تفسير قوله تعالى ( وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة …) الآيات (67 ـ 75)

تفسير قوله تعالى ( وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة …) الآيات (67 ـ 75)

مشاهدات: 453
تفسير قول الله تعالى :
 {  إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ….. }
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
أما بعد فيا عباد الله /
مما تُلي في هذه الليلة ، قول الله سبحانه وتعالى :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ{67} قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ{68} قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ{69} قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ{70} قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ{71} وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ{72} فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{73} ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } 
تُرى ما قصة هذه البقرة ؟ وما شأنها ؟
قصة هذه البقرة مذكورة في قوله تعالى {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }
الله سبحانه وتعالى أراد من عباده أن يتدبروا القرآن وأن يتمعنوا فيه ، لأن القارئ للقرآن حينما يقرأ { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } يرتابه سؤال ، تُرى ما قصة هذه البقرة وما شأنها ؟ فيكون حاضر القلب ، وإذا أحضر قلبه إذا به يقف على السبب ، ولذلك أتى السبب في آخر ما ذُكر في هذه القصة
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }
ذلك بأن هناك قتيلا في بني إسرائيل لم يُعلم قاتله ، جُهل القاتل ، فأتوا إلى موسى عليه السلام يسألونه ، فماذا قال لهم ؟
قال { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } سبحان الله ! هم يسألونه من هو القاتل ؟ وإذا به يأمرهم أن يذبحوا بقرة ، فما علاقة البقرة بمعرفة القاتل ، ولذلك قالوا { أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } ؟
 فماذا قال ؟ { قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }  وهذا يدل على أن الاستهزاء بالآخرين جهل ، فمن استهزأ بأخيه المسلم أو استهزأ بشيء فإنه يُعد من الجاهلين ، ولذلك قال موسى عليه السلام { قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فهم لم يدركوا الحكمة من ذبح هذه البقرة ، لأن العبد مأمور ورقيق لله سبحانه وتعالى ، وعليه أن ينفذ أوامر الله ، فإن علم بالحكمة فهذا خير على خير ، وإذا لم يعلم بالحكمة فماذا عليه ؟ عليه كمسلم أن يستسلم وينقاد لأوامر الله سبحانه وتعالى ، فلما استبان لهم كحقيقة ما أمرهم به ، بدءوا يستفصلون ، ماذا قال لهم ؟ { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } أي بقرة تأتون بها وتذبحونها وينتهي الأمر ، هم تشددوا فشدَّد الله عليهم ، فأتوا بأسئلة { قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ } هذا سؤال عن سن هذه البقرة ، كيف عرفنا ؟ نقرأ ما بعدها ، ماذا قال ؟
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ }
{ لاَّ فَارِضٌ } يعني كبيرة ، كيف عرفنا أنها كبيرة ؟ بما بعدها { وَلاَ بِكْرٌ } فالبكر بينت الفارض ، وهي الطاعنة في السن التي لا تلد ، والبكر التي لم تلد قط ، وأما الفارض هي التي انقطعت عنها الولادة ، وهذه قاعدة يمكن أن يتخذها المسلم حينما يقرأ كلام الله سبحانه وتعالى فيمكن أن يفسر كلمة غامضة بما بعدها ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، منها ما يُحفظ من كثير من المسلمين في سورة الضحى ، قال تعالى {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى }الضحى8 ، ما معنى العائل ؟ الفقير ، ما الذي أدرانا ؟ ما بعدها { فَأَغْنَى }
قال تعالى في شهادة النساء : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى }البقرة282 ،
ما معنى { أَن تَضِلَّ } هل هو الضلال والزيغ والميول عن الحق ؟ لا ، وإنما النسيان ، ما الذي أدرانا ؟ ما بعدها
{ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } والأمثلة على ذلك كثيرة .
{ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } معنى { عَوَانٌ } يعني وسط ، نصف ، لا كبيرة ولا صغيرة ، ولذلك العرب يطلقون العَوَن على المرأة التي تجاوزت إحدى وثلاثين سنة ( عانت المرأة عونا ) يعني إذا تجاوزت إحدى وثلاثين سنة ، لأنها في منتصف سنها وقوتها .
استشف موسى عليه السلام أنهم تعمقوا ، فماذا قال ؟{ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } لا تسألوا بعد هذا السؤال ، لكنهم لم يكتفوا بذلك ، أتوا بسؤال آخر عن لونها
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا } يعني أنها شديدة الصفرة ، هي صفراء ولكن مع ذلك اشتد اصفرارها ، ولذلك إذا أردت أن تقول أصفر شديد الصفرة تقول
( أصفر فاقع ) وإذا أردت أن تقول أحمر شديد الحمرة ( أحمر قانئ ) وإذا أرادت تصف شيئا أخضر بأنه شديد الخضرة ( أخضر ناضر ) إذا أرادت أن تصف شيئا شديد البياض ( أبيض بقق ) وإذا أردت أن تصف شيئا أسود شديد السواد تقول ( أسود حالك )
{ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } يعني من رآها يعجبه حسنها وجمالها .
هل اكتفوا بذلك ؟ لا ، سألوا سؤالا ثالثا
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } السؤال هنا عن صفة هذه البقرة ، أهي سائمة ترعى في الصحراء ؟ أم هي عاملة تستعمل في الزراعة والحرث ؟ { قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } والله ليس في البقر تشابه ، ولكن لأسئلتهم تشابهت عليهم أنواع وأصناف البقر .
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } صح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقد روي مرفوعا لكن فيه ضعف ، أنه رضي الله عنه قال ( لو لم يستثنوا لما وجدوها ) لكن لما قالوا إِن شَاء اللَّهُ هداهم الله إليها ، قالوا { وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } ماذا قال ؟
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ } يعني ليست مذللة للعمل ، ليست مهيأة لحرث الأرض { وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ } وليست مهيأة لسقي الحرث { مُسَلَّمَةٌ } أي سالمة من العيوب { لاَّ شِيَةَ فِيهَا } أي ليس فيها لون آخر يخالط لونها الأول ، فماذا قالوا ؟ { قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } سبحان الله ! بعد ذلك التفصيل العميق
{ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } يعني جئت بالوصف الكامل والبيان التام { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } في أول السورة قال { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } دل على أن البقر يصنع بها كما يصنع بالغنم وهو الذبح ، أما الإبل فالنحر ، إذاً أردنا أن نذبح بقرة ، ننحرها أم نذبحها ؟ نذبحها .
{ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } لم ؟ من شدة اضطرابهم واختلافهم فيها
ثم ذكر سبحانه وتعالى السبب في قصة هذه البقرة
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } يعني اختلفتم فيها { وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } يعني مخرج القاتل ، فلما ذبحوها ، ماذا قال ؟ { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } يعني خذوا عضوا من أعضاء هذه البقرة واضربوا هذا القتيل فيحييه الله سبحانه وتعالى ، فضربوه فأحياه الله سبحانه وتعالى ، ثم نطق وقال قتلني فلان ، ثم سقط ميتا .
{ كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى } كما أنه أحيا هذه النفس قادر على إحياء النفوس كلها ، قال تعالى {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } لقمان28
{ كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فدل على أن من التزم بآيات الله سبحانه وتعالى وبأحكام الشرع فإنه يكون من العاقلين ، ودل هذا على أن العبد إذا أراد أن يكون من العقلاء وأن يزداد عقلانية فعليه أن يرجع إلى ماذا ؟ إلى آيات الله سبحانه وتعالى ، ثم ما الذي جرى من هؤلاء بعد هذه الآيات والبينات والبراهين الساطعة ؟
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } لم يقل كالحديد ، مع أن الحديد أصلب ، فلماذا نص هنا على الحجارة مع أن الحديد أصلب من الحجارة ؟ قال العلماء صحيح أن الحديد أصلب من الحجر ، لكن الحجر لا يلين ، وأما الحديد يلين { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ }سبأ10، ألان الله سبحانه وتعالى لداود الحديد ، ثم ماذا قال سبحانه وتعالى مبينا أن الحجارة أرق من قلوبهم { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ } مثل ماذا ؟ وقد مر معنا في قراءة هذه الليلة { وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا }البقرة60
{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء } يعني العيون .
{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ } فما يسقط حجر من علو إلى سفل فإن سقوطه خشية من الله سبحانه وتعالى ، ولذلك فالجمادات تخشى الله وتسبح الله وتعظم الله ، ونحن لا ندرك ذلك ، لكن الله سبحانه وتعالى يدرك ذلك ، ولذلك قال تعالى { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } الإسراء44 { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }النور41
ثم قال سبحانه وتعالى { وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ليس بساهٍ عما تعمله أيها العبد ، إن عملت خيرا تجازى عليه خيرا ، وإن عملت شرا تجازى عليه شرا { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ }إبراهيم42 .
والله أعلم،  وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد .