بيَّن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن الأسرة قد تشوبها بعض الشوائب التي تنغص عليها شيئا من حياتها ، وذلك إذا لم تستقم الأمور بين الزوجين ، فمعلوم أن الزوج إذا كره زوجته أو رأى منها خلقا لا يرتضه ، قد يكون له سبيل ، فيما لو كانت زوجته غير مطيعة له ، كانت ناشزة ، مترفعة لا تقوم بواجباتها ، فإن له سبلا ، من بين السبل أن يفارقها ، لكن هذه الآية بيَّنت أن الخلل أو المشكلة تكون من الزوج ، فإذا خافت المرأة وتوقعت أن زوجها نشز عنها { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا } يعني من زوجها { نُشُوزًا } أي ترفعا عما يجب لها عليه من الواجبات { أَوْ إِعْرَاضًا } كأن ترى أنه معرض عنها وأنه يلتفت إلى غيرها ، هنا ينبغي أن تتسامح المرأة وأن تعقد بينها وبين زوجها صلحا ، لأن بقاء بيت الزوجية من أهم ما يكون ، فمن عوامل سلامة المجتمع أن تكون الأمور في الُأسر صافية
فهنا أوضح الله سبحانه وتعالى أن المرأة يمكن أن تعقد صلحا بينها وبين زوجها ، ما هو هذا الصلح ؟ كأن تسقط عن زوجها بعض ما يجب عليه لها ، إما النفقة ، وإما البيتوتة ، وهذا يمكن يحصل إذا كان الرجل مُعددا ، يعني لديه زوجتان فأكثر ، هنا تحصل المشاكل ، لا سيما أن بعض الأزواج يمكن أن يميل ميلا كبيرا إلى إحدى الزوجتين
وفي الغالب يكون الميل للزوجة الثانية ، فيصرف نظره عن زوجته الأولى أو عن إحدى الزوجتين ، هنا الحل يكمن في أن تصالح المرأة زوجها في إسقاط بعض ما يجب عليه لها ، كما فعلت سودة رضي الله عنها وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما رأت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يميل إلى طلاقها ، لأنها كانت كبيرة ، أحبت أن تبقى زوجة له وأن تسقط حقها من البيتوتة لعائشة رضي الله عنها ، فأسقطت ليلتها لعائشة حتى تبقى في ظل وتحت النبي صلى الله عليه وسلم كزوجة ، لكن النفوس جُبلت على الشح
ولذلك قال سبحانه وتعالى مبينا أن الصلح خير ، قال { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فالصلح بين الزوجين خير من الفراق ، وخير في الدنيا والآخرة ، وخير للأولاد ، وخير في المآل ، ثم بيَّن سبحانه وتعالى أن النفوس شحيحة ، تشح بحقها لغيرها { وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ } فالزوج يشح بليلته أو بنفسه عن زوجته الأخرى ، وهي تشح بنصيبها أن تصرفه إلى غيرها
ولذا ندب سبحانه وتعالى فقال { وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } فإذا تفاقمت المشكلة ولم تصلح الأحوال بين الزوجين هنا ما قلنا هما بين أمرين : إما أن يصطلحا ، فتسقط الزوجة بعض حقها من النفقة أو من البيتوتة ، فإن تراضيا على ذلك ، فهذا خير ، لكن إن لم يتراضيا ، قالت المرأة لا يمكن أن أسقط شيئا من حقي ، هنا على الزوج أن يستجيب لها في أداء حقوقها وواجباتها ، فإذا لم تطب نفسه بذلك فليفارقها ، فإما أن تستجيب له فيما يريده من إسقاط بعض حقها ، وإما أن يستجب لها في أداء حقها الذي أوجبه الله عليه ، فإن لم يقم بذلك ، فواجب عليه أن يفارقها ، حتى لا يكون هناك ظلم
ولذلك قال تعالى
{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } ليس المقصود أن الإنسان عاجز عن أن يعدل بين زوجاته – كلا – هو قادر ، وواجب على الزوج أن يعدل بين زوجاته في النفقة وفي الكسوة وفي البيتوتة ، لكن الآية المراد منها محبة القلب ، فمحبة القلب لا يملكها الزوج ، فقد يميل الزوج بقلبه إلى إحدى زوجاته ، ولكن لا يدعوه هذا الميل إلى أن يجور عليها ، ولذلك قال سبحانه وتعالى { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } وهذا واضح وواقع من كثير من المعددين ، إذا تزوج بأخرى ترك الأولى ، لأنه في الغالب يحب الثانية ويرغب فيها ويعطيها أكثر من الأولى ، وكأن الأولى معلقة ، لا هي ذات زوج ولا هي أيِّم ، وهذا خطأ كبير
والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال ( إذا كان الرجل له زوجتان فمال مع إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) يعني علامة لخزيه ، يخزى بين الأشهاد يوم القيامة ، فإذا رُئي ، يقال إن هذا الرجل جار وظلم زوجته في الدنيا ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب عائشة رضي الله عنها حبا كبيرا ، ولكن القسْم ليس واجبا عليه صلى الله عليه وسلم على أصح القولين ، يعني لو شاء صلوات ربي وسلامه عليه أن يعطي واحدة أكثر من الأخرى فله ذلك ، بخلاف غيره ، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام
ولذلك قال الله تعالى { تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا } الأحزاب51 ، ومع ذلك كان يميل مع عائشة رضي الله عنها ، ومع ميله لعائشة في المحبة ، كان صلوات ربي وسلامه عليه يرغب في الكمال ، ما هو الكمال ، مع أن العدل ليس واجبا عليه بين زوجاته ، فكان يقول عليه الصلاة والسلام ( اللهم إن هذا قسمي ) يعني قمت بهذا القسم ( فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) فكان لا يملك عليه الصلاة والسلام محبة القلب ، فإن انسدت الأبواب بين الزوجين ولم يحصل بينهما صلح
لأن بعضا من الأزواج إذا تزوج بأخرى ترك الأولى ، لا يا أخي ، حتى تنجي نفسك من عذاب الله ، تأتي إلى الأخرى وتقول لها يا فلانة أنا لا أرغب أن أبيت معك ، أو أريد أن أسقط الليلة التي علي ، فأنت بين خيارين : إما أن ترضي بهذا الأمر ونصطلح عليه ، وإما أن أفارقك ، أما أن يرميها ويدعها كما يفعل بعض الناس ، يدعها ولا ينفق عليها ولا يقسم لها ، ولم تكن هناك مصالحة بينهما ، هذا خطأ كبير وإثم عظيم
فإن انسدت الأبواب ، الزوجة لا تريد أن تسقط شيئا من حقها ، والزوج لا يريد أن يجعل نصيبا من نفسه لزوجته ، هنا يأتي الفراق ، وإذا أتى الفراق وانسدت الأبواب ، مع أن الفراق لا يرغب فيه الإسلام ، الفراق والطلاق لا يرغب فيهما الإسلام ، بل حجَّم أبوابه ، ولكن قد تتعسر الأمور بين الزوجين ، فإذا تعسرت الأمور لا يظن أحد الزوجين أن الله لن يخلفه خيرا – كلا – ربما تطلق المرأة وتتزوج شخصا آخر تسعد معه ، وربما هو يأخذ زوجة أخرى بعد أن يطلق الأولى ويسعد معها
ولذلك ماذا قال جل وعلا ؟ { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا }
وانظروا – عباد الله – الله سبحانه وتعالى وعد بالغنى لمن أقدم على الزواج ولو كان فقيرا ، كما قال تعالى
{ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} النور32 ، قد يقول الإنسان أنا لا أتحمل نفقة نفسي ، فكيف آتي بامرأة وتلد مني أولاد وأتكلف بنفقتهم وأنا لا أستطيع أن أنفق على نفسي ، الله سبحانه وتعالى وعدك الغنى ، ولذا يُذكر أن ابن مسعود رضي الله عنه لما أتاه رجل فقال إني فقير ، قال تزوج ، قال سبحان الله ! كيف أتزوج ؟ قال تزوج ،
ألم تسمع قول الله تعالى { إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } النور32 ، هذا إذا أقدم على الزواج ، فإذا أقدم الزوجان على الفراق بعد أن انسدت الأبواب ، تأتي الآية التي معنا { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا } فوعد الله سبحانه وتعالى بالغنى في الإقدام على الزواج وبعد الفراق والطلاق بين الزوجين إذا انسدت الأبواب