بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة هود من الآية ٨٤ إلى الآية١٠١
لفضيلة الشيخ/زيد بن مسفر البحري
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تَسْليمًا كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد
(مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ) أي حينما تتعاملون مع الغير سواءٌ كان بيعا أو شراءً فإنه لا يجوز لكم أن تُنقصوا المكيال والميزان، ولذا قال (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ) يعني أنتم مع غنى وسعَة فإنَّ نَقْصَ الميكال والميزان هو مذموم ولو كان الإنسانُ فقيراً فكيف إذا كان في حالةِ خير وفي حالة سَعَة، ومع هذا فإنهم مع كفرهم بالله عز وجل اعتدوا على حقوق الآخرين.
(وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ): حذرهم من العذاب الأليم ووصف اليوم بأنه مُحيط، بمعنى: أن العذاب إذا نزل فإنه يَنزل بكم ويُحيط بكم كما يُحيط بكم اليوم.
(وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ) لما نهاهم عن نُقصان الكيل والميزان أمَرَهُم مرةً أخرى على سبيل الأمر، أما ما مضى فهو على سبيل النهي، هنا أمَرَهُم بماذا؟ بإيفاء الكيل والوزن، ولذا قال عز وجل: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)) فإنهم يُوَفُّون حقوقَهم التي لهم بينما الحقوقُ التي عليهم فإنهم لا يُعطون الناسَ حقوقَهم كاملة.
(وَيَا قَوْمِ) وهنا ناداهم باسم القوم من باب التلطف معهم (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل
(وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) هنا على وجهِ العموم، بمعنى: لا تُنقصوا الناسَ اشياءَهم سواءٌ كان كيلا أو وزنا.
(وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)): نهاهم عن الإفساد وقال هنا {ولا تعثوا} وهو أشدُّ الإفساد، بمعنى أنه كرر النهي عن الإفساد مرتين باختلاف اللفظ.
(وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) وهم مع هذا كلِّه كما مر معنا في سورة الاعراف هم يقطعون الطريق ويأخذون من الناس حقوقَهم ويصرفون الناس عن دين الله عز وجل ولذا قال عز وجل عنهم كما في سورة الأعراف كما مر معنا: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا)
وقال هنا (بَقِيَّة اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بقيةُ الله: أي دين الله وما أبقاه الله عز وجل لكم من المال الحلال خيرٌ من المالِ الكثير الذي هو مأخوذٌ بالباطل.
(بَقِيَّة اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهو خيرٌ لهم في الدنيا وفي الآخرة لذا حثَّهم وحظَّهم وقال إن كنتم مؤمنين فعليكم أن تأتمروا بهذا الأمر.
(بَقِيَّة اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي لست بحفيظٍ عليكم وإنما أنا مُبَلِّغٌ رسالةَ ربي فالله عز وجل يحفظُ عليكم أعمالَكم وسيجازيكم عليها وما أنا عيكم بحفيظ.
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) وهنا على سبيلِ التحقير له ومن باب التهكُّم (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ) أي: أو أن نترُكَ (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) بما تقوله لنا من هذا القول (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) وهذا من باب التهكم له
(إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) الحليم: هو الذي يصبر ويعفو عمن ظَلَمَه، والرشيد: هو الذي يُحسِنُ التصرف، وأرادوا بذلك بأنه ليس بحليم وأنه ليس برشيد، وقد قال بعضُ العلماء: أن قولَهم هذا كقولِ قوم صالح (قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) ولكن الأظهر ما بيّناه من أنهم أرادوا بهذا التهكم والتنقص له.
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) وناداهم باسم القوم من باب ماذا؟ من باب أنه منهم ومن باب التلطف معهم
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أرأيتم أي أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي دلائل واضحة وبينة (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا) ومن هذا الرزق الحسن النبوة، وأيضاً رزقني المال الحلال.
(وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ) أي بهذا الأمر الذي أمرتكم به (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) دلّ هذا على أن من يأمر بالخير وإذا به يعرض عنه فإنه مذموم.
(وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أي ما أريدُ إلا الإصلاح بهذه الأوامر التي أمرتكم بها.
(مَا اسْتَطَعْتُ) أي حسب استطاعتي فإنما أنا بشرٌ فاستعينُ بالله عز وجل، ولذا قال بعدها:
(وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) أي من أنَّ التوفيقَ بيد الله عز وجل (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) ومن ثَمَّ فإنه حتى الأنبياء بحاجةٍ إلى توفيق الله وإلى إعانةٍ من الله، ومن ثَمَّ فكيف بغيرهم، فعلى المسلم أن يُفَوِّضَ أمَرُه إلى الله، وأن يطلبَ منه التوفيقَ والإعانةَ على الخير.
(وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) ومع ذلك ماذا قال (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) دلّ هذا على أنَّ أعظمَ ما يتوكلُ المسلمُ على ربه أن يتوكلَ عليه فيما يَخُصُّ دينَه ولذا لمَّا قال (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) عليه وحده عز وجل (تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع بالعبادةِ إليه
ومن ثَمَّ جمع هنا بين ماذا؟
بين العبادة في قوله (أُنِيبُ) وبين الاستعانة في قوله (تَوَكَّلْتُ) وهذا كثير، منها كما سياتي معنا قولُه تعالى (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)
وكما مرَّ معنا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إذا دلَّ هذا أنَّ العبدَ لا حول له ولا قوة إلا بالله عز وجل.
(وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ) وناداهم أيضاً باسم القوم من باب التلطف (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يَحمِلَنَّكُم (شِقَاقِي) أي مخالفتي بأن تكونوا في شَق بمعنى المُخالفة والُمباعدة عنِّي (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ) بمعنى أنَّ هذا الشقاقَ منكم لي سَيحِلُّ بكم مثل ما حل بالأمم السابقة (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ) وهم الذي مر ذِكرهم معنا في هذه السورة ثم قال (وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) دلّ هذا على أن شُعيباً كان بعدَ لوط ولذا قال (وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) أي ليسوا ببعيدين عنكم من حيثُ الزمن ومن حيثُ المكان (وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ)89).
(وَاسْتَغْفِرُوارَبَّكُمْ ) أمرهم بالاستغفار مع ماذا؟ مع التوبة، وقد مر معنا أن الأنبياءَ الذين سبق ذِكْرُهُم أمروا قومَهم بالاستغفار مع التوحيد، ولذا حتى النبيُّ ﷺ في أول السورة ماذا قال عز وجل؟ (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) لمَ؟ (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ)
وكما قال هودٌ عليه السلا: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) وكما قال صالحٌ أيضا قال هنا شعيب مما يدل على ماذا؟ على أنَّ العبدَ لا غِنى له عن التوحيد ولا غِنى له عن الاستغفار، لأنه إذا وَحَّدَ اللهَ عز وجل فقد عَظُمَ دينُه وهو لا يَسلم من الذنوب فكان محتاجا إلى الاستغفار.
(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ومر معنا الفرق بين الاستغفار وبين التوبة في هذه السورة.
(إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) بمعنى أن من تاب إلى الله فهو عز وجل يَرحَمُه ثم إذا رَحِمَهُ فإنه يُحبه ولذا قال (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) ذكر المودة وهي المحبة، ولذا ماذا قال عز وجل في سورة البروج: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) فدلّ هذا على أن من تاب إلى الله أحبَّهُ الله عز وجل.
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ) أي ما نفهمُ (كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ) كما قالت كفار قريش للنبي ﷺ: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) أي خلاف (فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)
فدلّ هذا على ماذا؟ على أن أقوالهم تشابهت لما تشابهت قلوبُهم على الكُفر
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا) فأنتَ ضعيفٌ لا حولَ لك ولا قُوة وأنت مُستضعف ومن ثَمَّ قال بعضُ المفسرين: إنَّ كلمة ضعيفا هنا تدل على أنه ضريرُ البصر بمعنى أنه أعمى وذلك لأن لغةَ حِمْيَر تدل على أنَّ كلمة ضعيف تدلُّ على ذَهاب البصر، ولكن الذي يَظهر من أن السياق أرادوا بذلك أنهُ ضعيفٌ مُستضعف لا حولَ له ولا قوةَ، وهذا هو الأنسبُ للسياق، ثُمَّ إنَّ نِسبة العمى لنبيٍّ من الأنبياء يُحتاجُ في ذلك إلى دليلٍ واضحٍ لا أن يُبنى هذا على لُغةٍ من لغات العرب.
(وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ) أي عشيرتُك (وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) وهو القتل بأشد أنواع القتل وهو الرمي بالحجارة (لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) أي ليس لك قَدْرٌ وليس لك معزَّةٌ عندنا (وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ) أيضاً تلطَّفَ معهم فقال يا قومِ، وانظروا كم تكررت كلمة يا قومِ من شعيبٍ عليه السلام حتى يستلطفَ قلوبَ قومِه ، لكنَّ المُوفَّق من وفقه الله والهداية بيد الله.
(وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ) أرهطي: أي عشيرتي
(أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ): أي أرفع قدراً من قدرِ الله عز وجل عندَكم (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي اتخذتم أوامر الله وراءكم ظِهْرِيًا لا تُبالون بها.
(وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فهو قد أحاط بكلِّ ما تعملون، ومن ثَمَّ يَتناسبُ هذا مع ما ذَكَرَ شعيبٌ عليه السلام (وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) فاللهُ مُحيطٌ بأعمالِكم وسَيَحِلُّ بكم العذاب المُحيط ولذا قال: (إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).
(وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) كرر كلمة يا قومِ من باب التلطف مع هؤلاء
(وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) أي على تمكنكم وعلى ما تذهبون إليه مما تذهبون إليه.
(وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ) بمعنى أنني مُبلغٌ رسالةَ ربي وعاملٌ بما يأمرني به عز وجل.
(وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيه) أي يُهينه (وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا) أي انتظروا (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) فأنا مُنتظر.
ومن ثّمَّ فإنَّ هذه الآيةَ مر معنا نظيرٌ لها لكن قد تختلف عنها في بعضِ الأشياء وهي في سورةِ الأنعام أمر الله عز وجل نبيه محمدا ﷺ فقال: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) ذكر الفاء في سورة ماذا؟ في سورةِ، الأنعام وهنا لم تُذكر الفاء لأنها والعلمُ عندَ الله كأنها كلامٌ مستأنفٌ لسؤال بمعنى اعملوا على مكانتكم، ما الذي يترتب على ذلك؟
وهنا قال (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ) مما يدل على أنَّ حَذْف الفاء هنا من بابِ التشديد لهم في الأسلوب بعدما يئسَ شعيبٌ عليه السلام من هدايةِ قومِه بينما في سورةِ الأنعام هنا فيه تلطف من النبيِّ محمد ﷺ (اعْمَلُوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) انظُر (مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) فيه تلطُّف، لكن هنا فيه تشديد من شعيب عليه السلام بعد ما يئسَ من هدايةِ قومه (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما الذي بعدها؟ تهديد: (مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ)
(وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا) أي أمرُ الله عز وجل بهلاك قومِ شعيب
(وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) دلَّ على أنه آمنَ من قومه بعضُ من آمن.
(نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي برحمةٍ من الله، فإنَّ العبدَ إذا نُجِّيَ مما يخاف فهذا برحمةٍ من الله عز وجل.
(وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) أي صِيحَ بهم حتى هلكوا (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) أي موتى صرعى.
وهنا قال (وَأَخَذَت) بتأنيث الفعل على لفظ الصيحة بينما في قصة صالح (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) قلنا هنا بمعنى الصياح بمعنى أنه ذُكِّرَ الفعلُ لأن الأمرَ عائدٌ إلى الصياح.
فقال هنا (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) كأنهم لم يبقوا في تلك الديار بعد نزول عذاب الله عز وجل عليهم.
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا) هنا ألا: للتنبيه، بُعدا: سحقا وهلاكا
(أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) لماذا جعلها كثمود دونَ غيرِها من الأمم؟
الذي يظهرُ لي والعلم عند الله ولم أرَ من تحدَّثَ في ذلك، الذي يظهر لي من أنه جعل مديَن كثمود باعتبار أنهما اشتركا في نوعيةِ العذاب، قال هنا (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ).
في قصه ثمود: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ).
في سورة الأعراف قال عز وجل عن قوم صالح عليه السلام في قوم ثمود: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ)
وقال في الأعراف عن قوم شعيب: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) دل على أنه اجتمع عليهم مع الصيحة اجتمعت الرجفة وهي الزلزلةُ الشديدة.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أرسلنا موسى وموسى جاء بعد شعيبٍ عليه السلام بأزمان ولذا فقوله عز وجل في سورة القصص لما ذهب موسى إلى مدين وقابل ذلك الرجل ليس ذلك الرجل هو النبي شعيب وإنما هو رجلٌ صالح؛ لأن شعيبا قبل موسى عليه السلام وسيأتي بيانُ ذلك أكثر في سورة القَصَص بإذن الله تعالى.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) الآيات هي كما قال الله عز وجل (وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)
وذكر عز وجل ذلك في سورة الأعراف قال عز وجل: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ)
وكما قال عز وجل ( وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ( 132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ)
فقال هنا (وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي حُجة واضحة وبيِّنَة على صدق موسى عليه السلام
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) والملأ هم أشراف القوم.
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) لكن ما الذي جرى؟ (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) أي ما أمر به فرعون، واتبعوا أحوالَ فرعون
(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أمرُ فرعون، لمَّا أمَرَهُم ليس برأيٍ رشيدٍ سديد وإنما هو رأيُ سوء، ولذا ماذا قال عز وجل عن حال هؤلاء كما بيَّنَ عز وجل من أنهم لما اتبعوا أمرَ فرعون ماذا جرى لهم في الدنيا؟ الهلاك.
قال فرعون كما في سورة غافر (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) ولكنه سبيل سوء وعاقبة وخيمة، ولذا ماذا قال عز وجل؟ (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) هذا في الدنيا، الأمرُ الذي ليس برشيدٍ لهذا الرجل كما قال عز وجل (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ) أي يتقدم فرعون قومه (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) أي أدخلهم النار لما أطاعوه، وكلُّ ذلك بأمرِ الله وبتدبيرِ الله عز وجل وله الحكمةُ البالغة.
(فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)، (وَبِئْسَ): أي بئست النار (وَبِئْسَ الْوِرْدُ) أي: الدخول (الْمَوْرُودُ) المدخول فيه
فإنَّ هذه النار بئس ورودها وبئس مورودها.
(وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً)، (فِي هَذِهِ) يعني: في الدنيا، ومما يدل على ذلك قولُه عز وجل (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ)
قال هنا: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ)
أي اتبِعوا بعد ذلك العذاب بلعنةٍ لَحِقَتها لعنةٌ أخرى، لعنةٌ في الدنيا ولعنةٌ في الآخرة،
(وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) أيضا لعنَة
(بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) – (بِئْسَ الرِّفْد): تلك اللعنة بئس العطاء المُعطى لهم
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى) لما ذكر عز وجل قَصَص الأنبياء خاطب محمد ﷺ
فقال (ذَلِكَ): أي مما قصصناه عليك (ِمِنْ): للتبعيض أي من بعض (مِنْ أَنْبَاءِ): من أخبار (مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى)
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ)
منها قائم: كالزرع، ومنها حصيد: كالزرع المحصود الذي لا أثرَ له
فتلك الديار التي أهلكها الله عز وجل بقيَ بعضُها ممن له آثارٌ باقية كديارِ قومِ صالح، ومنها ممن لم يبقَ لها أثرٌ كما قال عز وجل (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ)
قال: {وحصيد} أي لم يبقَ لها أثر (مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ)
(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر وبمخالفه أنبياءِ الله عليهم السلام.
(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) فما أغنت تلك الآلهة التي أرادوا منها النفع ودفع الضر ماذا قال الله عز وجل؟ (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ) أي ما أفادت (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) من: زائدة للنفي للتوكيد، أي: لم تُغْنِهِم شيئا أبدا لا صغيراً ولا كبيراً لمَّا نزل عذابُ الله (لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) فأنها لم تُفِدهُم (لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) بل ما زادوهم إلا خسارةً وهلاكا
تتبيب: أي خسارة وهلاك (وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) فهم أرادوا منها النفع ودفع الضر لكن لم تُفِدهُم
شيئا بل أصبحت وبالاً وهلاكاً وخسارا عليهم.