ترى ما معنى قوله تعالى { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ؟
قبل أن يأتي الإسلام كانت المرأة مهانة مبتذلة لا قدر لها ولا احترام عند أهل الجاهلية ، فكان في الجاهلية إذا كره الرجل زوجته أضر بها فلم يطلقها حتى لا يتزوجها غيره ، ولا يجامعها ، فكان يحلف أنه لن يطأ ولن يجامع زوجته أبدا ، وهذا إضرار بالمرأة ، لأن من الأغراض النبيلة في الزواج هو المعاشرة ، فلما جاء الإسلام أراد أن ينهي هذا الأمر ، فبين سبحانه وتعالى أنه يحرم على الزوج أن يحلف ألا يجامع زوجته أكثر من أربعة أشهر أو ألا يجامعها أبدا ، فإذا حلف الزوج على أنه لا يجامع زوجته أكثر من أربعة أشهر أو أنه لا يجامعها أبدا ، فهذا مولٍ ، والإيلاء معناه ( الحلف على ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر ، أو أنه لا يطأها أبدا )
والإيلاء من هذا الاعتبار محرم ، إذاً ما الواجب ؟ الواجب أن القاضي يمهل الزوج أربعة أشهر ، فإن فاء ورجع وجامع زوجته فقد انتهى الأمر ، وعلى الزوج أن يكفر كفارة يمين عن حلفه ، فإن أبى حتى مضت الأربعة الأشهر فإن الزوج يوقف ويقال له إما أن تجامع زوجتك وإما أن تطلق { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } يمهلون أربعة أشهر
{ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يعني ما سلف منه من هذا الحلف الضار بالزوجة الله يغفر ذنبه ويرحمه ( والله أفرح بتوبة عبده من أحدكم كان على راحلته فأضلها وعليها طعامه وشرابه ) الحديث ، الشاهد من هذا / إن فاء ورجع إلى الجماع فإن الله يغفر ذنبه وعليه كفارة يمين ، وكفارة اليمين ( عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين ) إذاً هو مخير بين هذه الأشياء الثلاثة ، فإن عدم هذه الأشياء الثلاثة أو لا يستطيع عليها ، ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام ، وهنا أمر ينبغي أن يتنبه إليه بعض من الناس ، فإنهم يظنون أن الإنسان إذا حلف على يمين فخالف يمينه ، يظن أنه يبادر إلى الصيام أول ما يبادر – وهذا خطأ – فإن الصيام لا يجزئه إلا إذا عدم ما ذُكر من ( عتق الرقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ) فهو مخير بين هذه الأشياء الثلاثة ، فإن وجد واحدا أو تمكن من واحد منها ، فهذا هو الواجب عليه ، وإن لم يتمكن من هذه كلها ، فينتقل إلى الصيام ، فيصوم ثلاثة أيام متتابعات .
{ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {226} وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } إن استمر وقال لن أجامع ، فهنا يُطلِّق ، فإن أبى أن يطلق ، قال لن أطلق ولن أجامع ، فماذا يُصنع به ؟ هنا يتدخل الحاكم ويفسخ المرأة منه إذا طلبت ذلك، فإن القاضي بمثابة النائب عن الزوج في مثل هذه الحال ، لم ؟ لأن هذا الزوج قد أتى بضرر ، والقاعدة الشرعية
[ الضرر يُزال ]
ولو قال قائل : لماذا حدَّد الشرع أربعة أشهر ؟ لماذا لم تكن ثلاثة أشهر أو شهرين أو خمسة أو ستة ، لم التحديد بأربعة أشهر ؟
قال العلماء : لأن المرأة لا يمكن أن تصبر في الغالب على ترك الجماع مع زوجها أكثر من هذه المدة ، فهذه المدة هي أقصى مدة يمكن أن تتحمل المرأة الصبر عن مفارقة ومضاجعة زوجها ، هذا في الغالب ، ولذلك عمر رضي الله عنه لما كان يتعسس المدينة وسمع امرأة تنشد أبياتا من الشعر ، تقول :
تطاول هذا الليل واسود جانبه
وأَرَّقني ، ألا خلــيل ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره
لحُرِّك من هذا السرير جوانبه
فسمعها عمر رضي الله عنه وهي لم تعلم به ، فعلَّم الباب ، فلما أصبح سأل عن هذا البيت ، فقيل إن صاحبه قد خرج في الجهاد في سبيل الله ، فدخل عمر رضي الله عنه على ابنته حفصة رضي الله عنها ، وقال لها : كم تصبر المرأة عن زوجها ، كم أقصى مدة ؟ فقالت حفصة رضي الله عنها أربعة أشهر ، فكتب رضي الله عنه إلى أمراء الجنود ألا يحبسوا جنديا عن أهله أكثر من أربعة أشهر ، ولذلك جاء النص القرآني مُعبرا بأربعة أشهر ، مما يدل على أن هذه المدة هي أقصى مدة يمكن أن تتحمل المرأة فيها ترك زوجها لمضاجعتها ، هذا هو معنى الآية باختصار { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {226} وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {227} }
والله أعلم وأحكم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .