بسم الله الرحمن الرحيم
التفسير الشامل
تفسير سورة فصلت من الآية (30) إلى آخِر السورة
الدرس (226)
لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلمُ على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ (30) نَحۡنُ أَوۡلِيَآؤُكُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَشۡتَهِيٓ أَنفُسُكُمۡ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلٗا مِّنۡ غَفُورٖ رَّحِيمٖ (32) وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ (33) وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ (34) وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ نَزۡغٞ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ (36)﴾
فكنا قد توقفنا عند قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ لما ذَكَر حالَ أولئك المكذبين، ذَكَر حالَ المستقيمين على شرع الله ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ على عقيدة صافية ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ على شرعِ الله، ولذلك في أول السورة قال ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ [فصلت:6].
﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ﴾ عند موتِهم يبشرونَهم بخيرٍ مِن الله عز وجل ﴿أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا﴾ أي أنكم لا تخافون على ما تُقدِمُون عليه ولا تحزنون على ما فاتكم من هذه الدنيا ﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ فنحن نتولى أمورَكم بأمْرِ الله عز وجل في هذه الدنيا، وذلك كما حصل في بعض الغزوات مِن نزول الملائكة، وكذلك ما يكون عند الموت إذ يطمئنون أهل الإيمان، وكذلك ما يكون عند الخروج من القبور، كما قال عز وجل:
﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء:103].
﴿وَلَكُمْ فِيهَا﴾ يعني في الجنة ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ أي ما تطلبونه ﴿نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ ذلكم النعيم هو نُزُلٌ من الله عز وجل أعدَّه لكم فهو الغفور الرحيم {مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ فهو عز وجل غفَر ذنوبَكم، ورَحِمَكم فأدخلَكم الجنة.
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا﴾ هنا الاستفهام للنفي أي: لا أحد أحسن قولًا ﴿مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ فأحسن القول أن يُدعى إلى الله عز وجل، وأعظم ما يدعى إلى الله هو التوحيد، وذلك بأن يُتبِعَ تلك الدعوة بعملٍ صالح يعمله ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ ولم يهمل نفسَه، وقد قال بعض المفسرين إن هذه الآية يدخل فيها المؤذون، ولا مانع من ذلك، لكن الآية تشمل كلَّ مَن دعا إلى الله ويدخلُ في ذلك المؤذون.
﴿وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ اعترف وأقَرَّ بأنه من المسلمين الذين أسلموا لله، ووحدوا لله.
﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ﴾ هنا لما ذَكَر الدعوةَ إلى الله عز وجل، فإن هناك مَن سيُعارِضُه، بل ربما هناك مَن يُؤذيه، وهذا شامل لمن دعا إلى الله ومن لم يدعُ إلى الله.
﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ﴾ يعني لا تستوي الفِعلةُ والخَصلةُ الحسنة مع الفِعلةِ والخَصلةِ السيئة ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ مَن أساء إليك ادفع إساءته بالتي هي أحسن ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ﴾ يعني: لو أساء شخصٌ إليك فأحسنت إليه ﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ يعني: قريبٌ وصديقٌ لك، وذلك إذا أحسنتَ إليه مقابل إساءته، فتنقلبُ تلك العداوة إلى وِلايةٍ وإلى حبٍّ ورحمة.
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا﴾ لأن ذلكم الفعل لا يقدر عليه أي شخص لكن الموفق من وفقه الله ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا﴾ تلك الخصلة وهي دفْع الإساءة بالتي هي أحسن
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ أي ما يُوفق إليها إلا الذين صبروا ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا﴾ أعاد الفعل مرة أخرى ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ أي إلا ذو نصيب عظيم، ولذلك ثبت قوله ﷺ:
” إِنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ، الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ “، يعني: على رَحِمِك الذي يُبغِضُك.
﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ﴾ أي: يدعوك ويُوسوسُ لك الشيطان بأيِّ نزْغٍ، فماذا عليك؟
لأن ما يجري مِن إساءةٍ لك، فالشيطانُ يُعَظِّمُ هذا الأمْر- فقال اللهُ عز وجل هنا: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ﴾ أيُّ نَزْغٍ وأيُّ وسوسةٍ مِن الشيطان فاستعذ بالله ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ هذا جواب الشرط ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ أين جواب الأمر فاستعذ بالله؟ ج/ محذوف يدلُّ عليه السياق، فاستعذ بالله يدفَعْهُ عنك.
ومِن ثَم: أخذ بعضُ العلماء أن الإنسان إذا تثاءب فإنه يقول: ” أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ” كما ذهب إلى ذلك بعضُ المعاصرين، لكن بعضهم خالف ذلك، وهذا هو القولُ الصحيح، لأن السياق في الآية لا يدل على تثاؤب ولا يدل على فِعلٍ من الإنسان، لكن التثاؤب إنما يحصلُ للإنسان من غيرِ قصدٍ منه.
﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ فالصحيح أنه لا يُقالُ شيء عند التثاؤب، ولذا لا نعلمُ حديثًا صحيحًا واردًا عن النبي ﷺ.
﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وفي سورة الأعراف قال: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف:200] لماذا كان هذا الأسلوب غير الأسلوب في سورة الأعراف؟
بينا ذلك في سورة الأعراف.
﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلَّيۡلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُۚ لَا تَسۡجُدُواْ لِلشَّمۡسِ وَلَا لِلۡقَمَرِ وَٱسۡجُدُواْۤ لِلَّهِۤ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ (37) فَإِنِ ٱسۡتَكۡبَرُواْ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُۥ بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمۡ لَا يَسۡـَٔمُونَ۩ (38) وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَٰشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاهَا لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ (39) إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلۡحِدُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا لَا يَخۡفَوۡنَ عَلَيۡنَآۗ أَفَمَن يُلۡقَىٰ فِي ٱلنَّارِ خَيۡرٌ أَم مَّن يَأۡتِيٓ ءَامِنٗا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ٱعۡمَلُواْ مَا شِئۡتُمۡ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ (40)﴾
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ تلك الآيات تدلُّ على عظمة الله، وأن من تدبر تلك الآيات عَلِمَ بأن الله هو الواحد الذي يستحقُّ العبودية ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ﴾ ذلكم الليل وذلكم النهار يُدخِلُ هذا في هذا، فينقُصُ هذا ويزيدُ هذا ﴿وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ فالشمسُ كما قال تعالى ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾[يس:38] وقال عن القمر ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾[يس:39]
﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ﴾ فإن الشمسَ والقمرَ يزولان ويذهبان، فإن الإله لا يكونُ غائبًا ﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ﴾ ولذا أخذَ بعضُ العلماء من هذه الآية الدلالة على صلاة الكسوف، وذلك لأنه نهى عن عبادة الشمس والقمر، لأنهما يزولان إما بذهابهما في غيرِ وقتهما وإما بالخسوف، فدل هذا على ما ذهب إليه هؤلاء العلماء، ودلت السنةُ الصحيحة على صلاة الكسوف.
﴿وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾ يعني مَن خَلقَ الشمس والقمر فإنه هو الذي يستحق العبودية، أما الشمسُ والقمر فإنهما مخلوقان. ﴿ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أي تُخلصون العبادةَ لله عز وجل، فلا تُشركوا معه أحداً.
﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا﴾ إن تكبر هؤلاء الإنس ﴿فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ وهم الملائكة ﴿يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ﴾ أي لا يَملٌّون، ولذلك قال عز وجل ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء:19-20].
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً﴾ لما ذَكَرَ تلك الدلائل السماوية العلوية، ذَكَرَ الدلائل الأرضية التي تدل على عظمة الله، وأن هو الذي يستحقُّ العبودية.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ﴾ قال ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ} فالآياتُ كثيرة ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً﴾ وذلك بأنها جدباء قاحلة، كما قال تعالى ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج:5].
قال هنا ﴿خَاشِعَةً﴾ وذلك لأن الخشوعَ يدل على الانكسار ﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ﴾ تحركت ﴿وَرَبَتْ﴾ أي أنها انتفخت وارتفعت مِن جَرَّاءِ الماءِ الذي يكونُ فيها، ومِن خروجِ النباتات ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى﴾ فكما أحيا هذه الأرض الميتة، هو يُحييكم بعد موتكم ﴿إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ليس على هذا الأمْر فحسب، بل هو على كل شيء قدير.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ إن الذين يَميلون في آيات الله عز وجل ويُحرفونها أو يجحدونها أو يُنكرونها ﴿لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ وهذا يدل على التهديد والتخويف.
﴿أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ﴾ يُلقى ويُدفَع في النار ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور:13] ﴿أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ﴾ ومعلومٌ أن الإلقاء في النار ليس به خير، وإنما الخيرية هنا من باب التهكم والتحقير لهؤلاء.
﴿أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ قال هنا أم من يأتي، يأتي بنفسه وهو مكرم مُعَزز ﴿أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا﴾ يعني في أمْن ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ الأمر هنا اعملوا للتهديد ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ مِن خيرٍ أو شر فإن الله سيحاسبكم، ولذا لما قال ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ قال ﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ مِن شرٍّ أو خير.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكۡرِ لَمَّا جَآءَهُمۡۖ وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٞ (41) لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ (42) مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدۡ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبۡلِكَۚ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغۡفِرَةٖ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٖ (43) وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِيّٗا لَّقَالُواْ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥٓۖ ءَا۬عۡجَمِيّٞ وَعَرَبِيّٞۗ قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًىۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ (44) وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ فَٱخۡتُلِفَ فِيهِۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ (45) مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ (46)﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ﴾ بالقرآن ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ وهنا ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ الجواب محذوف، من أن لهم العذاب الشديد.
﴿وَإِنَّهُ﴾ يعني القرآن ﴿لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ كتابٌ عزيز هذا القرآن لأنه مُنَزَّلٌ مِن العزيز الرحيم ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الزمر:1] فهو عزيز لأنه نسَخَ الكتبَ السابقة ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 48] فهو أفضلُ الكتب.
{وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيز} ثم بيَّنَ شيئًا مِن عِزَّتِه ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ لا يمكن لأحد أن يُحَرِّفَ هذا القرآن، لا مِن بينِ يدَيه ولا مِن خَلْفِه، ولا يستطيع أن يُغيرَه لأن الله عز وجل تكفَّلَ بحفظه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر:9] ولا يستطيع الشيطان أن يصل إلى هذا القرآن بأي شيء، ولذا ترى أن بعض الناس قد يحرف القرآن، أو أنه يُغير في بعض الحروف، لكن تجد أن هناك من يدافع عنه ويبين ضلاله، فعلى مدى تلك السنوات من عهد النبي ﷺ إلى الآن لم يستطع أحدٌ أن يغيره أو أن يبدله ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه﴾ فهو قويٌّ وعزيز، ولذا قال: ﴿تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ فالذي نزله هو الحكيم الذي هو عالِمٌ بمصالح عباده وخَلْقه، {حَمِيدٍ﴾ محمود على أفعاله، ومما يُحمد عليه جل وعلا أنه نزَّلَ هذا القرآن ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾[الكهف:1].
﴿مَا يُقَالُ لَكَ﴾ يا محمد ﴿إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ فالرسل قيل فيهم أنهم سحرة، وأنهم شعراء، قيل فيهم وقيل فيهم، فتسلَّ، فقال الله عز وجل ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ﴾ وقدَّمَ المغفرة لمن تاب وأناب إلى الله ﴿وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ فهو صاحبُ العقاب الأليم ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ﴾ [الحجر:49-50]، ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الرعد:6].
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا﴾ في أول السورة قال ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ قال هنا ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ أي لولا وضحت آياتُه، ولذلك في جاء في أول السورة ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت:3] فقال هنا عن هؤلاء أن القرآن لو نَزَلَ على أعجمي لقالوا هذا القول:
﴿ لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ كيف يكون هذا القرآنُ أعجميا، والذي أتى به وهو الرسول يكون عربيا؟ ولذلك قال تعالى ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء:198-199] وقال الله عز وجل ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل:103].
يقولون إن محمدًا يتعلم مِن الاعاجم هذا القرآن، فهي تُملى عليه بكرةً وأصيلاً، فقال الله عز وجل:
﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ فالذي ينتفعُ به وفيه هو هداية وشفاءٌ لأمراضهم الحسية والمعنوية هم أهلُ الإيمان.
﴿وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ كحالكم ﴿فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ في آذانهم صمم ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ بمعنى أنه كلما نزلت أية، فإنهم ينصرفون عنها، فيزدادون بذلك عُميًا وانصرافا عن الدين ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة:124-125].
فقال الله عز وجل هنا ﴿أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ حالُهم كحال مَن ينادي شخصًا عن بُعد فإنه لا يسمعه، فتسلَّ يا محمد فإن هؤلاء لا يريدون الهدى، ولذلك قال الله عز وجل عنهم في أول السورة ﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [فصلت:4] يعني هذا القرآن.
﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾.
ــــــــــــــــــــ
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ فتسلَّ بموسى، فقد أُعطي الكتاب وهو التوراة، ومع ذلك اختلف فيه كفارُ أمتِه. ﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ ولولا كلمة سبقت من الله عز وجل أنه لا يعذبُ قومَك يا محمد بعذابٍ يستأصلُهم، وذلك بأن يبقَوا إلى آجالهم لحقَّ عليهم العذاب ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ هم في شكٍّ من هذا القرآن، وهذا الشك ليس شكًا فقط مجردًا، وإنما شكٌّ مريبٌ جعلهم يترددون ويعمهون، ومِن ثَم: فإن العذابَ الأليمَ سَيَحِلُّ بهم في يوم القيامة.
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ فالعملُ والخيرُ يعودُ إليه ﴿وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ ومن أساء على نفسِه بهذا الإثم وبهذه الذنوب، فإنه يحملُ آثامَها ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ وذلك لكمال عَدلِه ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ وكلمة (ظلاّم) على وزن فعَّال، تكون للمبالغة، وتكون للنسبة، وهنا قال:
﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ لو كانت للمبالغة، لدل هذا على أنه عز وجل يظلم بعض الظلم، وحاشاه،
ولذلك في صحيح مسلم قال النبي ﷺ قال الله تبارك وتعالى: ” يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينَكم محرَّمًا فلا تَظالموا ” إذًا ما الجواب؟ كلمة فعّال قد تكونُ للنسبة، يعني نفى أن ينسب إليه أيُّ ظلم، فهنا ظلام على وزن فعّال مرادًا به النسبة لا المبالغة ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ فهو عز وجل لا يظلم، بل لا يريدُ الظلم، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران:108]
{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} [غافر:31]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿۞إِلَيۡهِ يُرَدُّ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِۚ وَمَا تَخۡرُجُ مِن ثَمَرَٰتٖ مِّنۡ أَكۡمَامِهَا وَمَا تَحۡمِلُ مِنۡ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلۡمِهِۦۚ وَيَوۡمَ يُنَادِيهِمۡ أَيۡنَ شُرَكَآءِي قَالُوٓاْ ءَاذَنَّٰكَ مَامِنَّا مِن شَهِيدٖ (47) وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَدۡعُونَ مِن قَبۡلُۖ وَظَنُّواْ مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ (48) لَّا يَسۡـَٔمُ ٱلۡإِنسَٰنُ مِن دُعَآءِ ٱلۡخَيۡرِ وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَـُٔوسٞ قَنُوطٞ (49) وَلَئِنۡ أَذَقۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنَّا مِنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةٗ وَلَئِن رُّجِعۡتُ إِلَىٰ رَبِّيٓ إِنَّ لِي عِندَهُۥ لَلۡحُسۡنَىٰۚ فَلَنُنَبِّئَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنۡ عَذَابٍ غَلِيظٖ (50)﴾
قال تعالى هنا: {إِلَيۡهِ يُرَدُّ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ} وفي سورة الأعراف: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾[الأعراف:187].
﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ فمَن سأل عنها فَلْيرُد عِلمَها إلى الله، ولذلك جاء عن النبي ﷺ كما في الصحيح لما سأله جبريل عن الساعة قال: ” ما المسئولُ عنها بأعلمَ منَ السَّائلِ”.
فقال الله عز وجل هنا ﴿ إِلَيۡهِ يُرَدُّ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِۚ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا﴾ يعني يعلم كل ثمرة تخرج مِن أكمامِها، وهو طَلْع الثمر ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى﴾ أيُّ أنثى مِن البشر أو مِن الدواب ﴿وَلا تَضَعُ﴾ تلك الأنثى ﴿إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾ عز وجل، ولذلك قال الله تعالى:
﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد:8].
ــــــــــــــــــــ
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾ في يوم القيامة ﴿أَيْنَ شُرَكَائِي﴾ أضاف الشركاء إليه لأنهم طغَوا وتجبروا، فجعلوا لله شركاء، فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركاء معي!؟
﴿قَالُوا آذَنَّاكَ﴾ يعني أعلمناك يا ربنا ﴿مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ﴾ ليس هناك أحدٌ منا يشهدُ أن لك شريكا، اعترفنا بذلك، لكن هذا الاعترافَ لا ينفع ولا يفيد.
﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾ غاب عنهم في يوم القيامة ﴿مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ مِن تلك الآلهة ﴿وَظَنُّوا﴾ يعني: أيقنوا -الظن هنا بمعنى اليقين- ﴿مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ مِن نجاة ومَهرَب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
﴿لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ﴾ يعني: لا يَمَل الإنسان مِن دعاء الخير، مِن رزقٍ وصحةٍ وما شابه ذلك ﴿وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ أيُّ مَسَّة ولو قَلَّت (ولو كانت قليلة)، لو جاءه من الشر مما لا يُلائمه من فقر ومرض ﴿وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ فاليئوسُ والقنوط هما بمعنى واحد، فاليأسُ هو القنوط؛ والقنوطُ هو اليأس، لكن إذا اجتمعا كما في هذه الآية: فاليأسُ هو استبعاد زوال المكروه، والقنوط هو استبعاد حصول المطلوب، ومِن ثَم: فإن هذا حال مَن أعرض عن دين الله، أما حالُ أهلِ الإيمان فكما قال ﷺ عند مسلم: « عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له ».
ــــــــــــــــــــ
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا﴾ بعد ما مَسَّه الضُّر ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً﴾ مِن سَعةٍ ومن غِنى ومِن صحة ﴿لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾ يعني أنا استحقُه ﴿لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾ نسِيَ نعمةَ الله.
بل قال ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَة﴾ أي أنه لا بعثَ ولا نشور. ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ يعني العاقبة الحسنة، ولذلك قال الله عز وجل:
﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾ [سبأ:37].
فقال الله عز وجل عن هذا الرجل: ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ على افتراض لو رجعتُ ﴿إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾
﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا﴾ لنخبرنّهم بهذا النبأ المترتب عليه العقاب ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ شديد بشدةِ ما كانوا فيه من الضلال.
﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ﴾ إذا أنعمنا عليه أعرضَ، إلا مَن كان مؤمنًا تقيًا، فإن حالَه عند السراء يشكر، وحاله عند الضراء يصبر.
﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ﴾ أعرض عن دين الله ﴿وَنَأى بِجَانِبِهِ﴾ أعرض وتباعد بجانبه حتى لا يسمع الحق، ولذا قال الله عز وجل هنا وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ}
﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ إذا مسه الشر مِن فقر ونحو ذلك، ﴿فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ يعني دعاء طويل، وهذا يدل على استمراره في الدعاء من أجل أن يزيلَ عنه الضر، ولذا قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾ [يونس:12]
﴿قُلْ﴾ قل يا محمد لهؤلاء كفار قريش ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ أخبروني ﴿إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ يعني هذا القرآن ﴿ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ﴾ ما هو حالُكم؟ ﴿مَنْ أَضَلُّ﴾ أنتم في حال ضلال ﴿مَنْ أَضَلُّ﴾ يعني لا أحد أضل مِن هذا ﴿مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ فأنتم في شقاقٍ ونِزاعٍ بعيدٍ مع نبيكم ﷺ، كما ذَكَر عز وجل في أول السورة:
﴿وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ [فصلت:5].
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا﴾ الكونية ﴿فِي الآفَاقِ﴾ في أماكن السماوات وفي أماكن الأرض ﴿وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ نريهم ذلك في أنفسهم، فنريهم قدرةَ الله ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات:21]
﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ ﴾ أي: القرآن وما جاء به محمدٌ ﷺ، ومِن ذلك البعث ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ﴾.
﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ بلى والله، فهو شهيدٌ عز وجل على صِدقِ محمدٍ ﷺ
{قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} [العنكبوت:52]
وهو شهيد عز وجل على صِدقِ هذا القرآن، فهو كلامٌ منه، ولذلك في أول السورة ﴿تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [فصلت:1] ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾[الجاثية:2]، ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾[غافر:2] إلى غيرِ ذلك من الآيات.
﴿أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ﴾ ﴿أَلا﴾ للتأكيد، إِنَّهُمْ: إن للتأكيد أيضًا ﴿أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾ في شك من لقاء ربهم ﴿أَلا إِنَّهُ﴾ عز وجل ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ كما قال تعالى ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 19] فدل هذا على إحاطته عز وجل بِخَلْقِه، وسيُجازيهم على أعمالِهم في يوم القيامة.
وبهذا ينتهي تفسيرُ سورة فصلت.