تقريب الأدلة التي في القواعد المثلى

تقريب الأدلة التي في القواعد المثلى

مشاهدات: 493

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

تقريب الأدلة التي في القواعد المثلى

 لفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

 

أصحاب الفرق الضالة أوردوا على أهل السنة نصوصا وزعموا أن أهل السنة والجماعة أولوها عن ظاهرها ، وأرادوا بذلك إلزام أهل السنة بعدم الإنكار عليهم فيما أولوه من أباطيل .

والجواب عليهم من وجهين ( مجمل ومفصل )

فالجواب المجمل : أن أهل السنة لم يصرفوها عن ظاهرها ، فإن ظاهر الكلام يختلف معناه بحسب السياق ، وقوله تعالى على لسان أخوة يوسف { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ }يوسف82 يعني أهلها ، وفي قوله تعالى قَالُوا { إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ }العنكبوت31 ، أي المساكن ، فالقرية هنا بمعنى المساكن .

ثم لو سلمنا أنهم صرفوها عن ظاهرها فإن لهم في ذلك دليلا من الكتاب والسنة.

 أما الجواب المفصل : فهو كل مثال على حدة :

 

المثال الأول : الذي احتجوا به على أهل السنة والجماعة

حديث ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه فكأنما صافح الله )

والجواب / قال شيخ الإسلام رحمه الله هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والمشهور أنه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ثم لو كان مرفوعا صحيحا فلا إشكال فيه لأنه قيده في الأرض ، ولأنه أتى بـ ( ك ) المشابهة ، أي شبهه بمن يصافح الله ، فلا يكون حينها الحجر من صفات الله عز وجل .

المثال الثاني :

حديث ( قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ) وهذا الحديث عند مسلم .

وفي هذا الحديث إثبات أصابع حقيقية لله عز وجل تليق به ، ولا يلزم أن تكون أصابعه مماسة للقلوب ، فهذا السحاب بين السماء والأرض وهو لا يمس واحدة منهما ، كما لو قلت ” بدر بين مكة والمدينة ” و ” شعبان بين رجب ورمضان ” .

المثال الثالث :

حديث ( إني أجد نفس الرحمن من قِبل اليمن )

وهذا الحديث في المسند وصححه بعض العلماء :

قال شيخ الإسلام رحمه الله ” المراد منه أنهم فتحوا الأمصار فبهم نفَّس الرحمن عن المؤمنين الكربات ، وهذا ظاهر في جهادهم ضد مسيلمة الكذاب .

المثال الرابع :

قوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء }البقرة29 ، لأهل السنة فيها تفسيران :

الأول :

بمعنى ( ارتفع ) وهذا عليه الأكثر ، ورجحه ابن جرير رحمه الله مع عدم العلم في كيفية هذا الارتفاع .

الثاني :

أن معنى استوى هاهنا أي قصد إلى خلقها كما ذكره ابن كثير والبغوي ، وذلك لوجود حرف ( إلى ) فيكون فعل استوى تضمن فعل قصد ، كما في قوله تعالى {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً }الإنسان6 أي يرتوون بها ، وليس فيه صرف للكلام عن ظاهره .

المثال الخامس والسادس :

قوله تعالى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }الحديد4 ، وقوله تعالى { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }المجادلة7 .

فلا يدل على أن الله عز وجل مختلط معهم و حالّ في أمكنتهم ، بل هو محيط بهم علما وتدبيرا ، وغير ذلك من معاني ربوبيته مع علوه واستوائه على عرشه ، لأن لفظ المعية في لغة العرب لمطلق المصاحبة ولا يلزم منها الحلول أو الاختلاط ، ولهذا لا ينفون ذكر المعية مسبوقة بذكر استوائه على عرشه كما في سورة الحديد .

أما الآية الثانية : فقد افتتحها الله عز وجل بالعلم وختمها بالعلم ، فدل على أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده لا أنه  مختلط بهم ، وكما أن المعية مع العلو ثابتة للمخلوق ، فكيف بالخالق عز وجل ، كما في قولك ( ما زلنا نسير والقمر معنا )

ولو فرض امتناع ذلك في حق المخلوق فلا يلزم في حق الخالق لأنه لا يقاس بخلقه جل وعلا ، وهذا فيه الرد على من أنكر العلو وقال إنه حالّ في كل مكان ، كذلك فيه الرد على من قال هو معهم في الأرض مع ثبوت علوه ، فكلا القولين باطل .

المثال السابع والثامن :

( قوله تعالى { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }ق ، وقوله وتعالى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ }الواقعة85 )

حيث فُسَّر القرب هاهنا بقرب الملائكة وليس هو صرف الكلام عن ظاهره لمن تدبره ، لأن القرب في الآية الأولى مسبوقة بقوله {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ }ق17.

والآية الثانية : مقيدة بحال الاحتضار والذي يحضر الميت عند موته الملائكة ، وأيضا مجيء قوله تعالى { وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ }الواقعة85 ، بعد هذه الآية يدل على أن هذه القريب في نفس المكان لا يُبصر ، وهذا يستحيل في حقه تعالى أن يُرى في الدنيا ، وإنما أضاف القرب إليه سبحانه لأن قربهم بأمرهم كما في قوله تعالى { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }القيامة18 ، والمراد به قراءة جبريل وهي بأمر الله سبحانه وتعالى .

المثال التاسع والعاشر :

( قوله تعالى {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا }القمر14 ، وقوله تعالى

{ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }طه39   )

فليس معنى ذلك أن السفينة في عين الله عز وجل تجري ، أو أن موسى تربى فوق عين الله ، بل المراد أن عين الله ترعى وتكلأ نوحا عليه السلام ، وكذلك تربيته لموسى عليه السلام ، ولا يمكن لمن عرف الله عز وجل وقدرته أن يقول بالقول الأول ، فهو جل وعلا بائن من خلقه ، ولا أحد يفهم من قول القائل ( فلان يسير بعيني )  أنه فيها ! لأن هذا سفه فكيف بلغة القرآن وهذا معنى قول بعض السلف في قوله تعالى { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }الطور48 أي ( بمرأى مني) فإذا كان الله يكلأه بعينه لزم أن يراه ولازم المعنى الصحيح صحيح

المثال الحادي عشر:

الحديث القدسي ( ما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأُعيذنه)

فليس معناه أن الله عز وجل أتحد بخلقه بل المراد أن الله يسدد وليه في سمعه وبقية جوارحه حتى يكون عمله كله لله بدليل أنه أثبت عبداً و معبوداً ومحباً ومحبوباً و سائلاً ومسؤولاً ولا يمكن للعاقل أن الخالق الأول الذي لم يكن قبله شيء يكون سمعا وبصراً للمخلوق.

قلــت : وردت رواية قول النبي صلى الله عليه وسلم ( بي يسمع وبي يبصر) وهذا يبين المقصود

المثال الثاني عشر:

الحديث القدسي (من تقرب إلي شبرا ً تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) الحديث فقوله تقربت منه وقوله أتيته هرولة هذا من النصوص الدالة كما قال شيخ الإسلام  رحمه الله على قيام الله بالأفعال الاختيارية بالله وأنه سبحانه فعال لما يريد كما هو الشأن في مجيئه ونزوله إلى السماء الدنيا ، وذهب بعض السلف إلى أن قوله (أتيته هرولة) المراد منه مجازاة للعامل له بأكمل من عمل العامل وأن من صدق بالإقبال على ربه وإن كان بطيئاً جازاه عليه بأكمل من عمله لأن في الحديث قرينه شرعية تدل على ذلك وهي قوله (ومن أتاني يمشي) ومعلوم أن المتقرب إلى الله عز وجل لا يتقرب إليه بالمشي فقط بل بسجود وركوع وغيره ولكن القول الأول أولى .

المثال الثالث عشر :

 قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ }يس71 فالله خلق الأنعام كما خلق غيرها ولم يخلقها بيده وإنما أضاف العمل إلى اليد وهذا معروف في اللغة كما في قوله تعالى : { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ }الشورى30 . إذاً لم يخلقها بيده كما خلق آدم عليه السلام بيده ولو كان المراد خلقه لها بيده لقال خلقت لهم بأيدينا كما قال في آدم} لِمَا خَلَقْتُ بِيَدي {ص(75) فـ(الباء) تدل مباشرة الشي باليد .

المثال الرابع عشر:

قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }الفتح10 وهذه صريحة بأن الصحابة يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمكن لأحد أن يفهم أنهم يبايعون الله نفسه  بمدلول أول الآية في قوله (يُبَايِعُونَكَ) وإنما جعلت مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعة لله عز وجل لأنه المبلغ عنه كمـا أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة له عز وجل وفي هذا تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان لعظم هذه البيعة ، ويده جل وعلا فوق أيديهم ، ولا يلزم من ذلك أن تكون مباشرة لأيديهم ، كما لو قلت ( السماء فوقنا ) مع أنها مباينة لنا بعيدة عنا ، ولا يمكن لأحد أن يقول ” يد الله فوق أيديهم ” هي يد النبي صلى الله عليه وسلم ، بل يمسك بأيديهم كالمصافح لهم .

المثال الخامس عشر :

الحديث القدسي ( يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ، قال كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال أما علمتَ أنك عبدي فلان مرض فلم تعده ، أما أنك لو عدته لوجدتني عنده )

وهو صريح في أن المراد به مرض العبد واستطعام العبد ، لأن الله عز وجل في الحديث فسَّره بذلك ، فهو المتكلم به ، وهو أعلم بمراده من غيره ، وإما أضاف الله عز وجل ذلك إلى نفسه للترغيب وللحث على زيارة المريض وإطعام الطعام ، لقوله تعالى { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ }الحديد11 .

قلت :

وهذه الأمثلة تكون نبراسا لغيرها ، فعند التأمل في النصوص الشرعية لا يحصل فيها تناقض وإنما التناقض في عقول البشر إذ لم يفهم ، وقاعدة أهل السنة والجماعة معروفة وهي إجراء آيات وأحاديث الصفات من غير تحريف ولا تكييف ولا تمثيل .

وبهذا يتم تقريب القواعد المثلى لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله ، والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .