أما بعد :
فقد تلي في هذه الليلة آيات تتحدث عن أصحاب الأعراف ، فقال عز وجل { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُون } الأعراف 46
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ }
أي بين أهل الجنة وبين أهل النار حجاب وهو ساتر ، لأنه سبق ذكر أهل الجنة والنار في الآية التي قبلها { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } الأعراف44 ، فإذا قضى الله عز وجل أن يكون أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار كان هناك ساتر وحاجز بينهما .
وهذا الحاجز هو سور ، هذا السور قال ابن جرير رحمه الله ” إنه هو السور المذكور في سورة الحديد { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ } أي من قبل المؤمنين { وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ } الحديد13، أي من جهة المافقين .
وهذا السور يسمى بالأعراف ، وأخذ هذا الاسم إما من ” عرف الديك ” بمعنى أن هذا السور يعلوه هؤلاء الذين قضى الله عز وجل ما قضاه فيهم مما ذكر في هذه الآيات ، وذلك لأن عرف الديك هو أعلى ما يكون في بدنه .
وإما أن يكون من ” المعرفة ” لأنهم يعرفون أهل النار ويعرفون أهل الجنة بالسمى التي أوضحها الله عز وجل لأهل الجنة ولأهل النار .
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ }
يعني من أهل الجنة ومن أهل النار ، لأن الله عز وجل بين أن من سمى أهل الجنة أن تبيض وجوههم وأن من سمى الكفار أن تسود وجوههم { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ }آل عمران106، كذلك من علامات أهل النار مع اسوداد الوجوه هناك زرقة تكون في عيونهم {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا } طه102 يعني أعينهم زرقاء .
{ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ }
يعني يعرفون أهل الجنة ويعرفون أهل النار .
وهؤلاء الأعراف اختلف العلماء فيهم
من هم ؟
ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره عشرة أقوال ، أصحها ما جاء في حديث وإن كان هذا الحديث ضعيفا لكن أقوال السلف تتابعت على أن هؤلاء الأعراف هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فقصرت بهم حسناتهم من أن يدخلوا الجنة ،ولم تتجاوز سيئاتهم أكثر من حسناتهم فيكونو من أهل النار ،وهذا يعطينا دلالة واضحة على ابن آدم لا يحقرن من العمل الصالح شيئا
فإن هؤلاء قد استوت حسناتهم وسيئاتهم فلو كانت لهم حسنة واحدة مثال ذرة لأدخلتهم الجنة ، وأيضا لا نحقر من الذنوب شيئا ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إياكم ومحقرات الذنوب ، قيل يا رسول وما محقرات الذنوب ؟ قال إنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا في بطن وادي فأخذ هذا عودا وهذا عودا فأشعلوا نارهم وأنضجوا طعامهم )
فلا تحقرن من الذنوب شيئا ، فإنه لو زادت هذه السيئات سيئة واحدة بمثقال ذرة لدخلوا النار ، فإذاً لا تحقرن من المعروف شيئا ولو كان يسيرا ولا تستهن بالذنب ولو كان صغيرا .
فربما أسال الدم الإبر ، الإبرة صغيرة لكنها تسيل دم ابن آدم .
فهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يقض الله عز وجل فيهم بعد أن دخل أهل النار النار وأهل الجنة والجنة .
{ وَنَادَوْاْ } يعني هؤلاء الأعراف { أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } أصحاب الأعراف يسلمون على أهل الجنة ، لم ؟
لأنهم في دار السلام ، ولذلك يمتاز أهل الجنة بأن السلام يتتابع عليهم من أهل الأعراف ، يأتيهم السلام من رب العالمين {سَلاَمٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيم} ، تسلم عليه الملائكة {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ { 23} سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }الرعد24 ، يسلم بعضا { إِلاَّ قِيلًا سَلاَمًا سَلاَمًا }الواقعة26 ، ولذلك أصحاب الأعراف يسلمون عليهم ، لأن هؤلاء المؤمنين بلغوا دار السلام
{ وَنَادَوْاْ َأصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } ونقف هنا ، ثم نقول { لَمْ يَدْخُلُوهَا } يعني أن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة ، هم سلموا على أهل الجنة ولكن لم يدخلوا الجنة بعد { وَهُمْ يَطْمَعُونَ }
ولذا يقول الحسن رحمه الله ” ما أطمعهم الله عز وجل إلا لكرامة تكون لهم “
ولذلك علينا أن نحسن الظن بالله عز وجل ، والله عز وجل أوقع الطمع في نفوسهم لأنه يريد بهم الكرامة ، وهذا مثل ما يكون لابن آدم ، حتى في دعائه لله عز وجل ، يقول بعض الشعراء :
وإني لأدعو الله حتى أرى بجميل الظن ما الله صانع
بعض الناس يدعو الله عز وجل وهو موقن أن الله سيستجيب لدعوته ، هذه قمة حضور القلب والإيقان بالإجابة .
{ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ } إذا صرفت أبصار هؤلاء الذين هم أصحاب الأعراف تلقاء أصحاب النار ورأوا ما هم فيهم من العذاب { قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
ثم قال عز وجل
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ }
يعني نادى أهل الأعراف رجالا في النار كانوا يعرفونه بسيماهم ، حتى مثَّل بعض المفسرين بأنهم يقولون ” يا أبا لهب ، يا أبا جهل “
{ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُون }
أين جمعكم من الأموال ؟ أين جمعكم من الأولاد ؟ أين عزتكم وعلوكم على فقراء المهاجرين ؟
كما قال عز وجل عن أبي لهب {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } المسد2 ، كما قال تعالى في قصة بدر لما هزم الكفار {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } القمر45 ، إذاً لن يكون ابن آدم في حصن من الله عز وجل أبدا مهما كان { يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَان } الرحمن33 ولا سلطان عندكم ، ولذلك يقول بعض المفسرين هذه الآيات في سورة الرحمن ما يحصل في يوم القيامة { يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَان }الرحمن33 وليست عندكم قوة ولا سلطان ، لم ؟ لأن الملائكة تحيط بهم ، {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }الحاقة17 {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا }النبأ38 فأين الفرار ؟ {يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ }القيامة10
{ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُون }
ولذلك مقام العبودية لله عز وجل يجب أن يكون الذل قد ستر ابن آدم وعممه ، لا يمكن أن تكون من أهل الجنة وأنت متكبر ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) مثل وزن نملة من كبر .
بعض الناس – نسأل الله العافية – يعصي الله عز وجل ويرى أنه فوق كل شيء ، وأنه من القوة التي بلغت ما بلغت مما لا يفوقه أحد ، أين هؤلاء ؟
{أَهَـؤُلاء} يعني فقراء المهاجرين ، كبلال وصهيب { الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ } يوم أن كنتم تقولون في الدنيا {أَفَرَأَيْتَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا } مريم77 ، يعني لو بعثني الله عز وجل لكنت أفضل وأحسن منكم حالا .
بل قيل لهم
{ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُون }
{ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ } الأمر هنا موجه لمن ؟
قال بعض المفسرين : أن هذا الأمر موجه لهؤلاء الفقراء ، يقال لهم { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُون } يعني لا زال السياق يتحدث عن الفقراء .
وقال بعض المفسرين : إن الأمر موجه لأصحاب الأعراف ، وهذا القوي أيضا قوي جدا ، ومما تدل عليه النصوص الأخرى ، ويدخل في ذلك ضمنا فقراء المهاجرين .
والقولان محتملان .
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد