في هذه الآية صنَّف الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب وجعلهم صنفين ، وهذا إن دل ، يدل على كمال عدل الله سبحانه وتعالى ، فإنه لما ذكر أهل الكتاب صنَّفهم ، فجعل منهم قسماً خيّرا ، وقسماً آخر هو ذو شر ، بل من كمال عدله سبحانه وتعالى أنه لما ذكر في تصنيفه لأهل الكتاب ، ذكر أول ما ذكر ، ذكر الشيء الحسن { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } ومعنى هذه الآية : أن بعض أهل الكتاب إذا أودعته مالا كثيرا ، وهو المعبر عنه بالقنطار ، والقنطار عبارة عن المال الكثير ، إن أودعته أو أقرضته مالا كثيرا فإنه يؤديه إليك،{ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا } هناك صنف خبيث من أهل الكتاب لو أودعته أو أقرضته دينارا واحدا لا يمكن أن يؤديه إليك إلا إذا كنت قائما عليه ، ملازما له ، مطالبا حقك منه ، بمعنى أنك تتابعه أينما ذهب وأينما سار وأينما حلَّ، حتى تحصل على هذا الدينار ، ومن هنا نأخذ فائدة ، وهي: أن الواجب على المسلم أن يكون منصفناً في أحكامه ، لأن بعضا من الناس إذا صدر من أخيه المسلم ما لا يتناسب معه ، أو ما لا يليق به حكم عليه بحكم جائر ، وهذا منافٍ لعدالة الإسلام ، ولذلك الله سبحانه وتعالى لما صنَّف في هذه السورة أهل الكتاب ، قال { لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } آل عمران113 ، وهذه نقطة مهمة – أيها الأحبة في الله – ولا سيما فيما يتعلق بأهل الحسبة ، لأن الأمر شاع وانتشر في هذا الزمن ، إذا صدر خطأ من أحدهم عُظِّم من هذا الأمر حتى حُكم على الكل بأنهم ليسوا على خير أو ليسوا على هدى – وهذا خطأ كبير – لو أننا جازفنا بأحكامنا على وجه العموم ما سَلِم منا أحد ، لو أخطأ شرطي من الشرطة وعممنا الحكم ، ما سلم أحد ، لو أخطأ إمام أو مؤذن أو موظف وعممنا الحكم ، ما سلم أحد ، فالإسلام حكيم وعادل حتى مع الكفار ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم ( لا يفرك مؤمن مؤمنة ) يعني لا يبغض مؤمن مؤمنة ، على وجه العموم
( لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خُلُقا رضي منها آخر ) يعني لو كرهت من أخيك المسلم صفة معينة ، فلتعلم أن فيه صفات طيبة خيرة ، ولا نكن مجازفين ، بل نكن منصفين متريثين متزنين ، ولذلك في الحديث الذي صححه الألباني رحمه الله ( أحبب حبيبك هوناً ما فلعله أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما ، فعله أن يكون حبيبا يوما ما ) وهذا شيء مشاهد ، أحيانا نجازف فنحب شخصا حبا عميقا وإذا بالحال ينقلب ، وأحيانا يكون العكس ، بعض الناس حينما تراه تشمئز منه ولا تحب أن تخالطه ويحصل في نفسك انقباض ، وهذا خطأ ولا شك في ذلك ، فإذا خالطته وجدت أن الأمر قد انعكس ، إذاً فما الواجب علينا نحن كمسلمين ؟ أن نكون منصفين .
قال جل وعلا { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ } يعني لهم حجة ودليل وبرهان في ظنهم ، وهذا هو دأب اليهود ، فإنهم يقولون على الله الافتراء والكذب{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } يقولون العرب لو أخذنا أموالهم وسلبنا ما لديهم فإنه لا إثم علينا ، لأننا أعلى وأرفع منهم منزلة ، وهذا ما يشاهد الآن من ذريتهم في هذا العصر ، فإنهم لا يرون العرب شيئا ، والعرب في الحقيقة لا يمكن أن تقوم لهم قائمة بعروبتهم ، لأن العروبة والقومية والله ما جمعت العرب في يوم من الأيام ، ولا يمكن أن يجمع العرب إلا الدين .
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } وهذا افتراء ، ليس لهم حجة ولا برهان ، وإنما افتروا على الله الكذب { وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إذاً ما الميزان الحقيقي عند الله ؟ { بَلَى } يعني عليهم إثم وجناح فيما لو أخذوا مالا من غير طريقه وحِله، قال جل وعلا { بَلَى } ثم استأنف مبينا أن الميزان الحقيقي الذي يرفع العبد عند الله سبحانه وتعالى أمر { مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } فمن أوفى بعهد الله وما أمره الله عز وجل به واتقى ، ماذا قال ؟
{ فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين ، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .