التفسير الشامل ـ تفسير سورة ( محمد )
الدرس (234 )
فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة محمد… وهي من السور المدنية….
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)}
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} يعني من كفر وصد عن سبيل الله أضل الله عمله، وأحبط عمله فيما يصنعونه من أعمال صالحة في دنياهم؛ لأن مبناها على الشرك، وكذلك أبطل أعمالهم التي يكيدون بها النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} يعني أنهم جمعوا مع الإيمان ماذا؟ الإيمان بالله جمعوا مع ذلك الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبما نزل عليه وهو القرآن؛ لأنه حق {وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } يعني هذا القرآن هو الحق من ربهم {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} يعني أنه غفر لهم الذنوب، {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} يعني أصلح شأنهم فيما يتعلق بحياتهم الدنيوية، وبحياتهم الأخروية؛ لأن البال هو الحال، وأيضا إذا صلح الحال والبال، فإن بال الإنسان يكون مستقرا، وله الحياة الطيبة والراحة في الدنيا والراحة الدائمة في الآخرة.
{ذَلِكَ} يعني بطلان وإضلال أعمال الكفار وإصلاح شأن أهل الإيمان من تكفير السيئات وإصلاح بالهم {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} وهذا جزاء كل صنف، {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} يعني مثل ما ضربنا ذلكم المثل لحال ما يكون للكفار من عذاب، ولحال ما يكون لأهل الإيمان من نعيم وسعادة كذلك يضرب الله الأمثال الكثيرة التي تبين سعادة أهل الإيمان وشقاء وضلال أهل الكفر.
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)}
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} يعني اضربوا الرقاب {فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى} يعني اشتغلوا بضرب الرقاب حتى إلى ماذا؟ إلى أنكم تثخنون فيهم الجراح {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} وهذا يدل على أسرهم. {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} إما أن تمنواعليهم من غير فداء، أو أن تأخذوا فداء. {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وهذه الآية على الصحيح ليست منسوخة، وإنما ما أمر الله به من القتل وما شابه ذلك من الآيات، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على ماذا؟ على أنه قتل بعضهم، وأيضا منَّ على بعضهم، وأخذ الفداء من بعضهم، وهذا يدل على أن ولي الأمر مخير بين هذه الأمور إما الأسر، وإما القتل، وإما المن من غير فداء، وإما الفداء.
{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} يعني حتى تضع الحرب أثقالها، وذلك لأن الحرب إذا ابتدأت يحمل فيها السلاح؛ لأنها تثقل ماذا؟ تثقل المقاتلين، وأيضا كما قال بعض المفسرين {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} بمعنى حتى يسلم هؤلاء الكفار، فيضع الله عنهم بعد هذه الحرب بعد إسلامهم يضع عنهم أوزارهم وذنوبهم.
{ذَلِكَ} يعني القتل بين هؤلاء وبين هؤلاء، {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} من غير أن تقاتلوهم، {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} ليختبر بعضكم ببعض؛ ليعلم المؤمن من غير ذلك، ولذلك ماذا قال تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} كما في آخر السورة.
{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} لن يبطل أعمالهم فهي محفوظة لهم.
{سَيَهْدِيهِمْ} سيهديهم في هذه الدنيا إلى ما فيه خير لهم، {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} يعني يصلح شأنهم.
{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} يعني أنهم كما جاء بذلك الحديث الصحيح يعرفون منازلهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” والله لهم أعرف بمنازلهم في الجنة منهم بمنازلهم في الدنيا” يذهبون إليها مباشرة، ويدخل في ذلك أيضا قول من يقول {عَرَّفَهَا لَهُمْ} يعني أنه من الطيب يعني طيبها لهم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ} الله ليس بحاجتكم والمقصود هنا أنهم ينصرون دين الله، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} مع النصرة تثبيت الأقدام؛ لأن تثبيت الأقدام يدل على ثبوت القلب.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} يعني لهم التعاسة يعني فتعسوا {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} يعني أنه أحبط أعمالهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} {ذَلِكَ} وهو ضلال الأعمال والتعاسة التي لهم، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وهذا يدل على ماذا؟ على أن من أبغض الدين أو أبغض شيئا من الدين فإن عمله يكون باطلا، ويكون من الكفار.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} كفار قريش {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كقوم عاد وثمود وما شابه هؤلاء {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يعني أهلكهم تدميرا فلم يبق منهم أحدا، ولذلك قال {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} يعني أمثال هذه العقوبات تحل بالكافرين، وفي هذا تخويف لكفار قريش، فقال الله {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا} ذلك مما أجراه الله على هؤلاء من العقوبات {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا} يعني أنه يتولاهم ويحفظهم {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} أي لا أحد ينصرهم، ومن ثم فإن الولاية هنا التي للمؤمنين ولاية خاصة، وأن الولاية العامة فلجميع الخلق كما قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} لكن الولاية هنا لما قال {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} أي لا ولاية لهم من الله وهي الولاية الخاصة التي تقتضي النصرة والتأييد والحفظ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}.
هذا حالهم في الدنيا، أما حالهم في الآخرة:
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}.
{يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} أكل وشرب ونوم من غير طاعة ومن غير عبادة، {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} والمقر{وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} يعني أنها مقر لهم.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً} كم من قرية يا محمد كثر من القرى، {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ } وهم كفار قريش يعني أهلكنا تلك الأمم السابقة، وهم أشد قوة من قومك {فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} فلم ينصرهم أحد.
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ} لا يستويان {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} على إيمان وهدى وخير، {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} زين له الشيطان عمله هل يستويان؟ لا، {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} زينت لهم أعمالهم، وأيضا اتبعوا أهواءهم.
ثم ذكر ماذا؟ صفة الجنة االتي يدخلها أهل الجنة لما ذكرها في أول الآية على وجه الإجمال هنا بينها على وجه التفصيل…
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)}
{مَثَلُ} يعني صفة {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ} وقد وردت الأحاديث أن في الجنة أربعة أبحر بمعنى بحر الماء والعسل والخمر واللبن، وجاءت الأحاديث من أن أنهار الجنة لا حواف لها، {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ} يعني لم يتغير ماذا؟ لم يتغير لونه، ولا رائحته، {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} يعني لم يكن حامضا، وما شابه ذلك إذا خرج من الضروع، أو بقي مدة من الزمن. {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} يتلذذ بها الشاربون بخلاف خمر الدنيا، فإن هناك من الكفار حتى من الكفار لا يشربونها؛ لأنها ليست لذة. {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} لا شمع فيه، ولا أوساخ. {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا} مع ذلك الذي مضى {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} مما تشتهيه الأنفس، وأيضا أعظم من ذلك {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} مع ذلك النعيم غفر الله لهم، فحصل لهم المطلوب وهو الجنة، وزال عنهم المكروه، وهو ماذا؟ الذنوب. {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} هل يستويان؟ ولذلك قال {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} هل يستوي هذا وهذا؟ {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} وحاله {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} أي ماء شديد الحرارة {فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} فقال الله {وَسُقُوا مَاءً} {وَسُقُوا} دل هذا على أنهم يسقون رغم أنوفهم {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)}
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} من حال هؤلاء الكفار وأعظمهم هؤلاء المنافقون {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وهم الصحابة الذين أتوا من أجل الانتفاع بالقرآن. {قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا} ماذا قال الآن؟ قلوبهم ماذا؟ قلوبهم مظلمة لا يريدون الحق {مَاذَا قَالَ آَنِفًا} يعني الآن، ومن ثم بعض الناس يقول إن كلمة استأنف لا تكون في الشيء الذي أخذ فيه، ثم ابتدئ به، وإنما يكون في أول الأمر، وهذا ليس بصحيح، فدلالة اللغة العربية تدل على أن الاستئناف يكون لبداية الشيء ولمواصلة الشيء، ولذلك يقال استأنفت المسير، ومعلوم أنه سار من قبل، فهو يستأنف المسير حتى يكمله، وكتب اللغة شاهدة بذلك.
{مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلم يفقهوا ما يقوله عليه الصلاة والسلام، {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} دل على خطورة اتباع الهوى.
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} يعني هؤلاء اهتدوا فزادهم الله ماذا؟ هداية على هدايتهم، وهذا يدل على ماذا؟ على أن العبد محتاج إلى هداية الله باستمرار، ومع ذلك ماذا جرى بعد هذه الهداية؟ {وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} لما زادهم الهدى وهو يتضمن العلم النافع ماذ زادهم؟ التقى إذ عملوا بهذا الهداية، فاتقوا الله بفعل أوامره وباجتناب نواهيه.
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ} يعني هؤلاء الكفار، {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} يعني فجأة {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} جاءت علاماتها التي تدل على ماذا؟ على قربها {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} وأتى بصيغة الفعل الماضي؛ لأن أشراطها متحققة كما أن وقوعها متحقق. {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} يعني إذا جاءت الساعة من أين لهم التذكر، {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} لا ينفع هذا التذكر. {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} ولذلك ماذا قال عز وجل {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}
{فَاعْلَمْ} يا محمد يعني إذا كان هذا حال هؤلاء فاعلم أن النجاة مما يكون من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن التوحيد لابد فيه من العلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أي لا معبود بحق إلا الله. {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ولذلك إن العبد يحتاج إلى أمرين كما قال شيخ الإسلام: إلى التوحيد وإلى الاستغفار، ولذا ماذا قال تعالى {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} فقال تعالى {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وهل يقع من النبي صلى الله عليه وسلم ذنوب أو لا؟ مر معنا ذلك مفصلا في قوله تعالى {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} في سورة النساء، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} يعلم عز وجل {مُتَقَلَّبَكُمْ} يعني ما تذهبون فيه من التقلب الذهاب والإياب والمجيء في دنياكم، وأيضا ما يكون في أخراكم {وَمَثْوَاكُمْ} يعني ما تستقرون به في هذه الدنيا، وما يكون حالكم بعد موتكم.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} أهل الإيمان يقولون متى تنزل سورة أخرى حتى نعمل بها؟ يريدون عمل الخير {وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ} يعني هلا {نُزِّلَتْ سُورَةٌ} حتى نعمل بها، {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} يعني واضحة المعاني {مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وهم هؤلاء المنافقون {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} مرض النفاق، {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} كنظر ماذا؟ كنظر المغشي عليه من الموت لما تأتيه سكرات الموت كيف تكون عيونه؟ فقال {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} يحدقون النظر بك؛ لأنهم مستغربون هذا الأمر، وهو الجهاد، وأيضا لا يريدونه كرها، {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} قال بعض المفسرين هي كلمة تهديد يعني أجدر بهؤلاء عقاب من الله.
ثم قال{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} يعني طاعة وقول معروف هو خير لهم من هذا الصدود، ولكن القول الآخر لعله هو الأرجح لسياق الآيات يعني {فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} يعني الأولى بهم أن يطيعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يقولوا قولا معروفا خيرا. {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} يعني إذا أُكد على الأمر في القتال {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} لأن الله سيعينهم فيكون خيرا لهم في دنياهم وفي أخراهم.
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} يعني هذا المتوقع منكم أنتم ماذا؟ من أنكم إن توليتم عن دين الله {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} يعني أنكم لا تصلون، وأيضا هذا يدل على القول الآخر أيضا {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} يعني أصبحت لكم ولاية وسلطة وملك من أنكم ماذا تفعلون المتوقع منكم أنكم تفسدون في الأرض، وأنكم تقطعون الأرحام
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} وهذا يدل على وجوب صلة الأرحام، والنهي عن الفساد في الأرض، وأعظم الفساد في الأرض أن يفسد في دين الله بالذنوب والمعاصي وأعظم ذلك الكفر بالله.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم من رحمته {فَأَصَمَّهُمْ} فلم يسمعوا الخير {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} بمعنى أنهم لم يبصروا الحق.
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} إذا أرادوا أن تكون قلوبهم منفتحة مهتدية فماذا عليهم حتى يكونوا على خير ما يكون؟ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} حال هؤلاء {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} من أن القلوب أقفلت، فلذلك لا يتدبر القرآن، ولذلك ماذا يقولون {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا} ولذا قال تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}
فقال الله {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)}
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} هؤلاء تبين لهم الهدى من يرتد على أدباره، وهذا يدل على أنه يولي ظهره ويعطي دبره يدل على أنه منصرف لا يريد الخير {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} الهدى اتضح لهم. {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} يعني أنه وسوس لهم وأزَّهم {وَأَمْلَى لَهُمْ} يعني أنه أملى لهم من أنهم سيبقون في هذه الدنيا {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، فقال الله عز وجل {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} ما سبب ذلك؟ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا} يعني هؤلاء المنافقون قالوا للكفار من اليهود وغيرهم نحن معكم في بغض محمد صلى الله عليه وسلم وفي مقاتلته، ولكن على سبيل السر {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} يقولون للكفار {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} في عداء محمد عليه الصلاة والسلام، ولكنهم جهلة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} يعني ما يسرونه وما يخفونه.
{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ} ما حال هؤلاء إذا توفتهم الملائكة؟ {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} يعني يضربون المقدمة من أجسادهم، والمؤخرة من أجسادهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا} ذلكم العقاب حال الاحتضار {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} يعني ما يغضب الله {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} أي كرهوا الأعمال التي ترضيه عز وجل كرهوا الدين، {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطل أعمالهم.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)}
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} من نفاق {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} يعني أحقادهم سيخرجها، ولذلك قال بعض السلف يقول: “ما أخفى أحد سريرة إلا ظهرت على فلتات لسانه وتقاسيم وجهه”
{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} يعني يا محمد لعرفناك هؤلاء؛ لأن أرى هنا بمعنى التعريف {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي بعلاماته، {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} يعني من أقوالهم تعرف أن هؤلاء ليسوا على الدين، ولذلك بعض المفسرين قال: ” ما من منافق إلا والنبي صلى الله عليه وسلم قد علم حاله”.
وبعض المفسرين قال:” إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفهم كلهم، وإنما يعرفهم عن طريق لحن القول إذا تكلم أحدهم {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} يعني يميل لحن القول يعني إمالة القول يريد الباطل لكن بصورة الحق، ولذلك مما يدل على القول الآخر أن الله قال {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} فدل على أن هناك طائفة لا يعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} جميع الأعمال يعلمها عز وجل لا يخفى عليه شيء.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} يعني الله يختبر الناس، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ} علم ظهور ومجازاة، وإلا فهو عالم بحاهلهم قبل أن يخلقهم، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} يعني من يصبر ومن لا يصبر، من يجاهد ومن لا يجاهد.
{وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} يعني يا من تقولون من أننا سنفعل وسنفعل وسنفعل إذا أتاكم الأمر هنا ليس العبرة بما تقولون وإنما العبرة على ما تخرجه أعمالكم مما يدجل على صدق ما في قلوبكم، أو كذب ما في قلوبكم.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)}
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا بيان لعقاب من كفر وصد عن سبيل الله، كما قال في أول السورة {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} هنا ماذا قال؟ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} يعني خالفوا الرسول {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} يعني لو شاقوا الرسول وخالفوه عليه الصلاة والسلام ولو لم يتبين لهم الهدى لكانوا على ضلال فكيف بعد بيان الحق؟! {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} إنما الضرر عليهم، {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} مما يزعمون أنها تفيدهم {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} نداء لأهل الإيمان {أَطِيعُوا اللَّهَ} يعني أنكم لا تصدوا عن سبيل الله كحال أولئك، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} يعني لا تكونوا كحال من شاقق الرسول في الآيات السابقات {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وذلك بأنكم تراءون بها، أو تبطلوا الفريضة ستدخلون في الفريضة فتبطلونها فهذا لا يجوز إلا إذا كانت هناك ضرورة، وأيضا عليكم من باب الاستحباب إذا دخلتم في نافلة أنكم لا تقطعوها، لكن لو قطعها الإنسان لا إثم عليه إلا إذا كان حجا أو عمرة فإنه يلزمه الوفاء.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} مما ذكر عز وجل عن هؤلاء في الآيات السابقات، {ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} يعني لو أنهم أسلموا قبل الموت فلا يدخلون ضمن هذه الآية كقوله تعالى {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ}
قال هنا {ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}
{فَلَا تَهِنُوا} يعني لا تضعفوا {فَلَا تَهِنُوا} لا تضعفوا ولا تجبنوا، {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} يعني إلى المصالحة {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ يعني أنتم الأعلون وأقوى منهم في مثل هذه الحال لا تطلبون المصالحة وهذا لا يتنافى مع قوله تعالى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} متى ما رأى الإمام أن المصلحة من السلم أو غيره فليفعل ذلك، لكن في مثل هذه الحالة وأنتم الأعلون أكثر قوة وأكثر عددا وما شابه ذلك هنا هذا لا يتأتى ولا يصلح، فقال تعالى {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} معكم بالمعية الخاصة يؤيدكم وينصركم {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} لن ينقصكم أعمالكم.
{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}
{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} هذه الحياة الدنيا، والمرد إلى الله {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} فيثيبكم الله {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} لا يسألكم أموالكم إلا ما أوجبه الله عليكم من الزكاة الواجبة.
{إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} يعني أنه يلح في المسألة {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا} يعني إن يسألكم الله هذه الأموال أو إن يسألكم النبي صلى الله عليه وسلم أجرا على من باب الفرض أجرا على رسالته، وإن كان الأول هو الأظهر {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} ما الذي يحصل؟ {تَبْخَلُوا}، طبيعتكم البخل، {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ}
{وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} يعني أحقادكم، ولذا قال بعض العلماء قال: إن سؤال الإنسان لماله إذا أكثرت عليه المرة الأولى يمكن يعطيكم، لكن المرة الثانية والثالثة يخرج الحقد.
{هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فيما يجب عليكم أو إذا كان الإنفاق حتى على وجه الاستحباب من باب ماذا؟ يكون في طاعة الله، ومن ذلك الجهاد في سبيل الله {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} هو الذي بخل على نفسه إذ إنه حرم نفسه الأجر من الله.
{وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} الأصل فيكم الفقر، ولذلك ماذا قال تعالى؟ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
فقال تعالى {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} تعرضوا عن الدين {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} يعني يكونون أفضل منكم في ماذا؟ في تولي هذا الدين، ومرت هذه الآية كثيرا {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ} إلى غير ذلك من الآيات…
وبهذا ينتهي تفسير سورة محمد….