يقول ابن مسعود رضي الله عنه ( إذا سمعت الله يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } فارع لها سمعك ، فإما أمر تؤمر به ، وإما نهي تُنهى عنه ) وهنا هذه الآية صُدِّرت بنداء لأهل الإيمان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } لأن هؤلاء الذين آمنوا بالله ورسوله هم الذين يأتمرون بهذه الأوامر ، ومن عدل عن هذه الأوامر فإن في إيمانه خللا ونقصا .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } لم يكرر الفعل ، لم يقل ( وأطيعوا أولي الأمر منكم ) وإنما كرر الفعل في طاعة الله وفي طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلم ؟
قال المفسرون : لأن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واجبة مطلقة ، ليس لأحد خِيار في ذلك ، لأن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يأمران إلا بخير، بينما أولو الأمر قد يصدر منهم ما يخالف الشرع ، ولذلك لم يأت بالفعل ، فدل على أن طاعة ولاة الأمر واجبة ، ولكن على وجه التقييد ، ما لم يأمروا بمعصية ، كما جاءت الأحاديث ، فإنه ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )
لكن لتعلموا :
أن طاعة ولاة الأمر ليست مربوطة بما جاء به الشرع – كلا – لو أن ولاة الأمر أمروا بشيء فيه مصلحة للناس ولم يأت الشرع بذلك ، فواجب على الناس أن يسمعوا وأن يطيعوا ، لأن هذا لا يخالف الشرع ، إذاً ما يوجد الآن من تنظيمات وخطط وما شابه ذلك مما أصدرته القطاعات الحكومية لا تجوز مخالفتها ، فمن خالفها فقد عصى الله ورسوله ، النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( من يطيعني فقد أطاع الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني )
فدل على أن طاعة ولاة الأمر واجبة ، ما لم يأمروا بمعصية .
وولاة الأمر هنا هم العلماء والأمراء ، لأن العلماء أئمة التبيين والتوضيح ، وأما الأمراء فأئمة التنفيذ ، ولا يمكن أن تقوم قائمة حسنة لأي دولة إلا بهذين الأمرين ، بطاعة العلماء وبطاعة الأمراء ، ونحن نلحظ في سيرة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، لما أتى بالعلم والتبيين ، ما قامت له قائمة إلا بإمام التنفيذ الذي هو الإمام محمد بن سعود رحمه الله ، فدل على أنهما متلازمان مترابطان ، العلماء والأمراء
ولذا تلحظون أن الفتن لما شاعت في هذا العصر وظهر فكر التكفير والتفجير ، مَنْ الذي استهدف ؟ استهدف العلماء والأمراء ، أما العلماء فأصبحوا لا يتحدثون عنهم إلا بشر وسوء ، ولا يجلونهم ولا يعظمونهم قدرهم ، وكذلك الأمراء لم يعظموهم ولم يقدروهم قدرهم ،
ما الذي ينتج من هذا ؟
ينتج من هذا إذا لم يراع في هذين الصنفين ما أمر الله عز وجل به ورسوله صلى الله عليه وسلم يحصل الاختلال والاضطراب ، ولذلك تعاني الأمة مما يجري الآن ، وأنا استغرب بكل صراحة ما يجري ، فما يجري إما أن يكون عن هوى وإما أن يكون عن شُبه ، لأن الناظر في بقاع الأرض يدرك أنه ليس هناك دولة تصرح وتظهر وتعلن التوحيد إلا هذه الدولة ، إذاً ما يجري من استهداف لعلمائها أو لأمرائها أو لأمننا ، استهداف للعقيدة ، استهداف للتوحيد ،
وتصوروا – لا قدر الله – لو اختل الأمن ما الذي يجري ؟!
لا يمكن أن يسوس الناس إلا ساسة من العلماء والأمراء ، وأنتم تدركون ما يجري حولنا ، لما اختل الأمن أصبحت هناك أنهار من الدماء تجري، تزهق أرواح ، تنتهك أعراض ، نتيجة ماذا ؟ نتيجة اختلال الأمن ، والله إن الأمن لمهم جدا ، ولذلك لا يمكن للدين أن يقوم إلا بالأمن ، إبراهيم عليه السلام لما دعا الله عز وجل ، أول ما دعا قدم الأمن على التوحيد
{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } إبراهيم35 ، والله لو اختل الأمن لا يمكن أن يحصل هذا الجمع ، والله لا يمكن أن تسير في الطريق آمنا ، والله ما تأمن على عرضك ، والله ما تأمن على مالك ، والله ما تأمن على نفسك
والواقع فيما يجري حولنا أكبر شاهد ، ولذلك انظروا إلى ما بعدها ، لما ذكر طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة ولاة الأمر { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ } قد يحصل نزاع واختلاف ، قد يرى هذا الشخص ما لا يراه الآخر ، لكن هذا النزاع لا يجوز أن يجيَّر خارج المصدرين الأساسين [ الكتاب والسنة ] { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ } في أي شيء ، قلَّ أم كثر { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ } ما الواجب علينا ؟ { فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ } نرجع إلى كتاب الله
{ وَالرَّسُولِ } إذا كان حيا ، إما إذا كان ميتا فإلى سنته ، ثم قال { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } المؤمن حقا حقيقة الإيمان ، من آمن بالله واليوم الآخر هو الذي يرد التنازع والاختلاف إلى الكتاب والسنة ، فالكتاب والسنة هما المُحكمان ، ولكن لا يمكن أن يُفهم الكتاب ولا يمكن أن تفهم السنة إلا بعلماء أجلاء ، تبحروا ورسخوا في العلم ، ما يؤخذ العلم من شخص آخر لا دراية له بالعلم ، ويأخذ بظواهر النصوص
ثم يُقال هذا الرجل استدل بدليل ، لا يمكن أن يكون هذا إلا من علماء أجلاء تبحروا في العلم ، واستمعوا إلى قول الله في نفس هذه السورة ، قال تعالى مما يدل على أن هناك أشياء خفية دقيقة في الكتاب والسنة لا يصل إلى مداها إلا العلماء المتبحرون ، وليس مجرد ما أقرأ الآية أو الحديث آخذ منها حكما وأبني على هذا الحكم ، أو آخذ من شخص لا دراية له بالعلم الشرعي ، ماذا قال جل وعلا ؟ { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ } من الصحة أو العافية أو النصر { أَوِ الْخَوْفِ } من هزيمة أو أسر أو ما شابه ذلك { أَذَاعُواْ بِهِ }
{ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } إلى العلماء { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ }النساء83 ، دل على أن هذا العلم لا يؤتى من ظاهر الكتاب والسنة ، وإنما يحتاج إلى استنباط .
{ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } من لديه شبه يراجع العلماء ، الخوارج لما خرجوا على عليٍّ رضي الله عنه ما الذي جرى ؟ أزهقت أرواح وسفكت دماء ، والله من حين ما قُتل عثمان وعلي رضي الله عنهما على يدي الخوارج
وهؤلاء الخوارج قتلوا عثمان وعليا رضي الله عنهما ، وهم يتقربون إلى الله بقتلهما ، وهم على ضلال ، هل استقر الأمر ؟ هل استتب الأمن ؟ لم يحصل ذلك ، وإنما من بعد مقتل عثمان ، ما الذي جرى للأمة ؟ قتل ومصائب وبلايا
{ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } هناك علماء يفهمون ، ولذلك علي رضي الله عنه لما جرى ما جرى من الخوارج ذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنهما وناقشهم ، فرجع نصفهم وبقي الآخر على ضلالته ، فمن أراد الله عز وجل به خيرا ، ويقول أنا أريد الخير وأريد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، لأن هناك والله مما يؤسف له ، نفوسا تزهق على غير سبيل الله
يعني ما يحصل من تفجير ، هذه نفس أنت مؤتمن علينا من قِبل الله سبحانه وتعالى ، وهذه نفس واحدة ، انظر إلى مَنْ تقدمها ، لا يقدم الإنسان على أن يلقي بنفسه وروحه في شيء لا يدري ما مصيره ، إلى الجنة أم إلى النار ، وإنما مرجع ذلك إلى العلماء { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } رددنا ذلك إلى الكتاب والسنة ، لابد أن تصفى النفوس ، يعني آتي إلى المخالف وأقول هذا الكتاب وهذه السنة ، لنستمع إليهما ، ولكن عن طريق العلماء المتبحرين ، هذه أدلتي ، أين أدلتك ؟ أجب عن أدلتي ، أجيب عن أدلتك ، هذا الكتاب والسنة بين أيدينا ، فإن حصل التنازع وحصل الرجوع إلى الكتاب والسنة ، ماذا قال جل وعلا ؟ { ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } لم يقل خير في الدنيا ، لم يقل خير في الآخرة ، لم يقل خير في وقت معين ، وإنما أطلق { ذَلِكَ خَيْرٌ } خير للبلدان ، خير للأنفس والأرواح ، خير للأمن ، خير للدنيا ، خير في القبر ، خير في الآخرة
{ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } يعني أحسن عاقبة ، تكون العاقبة حسنة ، فلا تكون العاقبة وخيمة ، فكتاب الله عز وجل واضح ومبين وصريح ، ولذلك امتن الله سبحانه وتعالى على كفار قريش ، بماذا ؟ بنعمة الأمن
{ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } قريش4 ، { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ }العنكبوت67 ، والله إن نعمة الأمن ما توازيها أي نعمة ، وأنتم في هذه البلاد في نعمة من الله عز وجل ، والله لو كان الإنسان يملك ملايين وهو في رعب ، والله ما تنفعه ، بل إن هذه الملايين لن تبقى معه ، لأن هناك من سيعتدي عليه
فواجب علينا جميعا من المواطنين ومن الوافدين ومن المقيمين أن نحافظ على هذه البلاد ، لأنها شعاع وأمن المسلمين ، منها صدر التوحيد ، ونحن نتنعم بنعمة الدين ، أناس لنا في البلدان الأخرى من المسلمين لا يتمكن من أن يأتي إلى المسجد ،
فالإنسان يطمئن على دينه وعلى عقيدته وعلى عرضه وعلى ماله وعلى نفسه مع حصول الأمن ، لو اختل الأمن ماذا يكون في البلاد ؟ يكون الشر والبلاء
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا أمننا وعقيدتنا وإسلامنا ، والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .