الله جل وعلا حكم في هذه الآية بأن كل منفوسة آتيها الموت ولا محالة ، طال الزمن أو قصر ، ولذلك أتى بصيغة ( كل ) وهي تعد عند العلماء من أعظم صيغ العموم { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } حتى إن هذا الموت أذاق بدن وروح النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد قال عليه الصلاة والسلام لما كان يعاني من سكرات الموت كما عند البخاري ( كان عنده ركوة من ماء فكان يضع يده في هذا الماء ويمسح على وجهه ويقول لا إله إلا الله ، إن للموت لسكرات ) وفي رواية عند الترمذي كان يقول ( اللهم أعني على سكرات الموت )
ولو قال قائل : هذا النبي صلى الله عليه وسلم يعاني من الموت وشدته ، وقد جاء في الحديث الذي في حديث البراء الطويل كما عند الترمذي ( أن المؤمن إذا أُخذت روحه تقول له الملائكة أخرجي ، فتخرج كما تخرج القطرة في فِيِّ السقاء ) يعني كما تخرج قطرة الماء من القربة ، وما أسهل خروجها ،
فلماذا شُدد على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموت ؟
قال العلماء : كما نقل القرطبي رحمه الله ذلك : لأن الله سبحانه وتعالى أراد من هذا أمورا :
منها : أن يُبين للخليقة أن للموت شدة ، ولا يمكن أن يحصل هذا إلا بأن يحصل فعليا على أعظم البشر ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، لا شك أن الخبر من الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم أتانا بشدة سكرات الموت ، لكن كون ذلك يقع على النبي صلى الله عليه وسلم يكون أعظم بيانا وأوضح صورة .
ومنها : أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يشدد على النبي صلى الله عليه وسلم في الموت حتى ترتفع درجته أعلى وأعلى ، لا لذنب أو لخطايا ، وإنما لرفعة منزلته صلوات ربي وسلامه عليه ، وهذا قد يحصل للمؤمنين ، قد يحصل لهم من الشدة والعناء عند سكرات الموت ما يرفع الله بها درجاتهم ، بينما آخرون لا يحصل لهم مثل هذا .
قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } وعبر هنا بالذوق ، لأن الذوق هو أشد ما يكون على الإنسان ، كون الإنسان يذوق شيئا ، هذا أشد ما يكون عليه ،
ولذلك قال { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } ولذلك لما استبطأت كفار قريش موت النبي صلى الله عليه وسلم نزل قوله تعالى { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } الزمر30
ثم ما النهاية ؟
ماذا قال بعدها عز وجل { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } الزمر31 ، فريق في الجنة ، وفريق في النار ، ولذلك لما قالوا إن محمدا سيموت وتذهب رسالته وتزول دعوته ، ماذا قال سبحانه وتعالى { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ }الأنبياء34 ، لو مِتَّ أهم سيخلدون ؟! الجواب : لا ،
يعني ما يصيب الناس في هذه الدنيا من خير ، كصحة ونعمة ورزق ومال وأولاد وزوجات ، أو ما أصابه من شر أو مما لا يلائمه من مرض أو بلية أو محنة أو هم أو قلق أو ما شابه ذلك ، كل ذلك مُقدَّر ، ولكن أراد الله بهذا أن يبتلي الناس ، من أتاه الله نعمة هل سيشكر ؟ من أحل الله به نقمة هل سيصبر ؟ فمن أصابته نعماء أو أصابته ضراء ، المصير إلى ماذا ؟ إلى الموت .
و مهما طال عمر الإنسان فإنه ذاهب لا محالة ، وقد جاء عند البخاري ومسند الإمام أحمد وغيرهما ( أن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يقبض روح موسى عليه السلام بعث إليه ملك الموت )
وكان الأنبياء يخيرون قبل أن تقبض أرواحهم ، يعني ما يأتيه الموت فجأة – لا – يأتي الملك ويقول للرسول سأقبض روحك أتريد أن تموت ؟ فإن شاء أن يؤجله أجله ( فلما جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه ، قام موسى فصك وجه ملك الموت ففقأ عينه ، فلما رجع ملك الموت إلى الله سبحانه وتعالى ، وهو أعلم بما دار بينهما ، قال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، فلما رجع وقد قال الله سبحانه وتعالى له اذهب إلى موسى وقل له يضع يده على ظهر ثور وله بما غطت يده بكل شعرة سنة يعيشها ، فذهب ملك الموت وأخبر موسى ، فقال موسى عليه السلام ثم ماذا ؟
يعني إذا ذهبت هذه السنون ما الذي بعدها ؟
( قال الموت ، قال إذاً الآن )
ما دام أن النهاية هي الموت فمن الآن ، والعجيب أن الإنسان لو هرب من إنسان أو هرب من شيء ربما ينجو منه وربما لا ينجو منه ، لكنه في الغالب أنه ينجو منه بإذن الله تعالى ، إلا الموت ، ولذلك قال تعالى { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ } الجمعة8 ، يعني تفر من هذا الطريق وأنت تعلم أن ملك الموت مع طريق آخر ، لابد أن يلاقيك ملك الموت لا محالة ، ولذلك انظر إلى هذا التعبير { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }الجمعة8
ثم ما النهاية بعد هذا الموت ؟
لو كانت النهاية إلى تراب وتتحلل العظام وتزول هذه الأبدان وينتهي الأمر ويذهب كل إنسان بما عمل لكان الأمر هينا ، ولكن كما قال تعالى { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ }
ما نوعية هذا الفوز ، ما صفته ؟
اقرأ الآيات الأخرى ، اقرأ سورة البروج {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ }البروج11، هذا أكبر فوز أن تنال الجنة وأن تنجو من النار
ثم انظر إلى السياق { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } لم يقل ( فمن زَحزَح نفسه ، أو نَجَّا نفسه ، أو أدخل نفسه الجنة ) لا ، { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } يعني هذا بفضل من الله وكرم ، مهما عملت يا ابن آدم من أعمال صالحة فإنها لا توفي قيمة الجنة ، لكن الله سبحانه وتعالى لما ذكر جزاء المتقين وبيَّن أنهم دخلوا الجنة { جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } الأحقاف14 ، إنما هذا العمل الصالح سبب في دخولهم الجنة ، وإلا لو وُكِّل الإنسان إلى عمله ما وفَّى قيمة الجنة ، ولكن هذا فضل من الله وكرم { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ }
ما النهاية ؟
{ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } متاع ، يستمتع بها الإنسان
{ الْغُرُورِ } الباطل ، يعني كم من نعمة أو لذة تلذذنا بها ثم ذهبت وزالت ، فكأن الله سبحانه وتعالى يبين لنا ويرشدنا إلى أن نستفيد من هذه الدنيا فنستعين بها على طاعة الله سبحانه وتعالى ، لم ؟ لأنها ذاهبة وزائلة ، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على أنفسنا وأن يوفقنا لكل خير وأن يجنبنا كل شر