تفسير ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين …. ) سورة البقرة الآية (213)

تفسير ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين …. ) سورة البقرة الآية (213)

مشاهدات: 470
تفسير قوله تعالى
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ }
البقرة 213
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
أما بعد فيا عباد الله /
مما تلوناه في هذه الليلة قول الله تعالى  :
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } البقرة213
قوله جل وعلا { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ } هنا فيه حذف ، فيه كلمة حذفت لتبين معنى الآية { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } فاختلفوا { فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ } إذاً كلمة ( اختلفوا ) حذفت لدلالة آية أخرى عليها ، قال تعالى في سورة يونس { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ } يونس19 ، فالناس من حين ما خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى أن بعث الله جل وعلا نوحا عليه السلام كانوا على ملة واحدة ، على ملة التوحيد
يقول ابن عباس رضي الله عنهما ( كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون ، فلما ظهر الشرك في قوم نوح أرسل الله نوحا عليه السلام ) ونحن حينما نتأمل كلام الله سبحانه وتعالى نجد أن قوم نوح أعظم الملل التي طال مكث نوح فيها ولم يؤمن به إلا نفر قليل ، قد قست قلوبهم واشتدت ، وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن قوم نوح أتوا بعد تلك المدة الطويلة ، وهي عشرة قرون وكان الناس فيها على ملة التوحيد ، أتوا بعد تلك المدة التي فيها التوحيد ، أتوا وكفروا بالله سبحانه وتعالى واشتد كفرهم ، هذا دليل على أن الإنسان لو كان على خير واستقامة وعلى هدى ثم زاغ عن طريق الحق ، قد يصعب رجوعه مرة أخرى
وهذا شيء مشاهد حتى في الواقع ، شخص على هدى واستقامة وخير إذا زاغ بعض الشيء عن طريق الله ، يصعب أن يعود مرة أخرى ، ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى العالم الذي يزيغ عن طريق الحق ، وصفه بأنه مثل الكلب { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ{175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } معنى هذه الآية :
 أن الكلب إذا وضعته في ظل ظليل ، أخرج لسانه لهثا ، وإذا أركضته وجريت خلفه ، كذلك الشأن يلهث ، فكذلك من ضل عن الطريق بعدما أتاه الله العلم والخير والهدى ، مثله كمثل الكلب يصعب أن تنفع معه الموعظة والذكرى ، ولذلك قوم نوح مكث فيهم عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاما ، ومع ذلك { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }هود40 ، حتى إنه عليه السلام لما رأى انصرافهم ، مع أنه نوَّع الدعوة { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا{5} فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا{6} وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا{7} ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا{8} ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا }
فلما يئس منهم ، ماذا كان في آخر أمره ؟
{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا{26} إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا }
 ولذلك لما ذكر جل وعلا الأمم في سورة النجم {وأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى{50} وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى{51} }
ماذا قال في قوم نوح ؟
 { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى{52} }
يعني أظلم وأطغى من تلك الأمم السالفة ، لم ؟
 لأن نوحا طال مكثه فيهم ، ومع ذلك لم يعودوا إلى الله سبحانه وتعالى .
ولذلك قال تعالى { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً }
 فما الذي جرى ؟
{ فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } الرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا مبشرين ومنذرين ، لم ؟
وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بالبشر ، لأن نفوس الناس تختلف ، وهذا شيء مشاهد حتى مع الأولاد في تربيتهم ، بعض الأولاد يمكن يسوقه الترغيب ، والبعض الآخر من الأولاد لا يسوقه إلا الترهيب { مُبَشِّرِينَ } بالخير { وَمُنذِرِينَ } عن الشر ، ولذلك المسلم لا يمكن أن تكون له جادة يسير عليها إلا بالرجاء والخوف ، لابد أن يكون سائرا بين الرجاء والخوف ، يرجو رحمة الله ويخاف عذابه { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {49} وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ {50}
{ فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } من أنكر الرسل عليهم الصلاة والسلام أو أنكر واحدا منهم فقد كفر ، لأن الإيمان بهم أصل من أصول الإيمان الستة ، ومع ذلك إذا كفر ، فإنه لم يعظم الله عز وجل حق التعظيم
لأن من تعظيم الله عز وجل أن يرسل الرسل ، ولذلك قال سبحانه وتعالى في سورة الأنعام { وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } يعني ما عظموا الله حق تعظيمه
ما السبب ؟
{ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } الأنعام91 ، ولذلك من أصول أهل السنة والجماعة ( أن من تعظيم الله عز وجل أن يرسل الرسل )
{ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } يعني أنزل مع كل نبي كتابا ، ولذلك قال { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ }  يعني أنزل الكتاب بالحق ، فكتب الله عز وجل لم تأت عبثا أو لهوا – كلا – ما أتت إلا بالحق وما نزلت إلا مع الحق { وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ }الإسراء105 ، فالكتب السماوية أتت بالحق وبالعدل ، وإذا أتت بالحق وبالعدل لا يمكن أن يسير الناس إلا على طريق الحق والعدل ، ومن أراد طريق الحق والعدل ماذا عليه ؟ عليه أن يتمسك بكتاب الله سبحانه وتعالى .
{ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ }
 لم ؟
{ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } فيه دلالة على أن أي اختلاف يكون بين الناس لا يمكن أن يحل إلا عن طريق هذا الكتاب { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ }النساء59
{ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ }
 ثم ماذا قال ؟
{ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ }
انظروا :
 من العجائب أن يكون الناس على خير وهدى ثم إذا أتاهم الكتاب الذي جاء بالحق تنازعوا فيه ، ولذلك قال سبحانه وتعالى { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ }
متى ؟
 كان من المفترض أن يكون هذا الكتاب جامعا لقلوبهم وملما لشتات فرقتهم ، ومع ذلك انحازوا ، دل على ماذا ؟ دل على أن هناك خُبثا وخَبثا في نفوس هؤلاء المختلفين ، ما سبب هذا الخبث والخبث ؟ البغي والتطاول { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } ما السبب ؟
{ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } أي عدوانا وظلما بينهم ، والاختلاف حاصل في البشر
{ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ {119} }
يمكن أن أختلف معك في أمر ، هذا شيء حاصل ولا يمكن أن ينكر ولا يمكن أن يكون الناس على اتفاق في رأي واحد ، قد أختلف معك ، لكم متى يكون هذا الاختلاف مذموما ؟ إذا كان من باب البغي ، ولذلك ما ترون من فرقة وشتات بين الدول الإسلامية فيما بينما ، الناظر يقول إن الحل بين هذه الدول وهذه الأمم سهل ويسير ، لكن لماذا تشعبت الفرقة بينهم وطالت بهم السنون إلا أن بقوا على حالتهم في الشتات والتفرق ، ما السبب ؟ أن هذا الاختلاف منشأه العدوان والبغي ، ولو أنهم صفوا نفوسهم واجتمعوا على كلام الله سبحانه وتعالى ، لصلحت أحوالهم كما صلحت أحوال الصحابة والسلف رضي الله عنهم ، ولذلك قال { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } كلٌ يريد أن يكون الحق معه ، كلٌ يريد أن تكون الولاية له ، ولكن إن كان مؤمنا تحصل له الهداية { فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } انظروا إلى فائدة الإيمان وأنه يوصلك إلى الهداية ، وكلما ازددت إيمانا ازددت هداية ، ولا غنى للإنسان عن هداية الله ، فإننا بحاجة إلى هداية الله أكثر من حاجتنا إلى الطعام والشراب ، ولذلك نسأل الله في كل ركعة أن يهدينا الصراط المستقيم { اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ } وأن يجنبنا صراط اليهود والنصارى
{ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ } وهم اليهود
{ وَلاَ الضَّالِّينَ{7} } يعني النصارى
 يعني { فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } يعني بإرادته ومشيئته ، فإذا كنت مهتدياً فلا تظن أن هذه الهداية بيدك أو منك – لا – إنما هي فضل وكرم من الله سبحانه وتعالى إذ هداك وأضل غيرك ، فواجب عليك إذا حظيت وظفرت بهذه الهداية من الله سبحانه وتعالى أن تشكره وأن تثني عليه ، فإن أعظم النعم هي هداية الله سبحانه وتعالى للعبد
{ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } هذه فيه تأكيد لما سبق ، من شاء الله أن يهديه إلى الصراط المستقيم هداه ، فليست لنا مشيئته في ذلك ، ولا شك أن لنا مشيئة وإرادة ، لكن مشيئتنا تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى
{ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهنا وقفة وهي أن صراط الله يوصف بأنه مستقيم
ما فائدة هذا الوصف ؟
فائدة هذا الوصف أن الصراط إذا كان مستقيما يحصل للسائر فيه الأمن ، وأيضا يصل بسرعة ، وأضرب لكم مثالا – ولله المثل الأعلى – مثالا في واقعنا ، الآن في الطريق الدائري إذا كان مستقيما في الصباح الناس يسيرون بهدوء وراحة ، يسيرون بسير في انسياب ، فيأمن ويتجنب الضرر ويصل إلى مكانه بسهولة ، لكن الطريق الدائري ينعطف أحيانا ، من حين ما تأتي هذه الانعطافة يحصل الزحام ، ولا يأمن الإنسان ويكون وجلا وتحصل حوادث ويتأخر عن عمله أو ما شابه ذلك ، هذا في الدنيا ، فإذا اعوج الطريق حصل ما حصل من هذه الأشياء ، لكن صراط الله وطريق الله مستقيم ، وهذا يدل على أنك متى ما سلكت طريق الله ماذا يحصل لك ؟ الأمن والهداية والراحة والسعادة والقرب من الله سبحانه وتعالى وتجنب المخاطر ، وهذا شيء مشاهد .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد