لو توقفنا بعض الوقفات حول هذه الآية لوجدناها تشتمل على فوائد كثيرة من بينها :
أن الابتلاء الذي هو بمعنى الاختبار والامتحان أصاب إبراهيم عليه السلام ، فالمبتلى هنا إبراهيم ، والمبتلي هو الله سبحانه وتعالى ،
وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على أن العبد إذا أصيب في هذه الدنيا بما لا يتناسب ولا يتلاءم معه ، لا يظن أنه قليل القدر أو وضيع الشأن عند الله – كلا – فإبراهيم عليه السلام له من المقام العالي عند الله سبحانه وتعالى ما له ، ومع ذلك ابتلاه جل وعلا ، ولا يخفى علينا ما أبتلي به رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن الفوائد :
أن الابتلاء قد يكون سببا لرفعة العبد ، كما هو الشأن في حال إبراهيم عليه السلام ، وقد يكون الابتلاء شؤماً ونقمة على العبد ، ولذلك قال سبحانه وتعالى { فَأَمَّا الْإِنسَانُ } أي جنس الإنسان من حيث الأصل ، فمن حيث الأصل الإنسان ظلوم جهول { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}الأحزاب72
{ كَلَّا } ليس الأمر كما تتوقعون ، يعني من وسعتُ عليه رزقه لا يظن أنه رفيع القدر عندي ، ومن ضيقت عليه رزقه فلا يظن أنه وضيع القدر عندي ، فالأمور لا تقاس بهذه الدنيا ، ولذلك لما ابتلى الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام بهذه البلوى وهي بلوى خير ، رفع الله قدره ، ولذلك ابتلاه بكلمات ، ما هي هذه الكلمات ؟ قال بعض المفسرين هي خصال الفطرة ، وخصال الفطرة كثيرة تبلغ كما قال ابن حجر رحمه الله ” أكثر من ثلاثين خصلة ” منها ( المضمضة والاستنشاق والاستحداد وحلق العانة ونتف الإبط وتقصير الشارب وتقليم الأظفار ) إلى غير ذلك من هذه الخصال
وقال بعض المفسرين وهو الأصح والأصوب والأشمل ” أن الله سبحانه وتعالى قد ابتلاه بهذه الكلمات التي هي أوامر من الله ونواهي “
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } فما النتيجة { فَأَتَمَّهُنَّ } يعني قام بهن على أحسن قيام ، ولذلك مدحه الله سبحانه وتعالى في سورة النجم {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى }النجم37 ، وهذا يعطينا دلالة على أن العبد عليه أن يأخذ دين الله بقوة ، لا يأخذ بعض الشيء ويترك بعض الشيء ، وإنما إذا أُمر بأمر من الله سبحانه وتعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم ، عليه أن يقوم به على أحسن وأكمل وجه ، ولذلك قال { فَأَتَمَّهُنَّ } كما قال سبحانه وتعالى في بني إسرائيل { خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ } البقرة63 {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } مريم12 .
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } الكلمات التي هي مضافة لله سبحانه وتعالى تكون على نوعين ( كلمات شرعية ) كما هنا ( وكلمات كونية ) يجب أن تقع ، كما قال سبحانه وتعالى { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ }الأعراف137 فهنا كلمة كونية لابد أن تقع ، أما الكلمات الشرعية فلا يلزم أن تقع ، فإن وقعت فهذا فيه دليل على علو ورفعة العبد إذا قام بها كما هو حال إبراهيم عليه السلام .
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } ما هي النتيجة المترتبة على النتيجة التي قام بها إبراهيم ؟ قام إبراهيم بالوفاء ، فقوبل بالإحسان من الله سبحانه وتعالى { هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }الرحمن60 ، فماذا قال الله سبحانه وتعالى بعد ذلك ؟
{ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ } فهذا يدل على أن العبد إذا قام بشرع الله سبحانه وتعالى حق القيام كان إماما ، ولا تحصل الإمامة في الدين كما قال شيخ الإسلام رحمه الله إلا بأمرين ، إذا أردت أن تكون إماما في الدين فعليك بأمرين ( الصبر واليقين ) لأن أخذ دين الله سبحانه وتعالى بقوة يحتاج إلى صبر ، ثم يحتاج إلى يقين ، يكون عندك يقين بأن الله سبحانه وتعالى معك وسيكافئك وسيجازيك
فإذا اجتمعت هاتان الخصلتان ( الصبر واليقين ) ظفرت بالإمامة ، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }
متى ؟
{ لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}السجدة24 ، ذكر الصبر وذكر اليقين ، ولذلك أي حاكم من حُكَّام المسلمين يقوم بشرع الله يكون إماما ، وتكون له الولاية والإمرة وتبقى معه ، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }المائدة50
واليقين كما قلنا طريق وسبيل إلى الإمامة في الدين ، ولذلك وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه أمة {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }النحل120 يعني إماما يقتدى به في الخير ، ولذلك سطَّر الله سبحانه وتعالى اسمه ، بل كل ملة من الملل تحب أن تنسب إلى إبراهيم ، ولذلك اليهود والنصارى تبجحوا ، فماذا قال سبحانه وتعالى في سورة آل عمران ؟
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا }الفرقان74 ، وانظروا إلى العظمة ، وهذا مما ينبغي علينا في دعائنا لله سبحانه وتعالى أن نسأله وأن نبالغ في المسألة ، فإن الله عز وجل لا مكره له ، ولا يستكثر عليه شيء ، لم يقولوا (واجعلنا للناس إماما ) بل { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا }الفرقان74 يعني يريدون منزلة فوق التقى ، يعني أن المتقين يقتدون بنا ، والمتقون إذا اقتدوا بشخص آخر ، دل على أن هذا الشخص أعلى وأرفع منهم منزلة في العبادة .
{ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي } فماذا قال سبحانه وتعالى ؟ { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } فالظالمون هنا معناها المشركون ، لأن الشرك أعظم الظلم ، فالإنسان قد يظلم غيره بأن يعتدي على عرضه أو ماله ، أو ما شابه ذلك ، وقد يظلم نفسه بالوقوع في الذنوب ، لكن أعظم الظلم وأعظم أنواع الظلم أن تشرك بالله
{ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } ومن هنا ندرك أن دعوة إبراهيم عليه السلام لم تستجب في جميع ذريته
قال تعالى في سورة إبراهيم { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ }إبراهيم35 ، إبراهيم دعا الله سبحانه وتعالى ، لكن هذه الآية التي معنا في سورة البقرة تشير إلى أن دعوته لم تستجب في جميع ذريته
{ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
وهذا يفيدنا بفائدة وهي :
أن الموحد هو الذي يُمكَّن في الأرض ، كما في قوله تعالى على أحد وجوه التفسير { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} الأنبياء105 ، فالموحد هو الذي يمكن في الأرض ، وكلما كان توحيده أكمل ، كلما كان التمكين أكمل ، وإذا قلَّ التوحيد ، كلما كان التمكين أقل ، وبقدر ما ينقص من التوحيد ، بقدر ما ينقص من التمكين ومن الأمن والأمان والسعادة .
ومن الفوائد :
أن هذه هي الدعوة الأولى لإبراهيم عليه السلام { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي }
قال الله سبحانه وتعالى { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }البقرة124 ، إبراهيم عليه السلام عنده حضور قلب لِما يأمره الله سبحانه وتعالى به ، ولذلك لما دعا بعد ذلك {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ } قيَّد ، قال { مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } حذر عليه الصلاة والسلام ، لكن الله سبحانه وتعالى بيَّن أنه قد تكفل برزق العباد كلهم الكافر والمؤمن ، ولذلك رد الله سبحانه وتعالى عليه فقال { قَالَ وَمَن كَفَرَ } سأرزقه ، لكن ما المصير ؟ { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }البقرة126