تفسير قوله تعالى ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) سورة البقرة الآيات (17 ـ 20 )

تفسير قوله تعالى ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) سورة البقرة الآيات (17 ـ 20 )

مشاهدات: 500
تفسير قوله تعالى :
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ……. }
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
 
أما بعد فيا عباد الله /
فلعل الكثير مِنَّا قد استمع في هذا اليوم في خطب الخطباء عن فضيلة استقبال شهر رمضان المبارك ، ولا حاجة ولا ضرورة أن يُعاد ما ذُكر ، ومن ثَمَّ فإنا في هذا الشهر المبارك سنتناول إن شاء الله من هذه الليلة بعض الآيات التي تليناها حتى نعلم معناها ، وأختار منها ما قد يخفى معناها على كثير من الناس .
مما تلي في هذه الليلة قول الله سبحانه وتعالى :
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ{17} صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ{18} أَو ْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ{19} يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
الله جل وعلا لما ذكر في أول سورة البقرة الصنف الأول الطيب الطاهر ، وهو صنف أهل الإيمان بأنهم مؤمنون خُلَّص ، الإيمان في بواطنهم وظهر على جوارحهم ، ثنَّى سبحانه وتعالى بذكر الكفار الخُلَّص الذين إذا رأيتهم وسمعت قولهم قلت هؤلاء كفار ، قد أظهروا كفرهم وجهروا به ، ثم ثلَّث سبحانه وتعالى بذكر الصنف الثالث الخبيث ألا وهو صنف أهل النفاق ، هؤلاء كما قال تعالى في سورة النساء { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَـؤُلاءِ } النساء143
 هؤلاء المنافقون أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ، ولذا لما كان أهل النفاق أعظم من أهل الكفر ، لأن الكافر إذا صرَّح بكفره ، حُفِظت من شره ، وعرفت كيف تتعامل معه ، أما هؤلاء المنافقون فإنهم كما أسلفنا أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ، ولذلك ذكر سبحانه وتعالى في صفاتهم أكثر مما ذكر في صفات أهل الكفر الخُلَّص ، فقال سبحانه وتعالى في ضمن ما قال عن هؤلاء المنافقين :
{ مَثَلُهُمْ } أي وصفهم .
{ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } شخص في صحراء ، وأتته ظلمة الليل ، فاستوقد نارا ، أضاء النار حتى يُبصر ما أمامه وحوله .
{ فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } لما كان في أمن واطمئنان وراحة وسعادة حينما يُبصر ما حوله ، إذا بهذه النار تنطفئ ، فيصبح في حيرة ، في قلق ، في همٍّ ، في اضطراب
فكذلك هؤلاء المنافقون لما أمنوا في هذه الدنيا بإعلانهم للإسلام ، لأن الإنسان إذا قال ( أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ) عصم الله دمه وماله ، فلا يؤخذ ماله ولا يسفك دمه
هؤلاء المنافقون لما كانوا في ظل هذا النور الذي أظهروه وقد خلت بواطنهم منه ، لما كانوا في هذا النور في هذه الدنيا وأقبلوا على الآخرة ، أقبلوا على ماذا ؟ أقبلوا على ظلمة ، ظلمة ماذا ؟ ظلمة القبور ، الظلمة التي تكون قبل الصراط ، لأن هناك ظلمة قبل الصراط الذي يوضع على متن جنهم
ولذلك ماذا يقولون للمؤمنين كما في سورة الحديد ؟
 { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ } الحديد13 ، فهذا المقام في القيامة ليس مكان أخذٍ للنور ، إذا أردتم أن تأخذوا النور فعليكم أن ترجعوا وراءكم في الدنيا ، والدنيا قد ذهبت .
{ فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ }
 لم يقل( ذهب الله بنارهم ) ، لم ؟
لأن النار تشتمل على شيئين [ النور والحرارة ] فلما أذهب عنهم النور ، بقيت الحرارة ، يستعرون بها ويتألمون
ولذلك قال :
{ فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } لم يقل جل وعلا
{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } وسكت ، لأن الإنسان قد يكون في ظلمة ويبصر بعض الأشياء التي حوله ، لكن لما قال { لاَّ يُبْصِرُونَ } دل على أن هؤلاء لا ينالون من النور مثقال ذرة .
ثم وصفهم الله سبحانه وتعالى بوصف آخر ، قال :
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }
 لهم آذان ؟ نعم لهم آذان ، لهم أفواه وألسن ؟ نعم ، لهم أعين ؟ نعم
 لكن لما لم تستعمل هذه الجوارح فيما خلقها الله سبحانه وتعالى كأنها عدم ،.
{ صُمٌّ } عن سماع الحق
{ بُكْمٌ } عن قول الحق
{ عُمْيٌ } عن أن يبصروا الحق
 ثم وصفهم الله سبحانه وتعالى بوصف قاطع :
{ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي لا يرجعون مما هم عليه من الضلالة والنفاق  ، بمعنى أن المسلم عليه أن يحذر من أن يسير سير أهل النفاق ، لم ؟ لأن الإنسان قد يقع في ذنب ثم لا ينجو منه فيختم الله سبحانه وتعالى على قلبه ، فيصبح على قلبه الران فلا يعود إلى الحق .
ثم وصفهم الله سبحانه وتعالى بوصف آخر ، قال :
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ } الصيب : هو المطر ، سمي بالصيب لأنه يتصبب ويتدفق بكثرة ، يعني أن هؤلاء المنافقين مثلهم كمثل أهل مطر كانوا في صحراء ، فالإنسان إذا كان في صحراء وأتاه المطر وليس هناك ما يحول بينه وبين المطر ، يكون في عناء ومشقة
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن ( لما شكا أصحابه إليه قلة المطر ، وعدهم يوما فاستسقى بهم ، فما فرغ عليه الصلاة والسلام من صلاة الاستسقاء حتى أتى المطر ، فلما أتى المطر وتصبب وازداد ، أصبح كل منهم يبحث عن كنفٍ يستظل به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ) يعني أنهم خرجوا من أجل المطر ، ثم لما أتاهم المطر اختفوا عنه ، فكذلك الإنسان إذا كان في صحراء وأتاه المطر يكون في عناء ومشقة ، فقال سبحانه وتعالى :
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } سحب بها ظلمات وأيضا بها رعد وبرق ، من قوة صوت الرعد { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } ثم من شدة لمعان البرق { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ }
إذاً هذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للمنافقين مع القرآن ، القرآن حياة القلوب ، كما أن المطر حياة للأرض ، فهؤلاء المنافقون مع هذا القرآن الذي هو حياة هم غافلون
ما الذي في هذا القرآن ؟
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ } والقرآن فيه ذِكر للكفر ، والكفر ظلمة .
{ وَرَعْدٌ } لأن في القرآن آيات الوعيد والترهيب فينزعجون منها إذا سمعوها ، ولذلك قال الله سبحانه { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } المنافقون4 ، يعني أي حركة أو أي صوت يظنون أن هذا الصوت يراد بهم .
{ وَبَرْقٌ } لآن في القرآن من الأدلة والبراهين الواضحة القاطعة ما يفضح ويهتك سترهم ، ولذلك إذا سمعوا القرآن { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ } لأنهم يظنون أنهم لو مالوا إلى هذا القرآن عَدَّوا هذا الميل إلى القرآن الذي يدعوهم إلى الإيمان عدوه موتا – نسأل الله العافية –
ولذلك قال تعالى  { واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ }
{ يَكَادُ الْبَرْقُ } وهي آيات القرآن النيرة الواضحة التي تهتك سترهم
{ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } يعني وقفوا ، يعني أن القرآن إذا جاء بما يتناسب معهم فرحوا بذلك ، وإذا جاء بما لا يتلاءم ويتناسب معهم وقفوا ولم يؤمنوا به .
ثم بيَّن سبحانه وتعالى أنه كما أذهب أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم المعنوية ، قادر على أن يذهب أسماعهم وأبصارهم الحقيقية ، فيصبحون لا يسمعون ولا يبصرون ، فقال سبحانه وتعالى :
{ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .