذلك داخل.

قال هنا ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذن اللَّهِ﴾ لماذا رتبهم هكذا؟ بعض العلماء يقول رتبهم من باب الترتيب حتى يصل إلى الأشرف، ظالم ثم المقتصد ثم المسابق للخيرات، وبعضهم قال: إنما قدم الظالم حتى لا ييأس من رحمة الله، وأخر المسابق للخيرات حتى لا يغتر بعمله.

 ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ وهذا يؤكد رجحان ما رجحناه، لأن ما مضى ذلك هو الفضل الكبير فضل من الله كبير على هذه الأمة.

 ﴿جَنَّاتُ﴾ ما هو ذلك الفضل الكبير؟ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ إقامة ﴿يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا﴾ يحلون الذهب مع اللؤلؤ وفي الآية الأخرى ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾[الإنسان:21]، يجمعون بينها وبين هذا ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ لماذا نصبت لؤلؤا؟ نصبت لأنها معطوفة على محل من أساور ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ﴾ أي يحلون أساور فمن هنا زائدة.

 ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ حمدوا الله ﷻ لأنه أذهب عنهم عموم الحَزَن والحَزَن هو صيغة أيضاً في الحُزُن، الحُزُن والحَزَن من أنه أذهب عنهم الحَزَن الذي كان في الدنيا وأيضا أذهب عنهم الحَزَن ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ﴾[الأنبياء:103]، إذا خرجوا من قبورهم ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ لأنه ما من أحد ولو كان مؤمناً في هذه الدنيا إلا وسيصيبه الحُزُن ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾[العنكبوت:2]، فقال الله ﷻ يحمدون الله ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ غفر ما كان منا من ذنوب، وهو شكور ﷻ إذ قبل أعمالنا القليلة وأثاب عليها هذا الثواب العظيم .

﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ﴾ وهي دار إقامة واستقرار ﴿لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾[الكهف:108] ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ لا بحولنا ولا قوتنا ولا بأعمالنا وإنما الأعمال سبب ﴿لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ النصب هو التعب وكرر الفعل ولا يمسنا فيها اللغوب من باب التأكيد على أنه لا نصب ولا لغوب، واللغوب هو الإعياء لأنه بعد التعب ما الذي يحصل للإنسان؟ إعياء وفتور فلا تعب ولا ما يعقب التعب.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هذا الصنف الآخر الذي لم يطع الله ﷻ ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا﴾ حتى يستريحوا ﴿وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾ كما قال تعالى ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا﴾[طه:74] وكما قال تعالى ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾[إبراهيم:17] وكذلك يدعون الملائكة ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَاب ِقَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ﴾[غافر:49-50]، فقال الله ﷻ هنا ﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ أي مثل هذا الجزاء نجزي كل كفور لم يقل كذلك نجزيهم حتى يشمل كل كافر وحتى يحكم عليهم بأنهم كفرة ﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا﴾ يعني يستغيثون فيها مع صراخ عظيم يصرخون ويصيحون ماذا يريدون؟ ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ نريد أن نرجع حتى نعمل عملًا آخر ولذلك قال تعالى ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾[الأنعام:28]، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنعام:27]، ودل هذا على أنهم يتمنون ذلك عند إحضارهم إلى النار وفي دخولهم في النار.

 فقال هنا ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ﴾ {ما} هنا تدل على الزمن يعني وقتاً يتذكر فيه من يتذكر قامت الحجة عليكم ﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ جاءكم الرسول ﷺ ويدخل في ذلك كل ما قاله المفسرون من أن النذير هو القرآن وأيضًا الشيب لكن ﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ أصرح ما فيه جاءكم الرسول ﴿فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ ما لهم من نصير يدفع عنهم هذا العذاب، لأن العذاب جزاء أعمالهم.

 

﴿إِنَّ ٱللَّهَ عَٰلِمُ غَيۡبِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (38) هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتٗاۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارٗا(39) قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ لَهُمۡ شِرۡكٞ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ كِتَٰبٗا فَهُمۡ عَلَىٰ بَيِّنَتٖ مِّنۡهُۚ بَلۡ إِن يَعِدُ ٱلظَّٰلِمُونَ بَعۡضُهُم بَعۡضًا إِلَّا غُرُورًا (40) ۞ إِنَّ ٱللَّهَ يُمۡسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ أَن تَزُولَاۚ وَلَئِن زَالَتَآ إِنۡ أَمۡسَكَهُمَا مِنۡ أَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا(41)﴾

 ﴿إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ عالم ما غاب في السماوات وما في الأرض ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ ما تخفيه الصدور فهو عالم به، وهذا يدل على أن الإنسان إذا استحضر هذا الأمر فإنه لا يقدم على ما يغضب الله بل يقدم على ما يرضي الله ﷻ.

 ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ﴾ يعني يخلف بعضكم بعضاً فتأملوا في أحوال السابقين الذين من قبلكم ﴿فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ عاقبة كفره عليه ﴿وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا﴾ أي لا يزيد كفر هؤلاء عند ربهم إلا أنه يبغضهم ولذلك قال عز وجل ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾[غافر:10]، ﴿وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا﴾ ما يزيدهم هذا الكفر إلا خسارًا، فتأملوا الأمم السابقة لما كفرت ماذا صنع الله بها.

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ ﴾ يعني أخبروني، قل يا محمد لهؤلاء ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ﴾ هل خلقوا شيئًا من الأرض؟ ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ﴾ هل هم اشتركوا مع الله في شيء من السماوات ولذلك قال تعالى ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾[سبأ:22].

 ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ﴾ هل أعطيناهم كتاباً من الكتب فهم على بينة وحجة واضحة على أن ما هم عليه من الشرك أنه حق لا، الاستفهام هنا للنفي لا، ولذلك قال تعالى ﴿أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ﴾[الروم:35]، ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾[الزخرف:21]، ﴿وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ﴾[سبأ:44].

 فقال هنا ﴿بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ يعني إلا خداعاً كل منهم يزين للآخر عبادة غير الله ﷻ كما قال ﷻ قال في سورة العنكبوت لما قال إبراهيم عليه السلام لقومه ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[العنكبوت:25].

﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا﴾ يمسكها ولذلك قال الله تعالى ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإذنهِ﴾[الحج:65]، وقال تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾[الروم:25]، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا﴾ أي لئلا تزولا ﴿وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ يعني إن زالتا لن يستطيع أحد أن يمسكها من بعده ﷻ ﴿وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا﴾ يعني ما يمسكهما ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ مع أن العباد يذنبون فهو حليم لا يعاجل العقوبة إنه كان حليماً غفوراً ويغفر الذنب.

﴿ وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَهُمۡ نَذِيرٞ لَّيَكُونُنَّ أَهۡدَىٰ مِنۡ إِحۡدَى ٱلۡأُمَمِۖ فَلَمَّا جَآءَهُمۡ نَذِيرٞ مَّا زَادَهُمۡ إِلَّا نُفُورًا(42)ٱسۡتِكۡبَارٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَكۡرَ ٱلسَّيِّيِٕۚ وَلَا يَحِيقُ ٱلۡمَكۡرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِۦۚ فَهَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلۡأَوَّلِينَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِيلًا (43) أَوَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَكَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعۡجِزَهُۥ مِن شَيۡءٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَلِيمٗا قَدِيرٗا (44)وَلَوۡ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهۡرِهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِۦ بَصِيرَۢا(45)

﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾ يقسمون بآلهتهم لكن إذا أرادوا أن يؤكدوا القسم أقسموا بالله، سبحان الله وهذا يدل على عنادهم وطغيانهم ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ بأغلظ أيمانهم ﴿لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ﴾ يعني قبل أن يأتي محمد ﷺ إليهم كانوا يقسمون يحلفون بالله  ﴿لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ﴾ يعني من اليهود والنصارى ولذلك قال ﷻ  ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾[الأنعام:156-157]، فقال هنا ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ يعني تباعد عن الحق من أجل أنهم يستكبرون في الأرض أو ذلكم النفور هو استكبار ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ يعني يريدون المكر السيء بالنبي ﷺ وبدينه ﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ﴾ أي مما أنزله الله ﷻ بالأولين وأضاف ذلك للأولين لأنه واقع بهم في أية أخرى سنة الله لأن الذي أوقعها هو الله فهو الفاعل لهذا الأمر، لكن سنة الأولين لأن هو المفعول بهم يعني أن العذاب حل بهم ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ فلن يغير أحد سنته ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ لا أحد يستطيع أن يحول سنة الله من شيء إلى آخر وقد وقع بهم، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله وقع بهم مثل ما وقع بهم في غزوة بدر.

﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ﴾ أولم ينظر هؤلاء فيسيروا في الأرض ويتأملوا في الأرض إذا ذهبوا في أسفارهم ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ كعاد وثمود يمرون عليهم ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾[العنكبوت:38]، ولوط ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْل﴾[الصافات:137-138]، ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا﴾[الفرقان:40]، فقال الله ﷻ هنا ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ﴾ ليس هناك شيء يعجزه فإذا أراد ﷻ شيئا فإنه يكون ولذلك قال بعدها ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ فهو العليم ﷻ بكل شيء وقدير على كل شيء.

 ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ﴾ لو يعاقب ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ لكنه إذا عاقبهم يعاقبهم ببعض ذنوبهم لعلهم يرجعون ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الروم:41]، وإلا لو أراد أن يؤاخذهم بكل ذنوبهم لهلكت الدواب قبل أن يهلك أصحابها ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ وخصص الدابة هنا لأن مصالح هؤلاء تقوم على الدواب فإذا ذهبت الدواب ذهبوا أيضاً معها ضمن العقاب، ﴿وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ قدره ﷻ ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾ وقت العذاب ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ فهو بصير ﷻ بعباده ولذلك لو قال قائل ما شأن أهل الإيمان؟ لو قدر الله أهلك الجميع قال بعض العلماء ينجي الله ﷻ أهل الإيمان، وقيل الجميع يميتهم الله ﷻ ولكن كما جاء في الحديث يُبعثون على نياتهم ولذا قال ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ من هو مؤمن ومن هو كافر.

 وبهذا ينتهي تفسير سورة فاطر وصلى الله وسلم على نبينا محمد.