تقريب شرح السنة لعامة الأمة [ صحيح البخاري ] ـ باب كيف كان بدء الوحي ـ الحديث الخامس والسادس

تقريب شرح السنة لعامة الأمة [ صحيح البخاري ] ـ باب كيف كان بدء الوحي ـ الحديث الخامس والسادس

مشاهدات: 61

بسم الله الرحمن الرحيم

تقريب شرح السنة لعامة الأمة ـ صحيح البخاري

الحديث الخامس والحديث السادس

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

28/3/1446هـ

———————————-

 

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلمُ على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد:

فنشرع بعونٍ من الله عز وجل في شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما:

قال البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وهو المِنْقَري البصري الحافظ.

قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، وهو الوضاح بن عبد الله اليشكري البصري أيضًا.

قال: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، الكوفي.

قال: حَدَّثَنَا سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وهو الكوفي.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

فِي قَوْلهِ تعالى: يعني في تفسير قوله تعالى، ومعلوم أن ابن عباس رضي الله عنهما من أعلم الصحابة بتفسير القرآن.

في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً.

المعالجة عمل الشيء الشاق، وهو مأخوذ من مادة العلاج، فإن به مشقة.

 يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ: الذي هو القرآن؛ وهذا دليل على أن القرآن منزل غير مخلوق، شِدَّةً: أي معاناة.

وكَانَ مما يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ: عليه الصلاة والسلام، مما: أصلها (من ما) وهذه قد تأتي بمعنى ربما هنا، وكان ربما يحرك شفتيه هذا هو المعنى.

فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: فأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لك كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا.

وهذا يدل على أن المعلومة التي تُذكر إذا كانت تتعلقُ بوصف؛ يكونُ أبلغ في ثبوتها في الذهن أن تُذكر قولًا وفعلًا، ففَعل ابنُ عباس رضي الله عنهما ما كان يفعله عليه الصلاة والسلام تقريبًا للمعلومة للأمة.

وَقَالَ سَعِيدٌ: وهو سعيد بن جبير

أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رأيتُ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا كما أن الرواية تُنقل باللفظ، أيضًا الرواية تُنقل صورة، فصوَّر ابنُ عباس رضي الله عنهما حالَ شفَتَي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسعيد بن جبير الراوي أيضًا نقل الصورة التي رآها من ابن عباس.

فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ثم فسر الجمع:

قَالَ: جَمْعَهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ، والجمع يدل على الحفظ.

{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ: في تفسيرها: ُفَاسْتَمِعْ له وَأَنْصِتْ: الاستماع هو إقبال القلب على المُسْتَمَع له، والإنصات كذلك هو من حيث المعنى، لكن إذا اجتمعا هنا انظروا مما يدل على عمق تفسير ابن عباس رضي الله عنهما من أنه فسرها بما أمر الله عز وجل به في أواخر سورة الأعراف:

 {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] جمع بين الاستماع والإنصات، {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف: 29] فإذا اجتمعتا دل على أن الاستماع يكون بحضور القلب والأذن سماعًا، والإنصات يكون بعدم كثرة الحركة، يعني نقول: والإنصات يتعلق بالجوارح فلا تشتغل، فقد يستمع الإنسان، ولكن يشتغل بجوارحه.

ومما يدل على ذلك {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 29] ولذلك ماذا قال عز وجل؟

{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ} [الأنبياء: 2] لكن هنا استماع ليس استماع من أجل منفعة، أو فائدة، وإنما هو استماع إما من أجل إنكاره، وإما لأن عِظَم القرآن يجبرهم على الاستماع.

قال: فَاسْتَمِعْ له وَأَنْصِتْ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَينا بَيانَهُ} [القيامة: ١٩]

ابن عباس رضي الله عنهما فسَّر {ثُمَّ إِنَّ عَلَينا بَيانَهُ}، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ: يعني عليك بالاستماع والإنصات، ثم إنك ستَقْرَأَهُ.

والتفسيرُ الآخر لهذه الآية، { ثُمَّ إِنَّ عَلَينا بَيانَهُ}، البيان هو الإيضاح يعني التفسير، لكن والعلم عند الله يبدو لي، من أنه لمَا فسر البيان بالقراءة، من أجل أن القراءة الحقيقية النافعة هي ما كان بحضور قلب يُفهم منه ما يُقرأ، ولذلك أُمرنا بتدبر هذا القرآن في آيات كثيرة.

” فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ “

فموافقة وتنفيذ أمر الله عز وجل، فإنه خير للعبد، امتثل عليه الصلاة والسلام، فما الذي حصل له إذا استمع؟ قال: فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قْرَأَ.

وهذا وعدٌ من الله عز وجل له، ولذلك قال عز وجل:

{وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114] وبهذا ينتهي هذا الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحديث الذي يليه هو أيضًا لابن عباس رضي الله عنهما:

قال البخاري: حدثنا عَبْدَانُ، واسمه عبد الله بن عثمان.

قال أخبرنا عبد اللَّهِ، هو عبد الله بن المبارك.

قال أخبرنا يُونُسُ، يونس بن يزيد الأيلي.

عن الزُّهْرِيِّ وقد مر معنا ابن شهاب الزهري رحمه الله.

[ح : ] قال البخاري: [ح : ] الأشهر من أن هذا الحرف يؤتى به اختصارًا لكلمة تحويل السند، فالبخاري رحمه الله حدَّث بالسند الأول عن شيخه عبْدان، فهو أراد أن يبين أن الحديث وَصَلَه من طريق آخر، وصل إلى البخاري من طريق شيخ آخر وهو بشر بن محمد.

ولذلك قال: وحدثنا بِشْرُ بن مُحَمَّدٍ، المَروَزَي.

قال: أخبرنا عبد اللَّهِ، من؟

ابن المبارك، فدل هذا على أن ابن المبارك رواه عنه عبدان وبشر بن محمد.

قال أخبرنا يُونُسُ، يونس بن يزيد الأيلي السابق ذِكْرُه.

وَمَعْمَرٌ، وهو معمر بن راشد رحمه الله اليماني.

قال: أخبرنا يُونُسُ وَمَعْمَرٌ عن الزُّهْرِيِّ، وهو ابن شهاب الزهري.

نَحْوَهُ أي: نحو الحديث المذكور هنا، فيكون من رواه عن الزهري يونس ومَعمَر.

قال: أخبرني عُبَيْدُ اللَّهِ بن عبد اللَّهِ، هو ابن عُتبة بن مسعود الهذلي المدني.

عن ابن عَبَّاسٍ، عبد الله بن عباس.

قال: “كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ الناس”: الحديث السابق وَضَّح فيه معاناة الرسول عليه الصلاة والسلام من التنزيل، ثم وُعِد بأنه سيقرأ القرآن، فلا ينساه وحصل له ذلك.

هنا بيّن فيما مضى من أن جبريل يأتيه، فإذا انطلق جبريل قرأه كما قرأه جبريل، هنا بيانٌ للزمن أو للوقت الذي يأتي فيه جبريل النبيَّ عليه الصلاة والسلام في مدارسته للقرآن، ليس فيما يتعلق بما في الحديث السابق فقط، لا، بل بعد حين يأتيه، فدل هذا على ماذا؟ كما سيأتي-

ج/ على فضيلة رمضان.

قال: “كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ الناس” الجود هو سعة البذل والعطاء، كان أجودَ الناس لا يضاهى عليه الصلاة والسلام بالجود والكرم.

“وكان أَجْوَدُ” فالجود صفةٌ له عليه الصلاة والسلام، لكن في المواسم يزداد الإنسان من الخير، ولا سيما في رمضان، ولذلك في كل الأيام هو جواد، لكن “وكان أَجْوَدُ ما يَكُونُ في رَمَضَانَ” كان أجودَ: ضُبطت بالنصب على أنها خبر كان، وضبطت بالرفع وهو الأشهر

“وكان أَجْوَدُ ما يَكُونُ في رَمَضَانَ” بعضهم قال: بالرفع أجودُ يعني هي اسم كان، أي كان أجودُ ما يكون في رمضان هذا هو الخبر، والذي يظهر لي من حيث الرواية: من أن كان هنا زائدة، يعني وأجود ما يكون في رمضان لمَ؟

هذه فائدة تتبع الروايات، ورد عند البخاري كما سيأتي معنا، وأجودُ ما يكون في رمضان- بدون كان، فيكون أجودُ خبر لمبتدأ، يعني وهو عليه الصلاة والسلام أجودُ ما يكون في رمضان.

“وكان أَجْوَدُ ما يَكُونُ في رَمَضَانَ حين يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ” سبحان الله لم يقل وكان أجود ما يكون حين يلقاه جبريل، أتى برمضان، فيزدادُ جُودُه عليه الصلاة والسلام في رمضان لأنه موسم، وحين لُقِيِّهِ لجبريل مما يدل على أن صحبة الأخيار تزيد الإنسان في الطاعة.

“حين يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وكان يَلْقَاهُ في كل لَيْلَةٍ من رَمَضَانَ” مما يدل على فضيلة مدارسة القرآن في رمضان، ولا سيما في الليل، لأنه قال: “وكان يَلْقَاهُ في كل لَيْلَةٍ من رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ” وهذا يدل على ماذا؟

يدل من حيث المعنى العام أن أقل ما يقوم به المسلمُ في رمضان من حيث التلاوة أن يختمه في شهر رمضان ولو مرة واحدة، لأنه كان يأتيه في كل ليلة فيدارسه القرآن يعني كل القرآن.

“وكان يَلْقَاهُ في كل لَيْلَةٍ من رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ” وفي هذا فضيلة مدارسة القرآن، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: “وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ….” الحديث.

قال: “فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ” بجميع أنواعه من البذل والعطاء، بالمال، بالكلمة، بالشفاعة، بالعلم.

“أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ من الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ” أي: المطلَقَة، والريح إذا اشتدت وأرسلت {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] كانت سريعة، فدل هذا على المسارعة منه عليه الصلاة والسلام إلى فعل الخير والجود، ويدل هذا أيضًا على أن أثر الصحبة الطيبة والمدارسَة للقرآن يبقى أثرها بعد الافتراق.

 وبهذا ينتهي هذا الحديث.