تفسير قوله تعالى ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث …) سورة الأنبياء (78 ــ 82 )

تفسير قوله تعالى ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث …) سورة الأنبياء (78 ــ 82 )

مشاهدات: 430

تفسير قوله تعالى :

{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ }

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

تفسير قوله تعالى :

{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ }

أما بعد  :

فقد ذكر الله تعالى في سورة الأنبياء كوكبة من الأنبياء ، وكان فيما ذكر في هذه السورة قصة داود وسليمان عليهما السلام

وقصة داود وسليمان ذكرها الله تعالى في سور منها {  ص }  ومنها {  سبأ }  ومنها

{ النمل }  ومنها ما ذكر في هذه السورة {  الأنبياء  }

فالمذكور هنا قوله تعالى{  وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ }  ومعنى ذلك : اذكر يا محمد داود وسليمان

ما شأنهما  ؟

{  إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ }  أي في الزرع  {  إِذْ نَفَشَتْ }  أي  رعت الغنم ليلا على محاصيل شخص فأفسدته {  وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ }

قصة هذه الغنم : أن هذه الغنم أتت على زروع شخص بالليل فأتلفت ما لديه من الثمار والمحاصيل فتحاكم الرجلان إلى داود عليه السلام فحكم داود عليه السلام بأن تكون الغنم لصاحب الزرع  ، نظير ما أفسدته هذه المواشي ، فلما خرجا التقيا بسليمان، ومعلوم أن سليمان ابن داود وهو هبة ومنحة من الله تعالى إلى داود كما  قال الله تعالى في سورة ص  { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }  هبة وعطية ومنحة من الله عز  جل وأعظم ما في هذه الدنيا أن يُعطى ابن صالح {  رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا }  فكيف إذا كان هذا الابن نبيا ؟ فقال سليمان ماذا حكم لكما ؟  فذكرا حكمه ، بأن الغنم أصبحت لصاحب الزرع ، فقال سليمان كلا الحكم ليس هذا ، إنما يأخذ صاحب الزرع الغنم فيستفيد من لبنها وحليبها إلى أن يصلح صاحب الغنم  هذا الزرع، فكان هذا هو الحكم الصحيح فماذا قال سبحانه وتعالى ؟

{  فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ }  المفهم هنا من  ؟ سليمان على من ؟ على أبيه ، ولا يعني كما هي نظرة بعض الآباء أنه أعلم من ابنه في كل الأحوال ، لا يمكن أن يكون هذا ، ولذلك إبراهيم لما خاطب أباه { يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا  }

لأن بعض الآباء يأنف من أن يقبل مشورةً من ابنه ظنا منه أنه أعلم منه، وليس هذا بصحيح على كل الأحوال {  فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ }

وكانت هناك قصة أخرى فُضّل الله فيها سليمان على أبيه داود ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين  من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ”  أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن امرأتين لهما ابنان ، فعدا الذئب على ابن إحداهما فأكله فتحاكما إلى داود في هذا الابن ، كلا منهما تدعي أنه لها فحكم به داود للكبرى ظنا منه أن الكبيرة لها الحق ، وأن الكبرى أصدق من الصغرى فتحاكما إلى سليمان فماذا قال سليمان ؟ قال : ” أعطوني السكين  ـ ماذا سيصنع ؟ ـ  قال سأشق الطفل نصفين نصف للصغرى ونصف للكبرى فقالت الصغرى : لا – لا تفعل هو ابنها ، فقضى سليمان عليه السلام به للصغرى لأنها أشفقت على ابنها من أن يُقتل  “

فاستدل بشفقة هذه الصغرى على أنه ابن لها ، ثم ماذا قال تعالى {  وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا }  ليُفهم أن داود على درجة من العلم والحكمة ، {  وَكُلاًّ }  يعني من : داود و سليمان {  وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِين }

هذه نعمة من الله تعالى ، إذا سبح داود أو تلا الزبور تجاوبت معه الجبال والطير ، كما قال تعالى في سورة سبأ  { وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ }  وقال{ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ }

وهناك نعمة أخرى لداود عليه السلام  { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ }  يعني علمه كيف يصنع الدروع التي تقي الإنسان من ضربات الحروب  ، وقد بين الله تعالى أنه ألان له الحديد وأساله كما يسيل الماء {  وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ }  فأمره سبحانه وتعالى أن يصنع دروعا سابغة تغطي بدن المحارب ، وأن يقدر حلقاتها تقديرا مناسبا ، ثم قال تعالى {  فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ }

يعني: يا آل داود هل أنتم شاكرون ، وقال بعض المفسرين  ”  هل أنتم يا كفار قريش شاكرون نعمة الله عليكم لما آتاكم هذا القرآن

ثم قال سبحانه وتعالى {  وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا }   ما هي الأرض المبارك فيها ؟ الشام

ووصف الله سبحانه وتعالى هذه الريح بأنها عاصفة  أي  : شديدة ، بينما وصفها عز وجل في سورة {  ص }  بأنها رخاء أي منقادة إذا أرادها سليمان ، لكنها عاصفة إذا انطلقت  { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ  فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ }  {ص:36}  يعني حيث أراد ، وهذه الريح غدوها شهر ورواحها شهر  بمعنى أنها إذا سارت أول النهار إلى الزوال  إذا سارت تقطع مسيرة شهر من المسافة ، وكذلك إذا سارت من العشي من بعد الزوال إلى المغرب تقطع مسافة شهر {  وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِين }  من علمه سبحانه وتعالى فيما يتعلق بهذه القصة من أن سليمان عليه السلام لما وُهب هذه النعم علم الله سبحانه وتعالى أنه سيشكر لذلك شكر ربه عز وجل

ولذا قال تعالى كما في سورة النمل {  هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُر  }  ثم منح سليمان منحة أخرى  {  وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ له }  أي يغوصون في البحار طواعية له ليستخرجوا اللآلئ والمجوهرات {  وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ }  هناك من يعمل عمل آخر من جنس الشياطين {  يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ }  أي مباني مرتفعة يُصعد إليها بالدرج

{  وَتَمَاثِيلَ  }  أي صور وكانت الصور مباحة آنذاك في شريعتهم {  وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ }

أي آنية عظيمة كالأحواض الكبيرة {  وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ }    يعني ثابتات  {  اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }  ، قال تعالى {  وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ }  أي كنا حافظين لهذه الشياطين من أن ينسلخوا أو يزيغوا عن أمر وطوع سليمان عليه السلام

ولذلك قال سبحانه وتعالى عن مردة الشياطين كما في سورة {  ص }  { وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ }    ثم ماذا قال سبحانه تعالى  ؟ { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }  أي من أعطيته أو منعته فلا جناح عليك ، ثم أن هناك منقبة أخرى وهذا فضل من الله عز وجل يؤتيه من يشاء { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ }  

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم